مقالات
دراسة نقدية د. مريم الهاشمي* – الإمارات
بلاغة التخييل في القصيدة الإماراتية الجديدة الشاعر عادل خزام أنموذجًا
عادل خزام
إن الصور تخرج من العمق الإنساني الخاص ، ومن الخيال الإبداعي يجب أن تشتق كل الملكات ، كل أنشطة العالم الداخلي والخارجي، ويمكننا القول بأن للصور حقيقة مضاعفة ، حقيقة نفسية وحقيقة فيزيائية ، فبفضل الصورة يكون الكائن المتخيِّل والكائن المتخيَّل الأقرب أحدهما إلى الآخر ، ومن ثم تأتي الجِدة لتكوّن علامة القوة الخلاقة للخيال ، فالصورة الأدبية ما إن تتعرض للمحاكاة حتى تفقد قوتها التنشيطية ؛ لذا وجب على الأدب أن يفاجئ وأن يساهم في إعادة إحياء اللغة بخلق صور جديدة ، لتكون كل صورة أدبية جديدة هي نص أصيل للغة.
لي الأرض كلها
سأمشي لأحك ظهرها بحوافري الثقيلة
أسرح شعرها الأخضر في الغابات
وأكش عن جبينها غبار الصحراء
ها أنا أرسم وجهك وفي عينيك زرقة البحر
ها أنا أضع الشمس تاجًا على شروقك من دمي
والقمر فصًا في خاتمك اللؤلؤي
ومعي المجانين جوقة مرددين
والفلاسفة معي يطبخون حجر المعرفة
كي يشبع الجهلة ، ويناموا مطمئنين
إن الصورة في القصيدة الجديدة تريد أن توحي أكثر مما تصف ، وتحمل تلك الكتلة من المفاتن الخفية في الفضاء العاطفي داخل الأشياء ، وهذه كلها طموحات لا تكمن قيمتها إلا في كونها أفعال لغة ، تحمل قناعات شعرية ، وما من شك في أن كل نتاج تصوري للصورة يستمد مسوغات رؤاه من تشخيص المرئي ، بعد أن يستوعب الفنان سبب وجوده في ذاته ويتعذر التعبير عنه بالقصد؛ لأن الاستدلال بالتصريح لواقع الحال مهما كان عظيم الثقة بنفسه يبقى خاضعًا لما تنتهي إليه الرؤيا الكشفية، وأن النهج الذي يسلكه المبدع في خلق صوره وفي تشغيل تخييله يبنى على وجه الدقة فيما هو متوار في المحسوس من أمور الحياة، فالمبدع أكثر الناس نباهة في كشف ضروب التباينات .
مر السعادة وهم بلا رسائل
مرت امرأة تطاردها جيوش فراشات سوداء
والشارع الأحمر لا ينتهي
والبيوت على جانبيه تراشق بعضها بطلقات دم
ترى، من أيقظ شهوة الأفعى، وراح يشحذ نابها ؟
من عبأ المكر في زجاجات الحليب حتى ابتلعتنا الكراهية ؟
طمث هي الجغرافيا ، حيض هو التاريخ
تخرج القبائل من سلاسل نسلها ، كي تعبر التكرار
ويتوضأ التائب ، لكنه يموت في الطريق إلى الركوع
لا تكون الصورة الفنية المخيلة بمعزل عن الذاكرة الوجدانية ، فماالذاكرة إلا ضرب من التخيّل القادرعلى أن يستعيد التجارب من منظور إبداعي ، وحين نضع الذاكرة في مقابل الخيال فإن العامل المشترك بينهما هو الصورة ، وهذا التلاقي نابع من أن الرؤية فيهما تتضمن في داخلها صورة كشفية، فمع الذاكرة تكون كشفية حقيقية، ومع الخيال كشفية إبداعية.
وراء كلاب الليل وهي تحرس خوفنا
انظر إلينا في الوجوه
بلا ألسنة ، نتبادل الحكايا بالطعنات
وبلا عيون ، لا نحتاجها في الظلام
وسوف ترى
صبية يفتشون عن طفولتهم في القمامة
مدرسًا مصلوبًا على سبورة الأخطاء
نجد أن الحقل الدلالي يتبدى في معيار الأخلاق ، أي الحفاظ على الطفولة هدف أخلاقي لضمان معيار رعاية المستقبل في بناء طفولة حقيقية لا مغتصبة، وهنا وإن تظهر للمتلقي صور متوشحة بالقبح إلا إنها تحمل نزاهة مطلقة استمدت في استعمال القبح في سبيل الجمال ، وهي الصورة الأخرى التي ستفرض نفسها في ذهن المتلقي بمجرد أن تتلمس الصورة المقدمة ، فدائما ما تتبادر في لاوعيه الصورة المضادة، وكأنه شي من التداخل بين الواقع البغيض و النية الصادقة، وهذا لا يمكن أن يتأتى بالصورة البسيطة ، ليأتي الابتكار والتقريب في الصورة الرافضة للعلاقة النمطية بين الدال والمدلول من خلال المفارقات والمتناقضات ، وتشكيل صورا وإيحاءات تصب في الإبداع البلاغي ، ليصل بنا المبدع إلى ما يريد أن نصله معه، ولذا نجد الأسطر تشع جِدة وحداثة نابعة من إناء الذاتية.
*ناقدة إماراتية
30-11-2021
مقال يوضح طبيعة التطور والاندماج في الواقع المعاصر ..مقال مهم بقدر مايسلط الضوء على الثقافة الحالية.