مقالات

وقفات مع المتنبي (54) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

الشماتة في شعر أبي الطيِّب

د. أحمد الزبيدي

 

قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “معجز أحمد” (ج:1ص 133) :

يا مَنْ نُعِيْتُ على بُعْدٍ بِمَجْلِسِهِ

كُلٌّ بما زَعَمَ النَّاعونَ مُرْتَهَنُ

نعي الرجل: الإخبار بموته، والمرتهن بالشيء: الموقوف عليه، المتخذ مقام الرهن عنه.

فيقول، وهو يريد “سيف الدولة”: يا من نعيت بمجلسه، على بعد داري من داره، وانتزاح محلي عن محله، كل واحد منا مرتهن بما ذكره الناعي له من الموت الذي لا بد منه، ولا محيص لأحد عنه، والشمات في ذلك ساقط، والحرص فيه من المتربصين زائد، والناس في الموت سواء.

قال أمية بن أبي الصلت :

من لم يمت عبطة يمت هرمًا

للموت كأس وإن المرء ذائقها

وقال آخر :

الموت باب وكل الناس داخله

فليت شعري بعد الباب ما الدار

وللمتنبي أيضًا :

وعرَّضَ أنّا شامتون بموته

وإلا فزارت عارضيه القواضب

يقول: عرض في مرثيته بشماتتنا، أي: أنا شامتون بموته.

الشماتة لغة:

مصدر قولهم: شمت به يشمت، وهو مأخوذ من مادّة (ش م ت) الّتي تدلّ على فرح ببليّة العدوّ، جاء  في “لّسان العرب” لابن منظور : الشّماتة: فرح العدوّ (أي ببليّة عدوّه) ، والفعل منها شمت به (بالكسر) يشمت شماتة وشماتًا إذا فرح بمصيبة نزلت به، وقيل الشّمات: الخيبة، ويعدّى بالهمزة، فيقال: أشمته الله به، وفي التنزيل: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ}. [الأعراف/ 150] .

قال حجة الإسلام الغزالي: ” الشماتة: هي الفَرَحُ بالشَّرِّ الواصِلِ إلى غيرِ المُستَحِقِّ، ممَّن يَعرِفُه الشَّامِتُ”، وقد عرفها العلامة ابنُ عاشورٍ بقوله: (هي: سُرورُ النَّفسِ بما يصيبُ غيرَها من الأضرارِ).

قال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى: {لا تشمت بي الأعداء}، ( ج:7 ص185): أي لا تسرّهم، وهي محرّمة منهيّ عنها، وهي في قراءة مجاهد: أي لا تفعل بي ما تشمت من أجله الأعداء، أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي  . وقيل المعنى على قراءة الجماعة: لا تسرّهم بما تفعل بي فأكون ملوما منهم ومنك، قال الشّاعر:

والموت دون شماتة الأعداء

وشمّته الله: خيّبه. ويقال: خرج القوم في غزاة، فقفلوا شماتى ومتشمّتين، قال: والتّشمّت أن يرجعوا خائبين، لم يغنموا.

يقال: رجع القوم شِماتَا من متوجّههم، بالكسر: أي خائبين.

وتشميت العاطس: الدّعاء له. وشمّت العاطس، وسمّت عليه بالسين : دعا له أن لا يكون في حال يشمّت به فيها، والسّين لغة عن يعقوب. كأنّه دعاء للعاطس بالثّبات على طاعة الله، وقيل: معناه أبعدك الله عن الشّماتة وجنّبك ما يشمت به عليك، ويقال أيضًا: شمّت الرّجل إذا نسب إلى الخيبة  .

عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من جهد البلاء، ودرك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.

وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تُظهِر الشّماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك».

وقد أكثر الشعراء الحديث عن الشماتة والشامتين، قال الفرزدق :

 فقل للشّامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشّامتون كما لقينا

الشامت: الفَرِح بمصيبة غيره وفي المثل “الشِّمات لؤم”

والمعنى: قل لمن شمت بنا -فيما رأى من أثر الزمان فينا : انتبهوا من رقدتكم، واصحوا من شماتتكم، فستلقون كما لقينا، وتمتحنون كما امتحنا؛ وإنما المال والأهلون ودائع ، ولا بد يومًا أن ترد الودائع.

وكانت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-  تُنشِد هذا الشعر:

إذا ما الدهر جرّ على أناس

حوادثه أناخ بآخرينا

فقل للشّامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشّامتون كما لقينا

وقال عديّ بن زيد:

أيها الشامت المعيّر بالدهر

أأنت المبرّأ الموفور؟

أم لديك العهد الوثيق من الأيام

بل أنت جاهل مغرور

وقال الشافعي -رضي الله عنه-  :

تمنّى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

قال الإمام الدَّميري في “حياة الحيوان” (ج : 1 ص 46)،والقاضي عياض في ترتيب المدارك (ج:3 ص 273): ” قال الشافعي رحمه الله تعالى: ما رأيت أفقه من أشهب لولا طيش فيه. وأشهب المذكور هو ابن عبد العزيز بن داود الفقيه المالكي المصري، ولد في السنة التي ولد فيها الشافعي وهي سنة (خمسين ومائة)، وتوفي بعد الشافعي بثمانية عشر يومًا، قال ابن عبد الحكم: سمعت أشهب يدعو على الشافعي بالموت -خوفًا على علم مالك- فذكر ذلك للشافعي فقال:

تمنى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تهيأ لأخرى مثلها فكأنَّ قد

قال: فمات الشافعي، فاشترى أشهب من تركته عبدًا فاشتريته من تركته بعد ثلاثين يومًا.

وحكى “المبرِّد” عن بعضهم أنه شاهد رجلا على قبر وهو يكثر البكاء، فقلت: أعلى قريب أو على صديق؟ فقال: أخصّ منهما، قد كان لي عدو فخرج إلى الصيد فرأى ظبيًا فتبعه فعثر بالسهم فخرّ هو والظبي ميتين فدفن فانتهيت إلى قبره شامتًا به، فإذا عليه مكتوب:

وما نحن إلا مثلهم غير أنّنا

أقمنا قليلًا بعدهم وترحّلوا

الشماتة في الشعر الجاهلي

حفل الشعر الجاهلي بعدد من الأخلاق التي تنتاب الإنسان في مختلف حالاته، ومن هذه الأخلاق خلق الشماتة، وهو من أسوأ الأخلاق التي يبتلى بها الإنسان على الإطلاق، لأنه يعكس خواء في النفس، وفقرا في الروح، وضعفا شديد في الإيمان.

وعلى هذا فقد سجل لنا الشعر الجاهلي أنماطًا متعددة من هذا الخلق الذميم، فمن محذر وذام له، ومن شامت متشف بغيره، ومن وصف لواقعه وحاله.

 قال عروة بن الورد:

أليسَ ورائي أن أدبَّ على العصا

فيشمتَ أعدائي ويسأمني أهلي

رهينة قَعْر الْبَيْت كل عشيةٍ

يطوف بي الْولدَان أحدب كالرأل

و”الرأل”: ولد النعام.

يرى عروة بن الورد أن توكأه على العصا لا محالة سيجعله محلًا للشماتة والتشفي.

التجلُّد للشامتين

قَالَ أبو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ: (الكامل)

وَتجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهُمُ

أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لا أَتَخَشَّعُ

حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ

بِصَفَا الْمُشَقَّرِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ

وقد عد الأصمعي البيت الأول أحسن ما قيل في الصبر والتجلد، وفي رواية أخرى : هو «أبرع بيت للعرب».

وسئل بِلَالُ بن أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أبْيَاتُ يكتفى بِأنْصَافِهَا وَعِنْدَهُ جَمَاعَة فَأَنْشَدَهُ أَبُو عَمْرُو بن العَلَاءِ لأَبِي ذُؤْيبَ:

أَمِنَ المَنُوْنِ وَرَيْبهَا تَتَوَجَّعُ

وَسَكَتَ ثَمَّ قَالَ:

وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتبٍ مَنْ يَجْزَعُ

والشيء يذكر بالشيء؛ يروى أن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمهما الله دخل على معاوية وهو في علة له غليظة، فقال معاوية: ساندوني ثم تمثل بهذا البيت:

وَتجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهُمُ

أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لا أَتَخَشَّعُ

فسلم الحسين رحمه الله ثم تمثل:

وإذا المنيَّةُ أنشبتْ أظفارَها

ألفيتُ كلَّ تميمةٍ لا تنفَعُ

فاستظرف الجواب كون البيتين من قصيدة واحدة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى