مقالات

“علامات الفصول في التراث الشعبي” د. قاسم محمد كوفحي – الإمارات

 

د. قاسم محمد كوفحي

 

لطالما كان الإنسان في المجتمعات التقليدية مراقبًا للطبيعة، ليس من باب الفضول فحسب، بل لتفهم الفصول والتنبؤ بالظروف المناخية، وضمان التكيف مع تغيرات الطقس والحياة اليومية. الأمثال الشعبية هي مرآة هذه الملاحظة الدقيقة، وهي تعكس تجربة تراكمت عبر أجيال من الرصد والعيش مع الطبيعة.

في الأردن، يقول الناس: “أيلول ذيله مبلول”، في إشارة إلى قرب موسم الشتاء. هذا التعبير الشعبي ليس مجرد وصف للأمطار الأخيرة في سبتمبر، بل هو انعكاس لحكمة اجتماعية متجذرة في معرفة التغيرات المناخية، وإشارة ضمنية إلى أن الأرض على موعد مع البرد، وأن الاستعداد للزراعة أو تحضير المستلزمات الشتوية أمر ضروري. وفي مناطق أخرى من الأردن نجد أمثالًا مشابهة، مثل: “إذا بَرَد العَين، جهّز الصوف”، في إشارة إلى البرودة التي تبدأ في أواخر الخريف.

أما في الخليج، فالأمثال تعتمد غالبًا على العلامات الفلكية. من أشهرها: “إذا طلع نجم سهيل، برد الليل”، وهي عبارة تربط بين ظهور النجم وتغير الطقس، فمع هذا الحدث السماوي تبدأ ليالي الخريف الباردة، وتتزايد الحاجة للتدفئة. ومن الأمثال الأخرى في الإمارات وسلطنة عمان: “سهيل ما طل إلا والبرد نزل”، لتؤكد على ارتباط الفلك بالتقويم الزراعي والمناخي.

تدل هذه الأمثال على اختلاف الوسائل، لكنها تشترك في الهدف نفسه: مساعدة الإنسان على التنبؤ بالمستقبل القريب للطبيعة، سواء لأغراض الزراعة، أو الرعي، أو حتى الأنشطة الاجتماعية والتجمعات. كما أنها تكشف عن حساسية الإنسان تجاه التغيرات البيئية، وعن قدرته على التكيّف معها قبل ظهور أدوات القياس الحديثة والتكنولوجيا الرقمية.

من منظور ثقافي، يمكننا اعتبار هذه الأمثال وثائق اجتماعية تحمل رؤية الإنسان للطبيعة وعلاقته بها. فهي تجمع بين العلم المبسط والخبرة اليومية، وتؤكد على أن اللغة الشعبية ليست مجرد كلام عابر، بل نظام معرفي متكامل ينقل خبرة الأجيال، ويعكس الروابط العميقة بين الإنسان والبيئة، بين الزمن والفصول.

إن دراسة هذه الأمثال عبر مناطق مختلفة، من الأردن إلى الخليج، تكشف أيضًا عن التنوع الثقافي في الطريقة التي يراقب بها الإنسان الطبيعة: في الأردن، الأرض والمطر هما العلامة، بينما في الخليج السماء والنجوم هما المعيار. وعلى الرغم من هذا الاختلاف، فإن النتيجة واحدة: تعزيز قدرة المجتمعات على التكيف، وحفظ التقاليد، وبناء الوعي البيئي والثقافي.

في النهاية، هذه الأمثال ليست مجرد تراث شفهي، بل أدوات معرفية تجمع بين التنبؤ بالطبيعة والحكمة الاجتماعية، وتشكّل حلقة وصل بين الإنسان والفصول الأربعة. كل “ذيل مبلول” أو نجم سهيل يلمع في الأفق يحمل رسالة واضحة: الطبيعة تُعلمنا، والفلك والأرض يحكيان قصصًا مترابطة عن دورة الحياة، وعن ثقافة الإنسان التي تنصهر فيها التجربة مع اللغة والحكمة الشعبية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى