ما أن وضعتُ كتاب “فلسطين إليكم الحقيقة” للكاتب الحر “جفريز “نشرة دائرة الثقافة والإعلام – حكومة الشارقة- من يدي حتى لفتني ما تنوقل من أخبار وفاة الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية “فيفيان فوريستر” عندها تملكني شعور غريب حملني على القول : شمعة أخرى قد انطفأت ، وصوت جريء آخر قد سكت.
فما قصة هذه الشمعة ، وما حكاية هذا الصوت..؟
أفلت شمس الكاتبة والفيلسوفة “فيفيان فوريستر”عن عمر يناهز 87 عامًا قضتها – في ما تراه وتعتقده – من نشر حق، ومحاربة باطل، وإذاعةِ قيم الخير والحب والجمال.
عندنا نحن العرب – في ما مضى- “كانت القبيلة إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعن في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ وما ذلك إلا لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج”.
أما اليوم فقد أتى علينا حين من الدهر صرنا فيه نفرح بولادة الأقلام التي تكتب الحق وللحق.. أقلام مرنت على كتابته والجهر به، وهذه الولادة ليست مقصورة على الولادات العربية وحدها، وإنما يتضاعف فرحنا وتشتد سعادتنا إذا أعلن عن ولادة حتى في بلاد أوروبا.
ومن هذه الطيبة ولادة قلم الفيلسوفة المنصفة فيفيان فوريستر، الذي دأب على نشر ما فيه خير ونفع للناس جميعًا، ذلك أن الحقيقة محترمة حتى عند من يخالفها.
كتبت فيفيان في الأدب والنقد، وتمثلت كتاباتها في روايات وبحوث عديدة نالت إعجاب القراء والنقاد جميعًا، و كان من أشهرها كتاب: “هكذا يكون المنفيون”، وكتاب “بقايا” و “هذا المساء ” و”بعد الحرب ” ، وفي عام 2011 صدر لها كتابان مهمان، كان الأول منهما مجموعة قصصية بعنوان ” الهياج الجليدي “، والكتاب الثاني بعنوان ” شارع ريفولي ” وتدور أحداثه ما بين عامي 1966 -1972 ، صورت فيه الكاتبة علاقتها المقدسة بزوجها وشريك حياتها “جون فوريستر” الذي شاركته ولعه بالمصور التشكيلي فان جوخ، فقالت في ذلك كلمتها المشهورة : “بقيت معه حتى نهاية حياته” لأنها تعرفه قبل ولادتها، وحسبك ما في هذه العبارة من إخلاص ووفاء وحب .
أما كتابها الذي أثار ضجة وجدالًا كبيرين في الأوساط العالمية فهو كتاب” الكارثة الاقتصادية ” الذي ترجم إلى أشهر اللغات العالمية، وبيعت منه نسخ كثيرة، وفوق ذلك فاز بجائزة “ميديسي” للبحوث ، وقد أثار الكتاب موجة عارمة من الانتقادات والتساؤلات، وفتح أبوابًا واسعة للنقاش والحوار، ويرجع النقاد ذلك إلى ما أثارته الكاتبة فيه من حقائق اقتصاد السوق، وتعريته وإظهاره وفضيحته بعيدًا عن الكذب والتزييف، ومن المعلوم أن دولًا كبرى تقوم على هذا النظام وتحيا به وتقتات عليه.
ارتفعت أسهم الفيلسوفة فيفيان في سوق الأدب العالمي بسبب كتابها “الكارثة الاقتصادية”، وراجت أسهمها وغلت وعلت عند العرب والمسلمين وطلاب الحقيقة بعد صدور كتابها النفيس “جريمة الغرب”، حيث دانت بني قومها- الغربيين- جميعًاعلى جريمتهم النكراء في سرقتهم أرض فلسطين ومعاونتهم الصهاينة في قتل أهلها وتشريدهم وتفريقهم “أيدي سبأ” كما يقول المثل العربي القديم.
تُعَدّ فيفيان من الكتاب القلائل الذين حملوا أمانة القلم وعرفوا حقه وعملوا بمقتضى ذلك الحق، وصدعت به جهارًا نهارًا تعبر عما يجيش في نفسها من كراهة للظلم واحترام للحق وأهله، وكانت تنظر وتمارس مهنة الكتابة كواجب مقدس يحتم عليها أن تبذل في سبيل الحقيقة الغالي والرخيص، وقد تميز كتاب “جريمة الغرب” بنظرته التاريخية والتحليلية “للقضية الفلسطينية”، حيث أرجع ذلك إلى هتلر الذي اضطهد اليهود ، ما اضطرهم إلى الهجرة “الموجهة” لاحتلال فلسطين، و كانت مجموعة من الدول وعلى رأسها أمريكا وكندا واستراليا والأرجنتين في حاجة ماسة إلى الأيدي العاملة، ومع حاجتها الماسة للعمال رفضت استقبالهم بسبب كرههم اليهود، وعندما قررت هذه الدول التوبة والتكفير والرجوع عن جريمتها النكراء، ما كان منها إلا أن عوضت اليهود بأرض فلسطين مع معاونتهم بالمال والسلاح والرجال، وإعطائهم تصريحًا مفتوحًا للقتل والتعذيب والتشريد وابتلاع الأرض ومحو التاريخ وتبديله ليتلاءم مع وجودهم الطارئ والحديث في هذه البلاد!
وتساءلت فوريستر كما تساءل قبلها جيفريز وغيرهما ممن كتب بإنصاف عن الاحتلال الصهيوني كيف أجاز اليهود لأنفسهم العودة إلى وطن مأهول بسكانه الأصليين وقد كانوا- اليهود – من قبل قد طردوا منه على أيدي الرومان منذ أكثر من ألفي عام..!
شكل كتاب فوريستر صدمة للأوساط الثقافية والسياسية في العالم بشكل عام وفرنسا وأوروبا بشكل خاص، غير أن موتها شكل صدمة أكبر للحقيقة وطلابها، وأسفوا على سكوت صوت في أندية أوروبا وانطفاء شمعة خوفًا على فرنسا –عاصمة النور- من أن تغرق مرة أخرى في ظلامها، وكأن لسان حالها يقول:”إنما حملت أمانة هذا القلم لأصدع بالحق جهارًا نهارًا في غير جَمجمة ولا إدْهان، وأنا جندية من جنود الحقيقة نذرت قلمها لئلا يكف عن القتال في سبيل الحقيقة ما استطعت أن أحمله بين أناملي، وما أتيح لي أن أجد مكانًا أقول فيه الحق وأدعو إليه”.
مقال قيم