مقالات

وقفات مع المتنبي (57) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

فلسفة الحياة في شعر أبي الطيب

 

د. أحمد الزبيدي

 

قال أبو الطيب المتنبي -رحمه الله- في “مُعجز أحمد” (ص187):

كَثيرُ حَياةِ المَرءِ مِثلُ قَليلِها

يَزولُ وَباقي عَيشِهِ مِثلُ ذاهِبِ

يقول: غاية الإنسان الموت، طالت حياته أم قصرت، وعيشه الباقي إلى نفادٍ، مثل عيشه الماضي، فلمَ أخاف الموت وأحمل الضيم والذل؟

وقد فهم الإمام الواحدي من هذا البيت معنى آخر، فقال:

هذا حث على الشجاعة، ونهي عن الجبن، أي: إذا كانت الحية لا تبقى وإن كانت طويلة فأي معنى للجبن!

وهذا المعنى الذي ذهب إليه أبو الطيب المتنبي-رحمه الله-من بين شعراء العربية، نجده واضحًا صريحًا في جملة من الآيات الكريمة، قال تعالى : {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}. [آل عمران: 185]

قال الشاعر:

إني لأعلم واللبيب خبير

أن الحياة وإن حرصت غرور

و(الْغُرُورُ) مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: غَرَّرْتُ فُلَانًا غُرُورًا، وقد شبه الله سبحانه الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَامِ وَيُغَرُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ بعد لأيٍ يَظْهَرُ لَهُ فَسَادُهُ وَرَدَاءَتُهُ، على أن الشَّيْطَانَ هُوَ الْمُدَلِّسُ الْغَرُورُ.

ولا يخفى أن هذا فِي حَقِّ مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ بِهَا فَإِنَّهَا نِعْمَ الْمَتَاعُ كما روي عن السلف الصالح رضي الله عنهم.

وقد أحسن عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حين وصف الدنيا بقوله: “لِيِّنٌ مَسّهَا قَاتِلُ سُمّهَا”.

وَقَالَ آخر: الدُّنْيَا ظَاهِرُهَا مَطِيَّةُ السُّرُورِ، وباطنها مطية الشرور.

وقد أثنى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز على الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، قال تعالى: {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ}. [النساء: 74]، ويَشْرُونَ هنا بمعنى يَبِيعُونَ قَالَ الشاعر:

وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي

مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ

قَالَ: وَبُرْدٌ هو غلامه، وشربته بِمَعْنَى بِعْتُهُ، وَتَمَنَّى الْمَوْتَ بَعْدَ بَيْعِهِ، فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّه الَّذِينَ يَبِيعُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ)، وإذا كانت تجارات الدنيا مُعرَّضة للربح والخسارة، فإن التجارة مع الله سبحانه تجارة رابحة لا محالة. لذلك قال الله سبحانه عقب ذلك:

{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ}. [التَّوْبَةِ: 111] .

وقد كان من عادة العرب في الجاهلية أَنَّهُ إِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يحيون بعضهم بقولهم : (حَيَّاكَ اللَّه) يريدون معنى اشْتِقَاقه مِنَ الْحياةِ كَأَنّهم يَدْعُون لَهُ بِالْحَيَاةِ، فَكَانَتِ التَّحِيَّةُ عِنْدَهُمْ (حَيَّاكَ اللَّه).. قَالَ عَنْتَرَةُ:

حُيِّيت مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ

وَقَالَ آخَرُ:

إِنَّا مُحَيُّوكِ يَا سَلْمَى فَحَيِّينَا

 فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أُبْدل الله ذَلِكَ بِالسَّلَامِ، فجعلوا التَّحِيَّةَ اسْمًا لِلسَّلَامِ. قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}. [الْأَحْزَابِ: 44] وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُصَلِّي: التَّحِيَّاتُ للَّه، أَيِ السَّلَامُ مِنَ الْآفَاتِ للَّه،

قال الإمام الفخر الرازي: وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: حَيَّاكَ اللَّه، لوُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَيَّ إِذَا كَانَ سَلِيمًا كَانَ حَيًّا لَا مَحَالَةَ، وَلَيْسَ إِذَا كَانَ حَيًّا كَانَ سَلِيمًا، فَقَدْ تَكُونُ حَيَاتُهُ مَقْرُونَةً بِالْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: حَيَّاكَ اللَّه.

الثَّانِي: أَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى، فَالِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ اللَّه أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ إِبْقَاءَ السَّلَامَةِ عَلَى عِبَادِهِ أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِهِ: حَيَّاكَ اللَّه.

الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ فِيهِ بِشَارَةٌ بِالسَّلَامَةِ، وَقَوْلَهُ: حَيَّاكَ اللَّه لَا يُفِيدُ ذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا أَكْمَلُ.

وإذا كانت الحياة كما يقول أبو الطيب قصيرة، وأيامها معدودة وحقيرة، فقد وقف منها موقفًا صارمًا، وذهب فيها مذهبًا حازمًا.

قال الأستاذ العقاد يصف فلسفة المتنبي في الحياة: ” هو فيلسوف الحياة سننها وصروفها، وليس فيلسوف الحياة مصادرها ومصائرها، وفلسفته في هذا الصدد بينة صريحة قريبة المنال متفقة الأجزاء لا تعقيد فيها ولا غموض، يمكنك تلخيصها في كلمات وجيزة هي: إن الحياة حرب ضروس علاقة الإنسان فيها بالإنسان علاقة المقاتل بالمقاتل، فهو يركب سنانًا من صنعه في كل قناة ينبتها الزمان، وما المودة فيها إلا حيلة من حيل الحرب، أو هدنة في حومة القتال، فاحذر الناس واستر الحذر! وإياك أن تشكو إلى أحد أو تغرك دمعة باك أو بشاشة مبتسم، إنك إن تشك إليهم بلواك تكن كالجريح الذي يشكو ألمه إلى الرخم والعقبان، وإن الذي يبكي بين يديك حين تظفر به لن يرحمك غدًا حين يظفر بك، والذي يبتسم لك ويبدي مودتك، إنما يداري الضعف والكيد بهذه المودة، ثم هو إذا تمكن من مقاتلك لن يرثي لضعفك ولن يقيل عثرتك، فاعلم أنك تنال بالخوف في الدنيا ما لا تنال بالود، وإن من أطاق التماس شيء من أشيائها غلابًا واغتصابًا لم يلتمسه سؤالًا”.

قال المتنبي:

إنما أنفُسُ الأنيس سِباعٌ

يتفارسْن جهْرةً واغتِيالا

مَنْ أطاقَ التماس شيءٍ غلاباً

واغتصاباً لم يلتمسهُ سؤالا

 كلُّ غادٍ لحاجةٍ يتمنّى

أن يكون الغضنفرَ الرئِبالا

الأنيسُ: جماعة الناس، والتَّفارس: التقاتل، والجهرة: معروفة، والاغتيال: القتل بالخديعة، والغلاب: المغالبة، والاغتصاب: الأخذ بالقهر، والغضنفر والرئبال: اسمان من أسماء الأسد.

يقول: إنما أنفس الناس كالسباع فيما تبتغيه وتطلبه، من الاستعلاء بالقدرة، فهي تتفارس سرا وجهرة، ومكاشفة وغيلة.

ثم قال: وكل غاد منهم لحاجة، ومعتمد لبغيته، يود أنه الأسد بأسًا وشدة، واقتدارًا وقوة؛ ليتناول ما يقصده بفضل قوته، ويستظهر عليه ببأسه وشدته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى