مقالات

   دراسات قرآنية ( 29) د . أحمد الزبيدي         –         الإمارات

"الحجج الناهضة في تهافت أباطيل الرافضة"

د. أحمد الزبيدي

سُميت هذه الفرقة “الرافضة” لرفض أفرادها زيد بن علي بن الحسين -رضي الله عنه-، حينما جاؤوا يسألوه عن(الشيخين) أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فقال: ما سمعت أبي يقول فيهما إلا خيرا، وقد كانا وزيري جدي، فلما تولوا عنه قال لهم: رفضتموني!؟ فحينئذٍ سماهم “الرافضة”.

من أقوالهم

لعل أشهر أقوالهم وأخطرها؛ قول قَوْم منهم : “إِنَّ هَذَا الَّذِي عِنْدَنَا لَيْسَ هُوَ الْقُرْآنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بَلْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ”.

وقد ذهب قدماؤهم إلى القول بـ (البداء) وجوازه على الله-سبحانه- وهو: أَنْ يَعْتَقِدَ شَيْئًا ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ، تمسكاً بِقَوْلِهِ: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ}.

وهو قول باطل مرذول؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ -سبحانه- مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ دُخُولُ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ فِيهِ مُحَالًا.

ولهم رزايا وخطايا كثيرة ننزه المقال عنها، حاشا ما تسرب منها إلى بعض جهلة المسلمين، مثل قولهم: بأفضلية علي، وأحقيته بالخلافة من أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، تمسكاً ببعض الآيات وبعض الأحاديث، وهي -مع التحقيق والتدقيق- تثبت عكس ذلك تمامًا.

ذكر صاحب “الفصلُ بين الملل والنحل”ابن حزم- (ج1 :108 ) قول بعض الغالية منهم :”أَن الله تَعَالَى بعث جِبْرِيل إِلَى عليٍّ فَأَخْطَأَ جِبْرِيل وأتى إِلَى مُحَمَّد “. وأضاف ابن حزم مذاهبهم في علي كرم الله وجهه. قال الإمام ابن حزم في المرجع السابق:”عَليّ بن أبي طَالب عِنْد أَكْثَرهم إِلَه خَالق، وَعند بَعضهم نَبِي نَاطِق، وَعند سَائِرهمْ إِمَام مَعْصُوم”.

 ونحن في هذا المقال نناقش أخفهم غلوا، وأقلهم جهلا، وهم أصحاب القول الأخير، حيث تمسكوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ }. [المائدة: 54]

ومَعْنَى الْآيَةِ: أيها المؤمنون: مَنْ يرتدّ مِنْكُمُ عَنْ دِينِهِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّه سبحانه وتَعَالَى يَأْتِي بِأَقْوَامٍ آخَرِينَ يَنْصُرُونَ هَذَا الدِّينَ.

وَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه : “… هَذِهِ الْآيَةُ إِخْبَار عن الغيبِ، وَقَدْ وَقَعَ الْمُخْبَرُ عَلَى وَفْقِهِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا”.

وقال الإمام الزمخشري :” وهو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها”.

وقد اخْتَلَف المفسرون فِي قوله تعالى {فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ.. } ، أُولَئِكَ الْقَوْمَ مَنْ هُمْ؟

فاتفق عَلِيُّ -كرم الله وجهه-، وَالْحَسَنُ، وقتادة، والضحاك وابن جريح على أنهم: أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : “مَاتَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، وَاشْتَهَرَ النِّفَاقُ، وَنَزَلَ بِأَبِي مَا لَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لَهَاضَهَا” يعني: لكسَرَها.

وقد جاء في “الْكَشَّافِ” (ج1 : 644) ما يفسر قول عائشة رضي الله عنها:        كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة: ثلاث في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: بنو مدلج؛ ورئيسهم ذو الخمار، وهو الأسود العنسي، وكان كاهنًا تنبأ باليمن واستولى على بلاده، وأخرج عمال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فكتب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه اللَّه على يدي فيروز الديلمي ببيته فقتله وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بقتله ليلة قتل، فسرّ المسلمون، وقُبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من الغد، وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول.

وبنو حنيفة قوم مسيلمة؛ الذي تنبأ، وكتب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: من مسيلمة رسول اللَّه إلى محمدٍ رسول اللَّه، أمّا بعد: فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، فأجاب عليه الصلاة والسلام: «من محمد رسول اللَّه إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد، فإن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين»، فحاربه أبو بكر رضي اللَّه عنه بجنود المسلمين، وقُتل على يدي وحشي قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية [يعني حمزة] وشرّ الناس في الإسلام [يعني: مسيلمة].

وبنو أسدٍ قوم طليحة بن خويلدٍ الذي تنبأ فبعث إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه.

وسبعٌ في عهد أبي بكر رضي اللَّه عنه: فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة، التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب، وفيها يقول أبو العلاء المعرى-رحمهالله- في كتاب “استغفر واستغفري”:

أمَّتْ سجَاحٌ وَوَالاهَا مُسَيْلِمَةٌ

كَذَّابَةٌ فِى بَنِى الدُّنْيَا وَكَذَّابُ

وكندة قوم الأشعث بن قيسٍ، وبنو بكر بن وائلٍ بالبحرين قوم الحطيم بن زيدٍ، وكفى اللَّه أمرهم على يد أبي بكر رضي اللَّه عنه. وفرقةٌ واحدةٌ في عهد عمر رضي اللَّه عنه: غسان قوم جبلة ابن الأيهم نَصّرته اللطمة وسيرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه”.

وتشبث قوم بأنها نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ -كرم الله وجهه- لأمرين:

 الْأَوَّلُ: ما جاء في صحيح البخاري (4209): أَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام أعطى الراية علياّ يوم خيبر وكان قد قَالَ: “لأدفعنّ الرّاية غدا إِلَى رَجُل يُحب اللَّه ورسوله وَيحبّه اللَّه ورسوله”، وهذا هو الصفة المذكورة فِي الْآيَةِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عقب هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ}. [الْمَائِدَةِ: 55] وَقالوا: هَذِهِ الْآيَةُ فِي حَقِّ عَلِيٍّ، فَكَانَ الْأَوْلَى جَعْلُ مَا قَبْلَهَا أَيْضًا فِي حَقِّهِ.

وقد رأى الإمام الفخر الرازي وهو من أشد الناس حبا لعلي، وغالبا ما يذيل اسمه بعبارة :”عليه السلام”، رأى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ “الرافضة”، ومَذْهَبِهِمْ: أَنَّ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ كُلَّهُمْ كَفَرُوا وَصَارُوا مُرْتَدِّينَ، لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا النَّصَّ الْجَلِيَّ عَلَى إمامة علي، فَنَقُولُ: «لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَاءَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْمٍ يُحَارِبُهُمْ وَيَقْهَرُهُمْ وَيَرُدُّهُمْ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ» بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ..} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَكَلِمَةُ (مَنْ) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ لِلْعُمُومِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ مُرْتَدًّا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ اللَّه يَأْتِي بِقَوْمٍ يَقْهَرُهُمْ وَيَرُدُّهُمْ وَيُبْطِلُ شَوْكَتَهُمْ، فَلَوْ كَانَ الَّذِينَ نَصَّبوا  أبات بكر الصدّيق للخلافة لَوَجَبَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنْ يَأْتِيَ اللَّه بِقَوْمٍ يَقْهَرُهُمْ وَيُبْطِلُ مَذْهَبَهُمْ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْأَمْرُ بِالضِّدِّ فَإِنَّ “الرَّوَافِضَ” هُمُ الْمَقْهُورُونَ الْمَمْنُوعُونَ عَنْ إِظْهَارِ مَقَالَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ أَبَدًا مُنْذُ كَانُوا، عَلِمْنَا فَسَادَ مَقَالَتِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ لِمَنْ أَنْصَفَ، وقد استنبط رحمه الله بدقة نظره من هذه الآية أنها نزلت فِي حَقِّ أبي بكر الصدّيق لأمرين:

الأول: أَنَّها مُخْتَصَّةٌ بِمُحَارَبَةِ المرتدّين، وأَبو بَكْرٍ هو الَّذِي تولى ذلك، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ، لِأَنَّهُ توفي قبلها، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ}، وسوف للاستقبال، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ غَيْرَ مَوْجُودِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذَا الْخِطَابِ، فَإِنْ قِيلَ: هذا لازم عليكم؛ لأَنّ أَبا بكر رضي اللَّه عنه كَانَ مَوْجُودا فِي ذلك الوقت، قُلْنَا: إنَّ الْقَوْمَ الَذين قَاتل بهمْ أَبو بكر أَهْلَ الرِّدَّةِ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي الْحَالِ.

 وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّه بِقَوْمٍ قَادِرِينَ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ هَذَا الْحِرَابِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا أَنَّهُ مَا كَانَ مُسْتَقِلًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْحِرَابِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَزَالَ السُّؤَالُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَا يُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ عَلِيٌّ ، لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ قِتَالٌ مَعَ أَهْلِ الرِّدَّةِ، فَكَيْفَ تُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالُوا: بَلْ كَانَ قِتَالُهُ مَعَ أَهْلِ الرِّدَّةِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَازَعَهُ فِي الْإِمَامَةِ كَانَ مُرْتَدًّا، قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لأَنَّ اسْمَ الْمُرْتَدِّ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ تَارِكًا لِلشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْقَوْمُ الَّذِينَ نَازَعُوا عَلِيًّا مَا كَانُوا كَذَلِكَ ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ إِنَّمَا يُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَعَلِيٌّ نفسه لَمْ يُسَمِّهِمْ ألبتة بِالْمُرْتَدِّينَ، فَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ الرَّوَافِضُ كذب عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى عَلِيٍّ أَيْضًا، ولَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ نَازَعَهُ فِي الْإِمَامَةِ مُرْتَدًّا لَزِمَ أبا بَكْرٍ وقَوْمِهِ أَنْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ -بِحُكْمِ ظَاهِرِ الْآيَة – أَنْ يأْتي اللَّه بِقَوْم يَرُدُّونَهُمْ إِلَى الدّين الصَّحيح، وَلَمَّا تعذَّر عَلِمْنَا أَنَّ مُنَازَعَته فِي الْإِمَامَةِ لَا تَكُونُ ردَّةً، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ ردَّةً لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عَلِيّ، لِأَنَّهَا نَازلَةٌ فيمَنْ يُحَاربُ الْمُرْتَدّينَ، وَلَا يُمْكنُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا نَازلَةٌ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ أَوْ فِي أَهْلِ فَارِسَ-كما قال بعض المفسرين- لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ مُحَارَبَةٌ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: اتَّفَقَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْمُحَارَبَةُ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا رَعِيَّةً وَأَتْبَاعًا ، وَكَانَ الرَّئِيسُ الْمُطَاعُ الْآمِرُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى مَنْ كَانَ أَصْلًا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَرَئِيسًا مُطَاعًا فِيهَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الرَّعِيَّةِ وَالْأَتْبَاعِ ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَبِي بَكْرٍ.

وهَبْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ قَدْ حَارَبَ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَكِنَّ مُحَارَبَةَ أَبِي بَكْرٍ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ كَانَتْ أَعْلَى حَالًا، وَأَكْثَرَ مَوْقِعًا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ مُحَارَبَةِ عَلِيٍّ مَعَ مَنْ خَالَفَهُ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ اضْطَرَبَتِ الْأَعْرَابُ وَتَمَرَّدُوا، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الَّذِي قَهَرَ مُسَيْلِمَةَ وَطُلَيْحَةَ، وَهُوَ الَّذِي حَارَبَ الطَّوَائِفَ السَّبْعَةَ الْمُرْتَدِّينَ، وَهُوَ الَّذِي حَارَبَ مَانِعِيِ الزَّكَاةِ، وبفعله ذَلِكَ اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ، وَعَظُمَتْ شَوْكَتُهُ وَانْبَسَطَتْ دَوْلَتُهُ.

ولَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى عَلِيٍّ -رضي الله عنه- كَانَ الْإِسْلَامُ قَدِ انْبَسَطَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وقهر مُلُوكُ الدُّنْيَا ، وظهر الْإِسْلَامُ عَلَى الدين كله، فَثَبَتَ أَنَّ مُحَارَبَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَعْظَمُ تَأْثِيرًا فِي نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ مُحَارَبَةِ عَلِيٍّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْظِيمُ قَوْمٍ يَسْعَوْنَ فِي تَقْوِيَةِ الدِّينِ وَنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ.

استنباط إمامة أبي بكر الصدّيق

وقد دلّت هَذِهِ الْآيَةِ {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ..} عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ، لأنه تعالى وَصَفَ الَّذِينَ أَرَادَهُمْ فيها بِصِفَاتٍ:

 أَوَّلُهَا: أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ تعالى : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، وَصْفٌ لِأَبِي بَكْرٍ، وَمَنْ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي إِمَامَتِهِ.

 ثَانِيهَا: قَوْلُهُ تعالى : {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ} ،وَهُوَ صفة أبي بكر أيضا الدليل الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: ” أرْأَف أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ”. صحيح الجامع (868)، فَكَانَ مَوْصُوفًا بِالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَبِالشِّدَّةِ على الْكُفَّارِ، أَلَا تَرَى أَنَّه فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ كَيْفَ كَانَ يناصره ويَذُبُّ عَنه ، وَكَيْفَ كَانَ يُلَازِمُهُ وَيَخْدِمُهُ، وَمَا كَانَ يُبَالِي بِأَحَدٍ مِنْ جَبَابِرَةِ الْكُفَّارِ وَشَيَاطِينِهِمْ، أما في  وَقْتَ خِلَافَتِهِ فهو لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ، وَأَصَرَّ عَلَى محاربة مَانِعِيِ الزَّكَاةِ حَتَّى خَرَجَ إِلَى قِتَالِهم وَحْدَهُ، حَتَّى جَاءَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ وَمَنَعُوهُ مِنَ الذَّهَابِ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَ بَعْثُ الْعَسْكَرِ إِلَيْهِمُ انْهَزَمُوا وَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ مَبْدَأً لِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ }، لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِ.

ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: {يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ،فَهَذَا مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، إِلَّا أَنَّ حَظَّ أَبِي بَكْرٍ فِيهِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُجَاهَدَةَ أَبِي بَكْرٍ مَعَ الْكُفَّارِ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ، وثم الْإِسْلَامُ ضعيفا، وَالْكُفْرُ فِي عنفوانه، فكَانَ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ بِمِقْدَارِ قُدْرَتِهِ، وَيَذُبُّ عَنْ رَسُولِ اللَّه بِغَايَةِ وُسْعِهِ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّهُ إِنَّمَا شَرَعَ فِي الْجِهَادِ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْإِسْلَامُ قَوِيًّا، فَثَبَتَ أَنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فِي الزَّمَانِ، فَكَانَ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ }. [الْحَدِيدِ: 10].

 الثَّانِي: أَنَّ جِهَادَه كَانَ فِي وَقْتِ ضَعْفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِهَادَ عَلِيٍّ كَانَ فِي وَقْتِ الْقُوَّةِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ } ، وَهَذَا لَائِقٌ بِأَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ }. [النُّورِ: 22]، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَبِي بَكْرٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِأَبِي بَكْرٍ أَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِيه ، وإذا كان كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ له، وحينئذٍ وَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ إِمَامَتِهِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ إِمَامَتُهُ بَاطِلَةً لَمَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لَائِقَةً بِهِ.

وقد تشبث “الرافضة” بآيات وأحاديث أخرى نقف معها في المقال الآتي إن شاء الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى