مقالات

الفرق بين الإسراف والتبذير .. رؤية لغوية وتدبّرية في ضوء النص القرآني م. سفيان دياب – تركيا

 

سفيان دياب

 

إنّ القرآن الكريم هو أعظم نصّ لغويّ عرفته البشرية، إذ جاءت كلّ كلمة فيه بقدرٍ محكمٍ وموضعٍ مقصودٍ لا يخرج عن ميزان المعنى. ومن أبرز ما يُظهر دقّة البيان القرآني تمييزه بين الألفاظ المتقاربة في ظاهرها والمتمايزة في جوهرها، ككلمتَيْ ((الإسراف والتبذير.))
ولأنّ الفهم السطحي قد يجمع بينهما في معنى واحد، فإنّ التأمل اللغوي والتدبّر في السياق القرآني يكشف عن فوارق دقيقة تحمل دلالات روحية واقتصادية وأخلاقية عميقة.

أولاً:

معنى الإسراف في ضوء اللغة والسياق القرآني

 جاء لفظ “الإسراف” من الجذر العربي (سَرَفَ)، وهو يدلّ على تجاوز الحدّ وتخطّي الاعتدال. ويُستخدم غالبًا في مواضع الإنفاق أو الاستهلاك المادي. فالمُسرف هو الذي يتعدّى القصد، سواء في المباح أو غيره.
قال تعالى:
﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾
(الأعراف: 31)
جاء النهي هنا بعد الإباحة، لبيان أن الإسراف لا يعني الحرمة في أصل الفعل، بل المبالغة فيه. فالمسرف هو من يتجاوز الحاجة الطبيعية إلى حدّ الإفراط، حتى في ما أُبيح له، وهذا الاستعمال القرآني ينسجم مع قوله تعالى في موضع آخر: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأنعام: 141)
فالإسراف هو زيادة الكمّ بلا حكمة ولا تقدير، وهو انحراف عن ميزان “الوسطية” التي أرادها الله تعالى لعباده في كلّ شأن.

ثانيًا:

معنى “التبذير” من حيث الجذر والمجاز اللغوي

أما التبذير، فهو مأخوذ من الجذر (بَذَرَ)، الذي تدور معانيه حول النثر والتفريق، ومنه اشتُقّت كلمة “البذرة” و”البِذار”. والبَذْرُ في أصله نثرُ الحبوب في الأرض، لا دفعةً واحدة، بل متفرقًا.
وهذه الدلالة اللغوية تمنح الكلمة معنى خاصًّا في القرآن يتجاوز التفسير الشائع الذي يربطها  بالإنفاق في الحرام وهي ليست عملية إنفاق بالمرة. قال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ۝ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ (الإسراء: 26–27)
وقد فسر الإمام ابن كثير – رحمه الله – الآية بقوله: «التبذير هو الإنفاق في غير حق»، ونقل عن ابن مسعود قوله: «التبذير: الإنفاق في غير حق»، وعن قتادة: «هو النفقة في معصية الله وفي الفساد» [1].

ثالثًا:

التدبر اللغوي البديل

 على الرغم من وجاهة هذه التفاسير، إلا أنّ التدبر في سياق الآية وجذرها اللغوي يفتح بابًا لفهمٍ مغايرٍ وأعمق.
فالآية تبدأ بأمرٍ إلهيٍّ صريح: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ﴾، أي بإعطاء الحقوق لأصحابها، ثمّ تتبعها مباشرةً بالنهي عن التبذير.
و هذا التتابع يوحي بأنّ المقصود ليس الإنفاق أبدا أو المبالغة فيه  بل النهي عن تفريق الحقوق وتقسيطها أو تأخيرها، كما تُبذر الحبوب متفرقة في الأرض.فـ “التبذير” في هذا التدبر هو نثر الحقوق وتأجيلها وتجزئتها، حتى تُعطى شيئًا فشيئًا في غير وقتها أو بغير كمالها، وهذا المعنى يتفق مع طبيعة الجذر اللغوي “بذر”، الذي يحمل فكرة التفرقة والتجزئة لا الكثرة فقط.
فالمبذّر في هذا السياق ليس من يُنفق كثيرًا، بل من يُفرّق الحقوق ويُؤديها منقوصة أو متقطّعة، وكأنّها حبوب مبثوثة في أرض غير مهيّأة للإنبات.

رابعا

 البعد القيمي في الجمع بين النهيين

يُرسي القرآن من خلال الجمع بين الإسراف والتبذير ميزانًا دقيقًا في التعامل مع المال:
ف(الإسراف) مفسدة في أخذ الإنسان لنصيبه من الدنيا.
و(التبذير) مفسدة في إعطائه لحقوق غيره، فالمُسرف يتجاوز حدّ الحاجة في الاستهلاك، والمبذّر يُفرّق الحقوق في العطاء. وكلاهما يخرجان عن الوسطية التي قال الله فيها:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾  (الفرقان: 67)
وهكذا تتجلّى العبادتان المتكاملتان:
عبادة الاقتصاد في الاستهلاك (ترك الإسراف).
وعبادة الجود في الإعطاء الكامل (ترك التبذير).

يتضح من هذا التدبر أن الفرق بين الإسراف والتبذير ليس مجرد فرقٍ في درجة الإنفاق، بل في نوع الخلل في التصرّف؛ فالإسراف تجاوزٌ في الكمّ، والتبذير تفرقةٌ في الكيف، وما بين الكثرة والتقطيع يضيع ميزان العدل الذي أقامه الله في قوله تعالى:
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾
إنها دعوة قرآنية إلى التوازن:
هذا والله أجل وأعلم ،فإن أصبت فمن الله رب العالمين، وإن أخطأت فمن نفسي الخاطئة ومن الشيطان الرجيم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى