لأنني أكبر إخوتي، كانت أمي كغالبية الأمهات كثيرًا ما تصحبنى معها في حلها وترحالها، لا أدري أتأنس بي أم تزهو بأن لديها آنسة جميلة يافعة ، أم تحقق مأربًا خفيًا بأن تفتح عيني على الحياة والناس والشوارع بكل ما تزدحم به هذه العوالم من صدق وكذب.. أثواب ضيقة وجلاليب واسعة..غنى وفقر باد لكل عين. حقائق قاسية وخيالات مرعبة ، حينًا كنا نذهب سويًا للسوق لشراء احتياجاتنا، وحينا آخر كانت تهرب من الوحدة وامتصاص البيت لأنفاسها ونذهب لزيارة هنا أو هناك لبعض جيراننا أو صاحبات دراستها القديمات. بالأمس كنا في زيارة لإحدى صديقاتها، وهناك قدمتني أمي للصديقة قائلة : نورا ابنتي. هالني أن تلك المرأة القصيرة البدينة قد فغرت فاها فور أن رمقتني، وبدا عليها ذهول ساذج أحمق امتدت ظلاله لجميع الحاضرين في البيت من أبنائها وأختها التي تكبرها بحوالي عشرين عامًا، ولأنني طويلة نسيبًا ومنتفخة الوجنات وعريضة الشفاه، ويبدو على بعض خيرالأنوثة الوفير من صدر ممتلئ وأرداف كانت محل إعجاب زميلاتي في المرحلة الثانوية، فقد ظن الجميع أنني أختها. ظلت نظرات الاندهاش و التعجب تلاحقني!! ملتحفة بأقوال ساخرة وهمهمات سخيفة كنت أتبينها في عيني صديقة أمي ولواحظ عائلتها المحدقة. امتلأ صدري حنقًا وغضبًا، وشعرت بأنني أختنق من أسئلتهم حول دراستي وماذا أحب وماذا أكره من مواد دراسية ومعلمين و نشطة وهوايات وووووو…يا الله! وكأنني طفلة في المرحلة الابتدائية لم تشب عن الطوق بعد. ظلت جرار الأسئلة ترتفع فوق رأسي الملتهب: أوليست لي أية اهتمامات أخرى غير تلك التي حاصرني بها هؤلاء المجاذيب في زاوية ضيقة؟ لم أطق هذه النار التي أكتوي بها في صمت ضجر، وهمست لأمي برغبتي في مغادرة المكان. الحق أن أمي شعرت بي واستجابت لمطلبي الذي لم يكن ينتظر سوى دمع مؤازر، وغادرنا المكان. في الطريق قررت ألا أعود وأشارك أمي في مثل هذه الزيارات الخانقة. أخبرت أمي بقراري.. كنت في شدة من الحزن والغضب.. حاولت أمي طوال الطريق أن تهديء من روعي وهمست بضحكة بريئة: يا هبلة …لا تغضبي ..كنت بمثل سنك أتعرض لهذا السيل الجارف من الأسئلة ، بنت من ؟ بأي مدرسة أنت؟ تبارك الله أصبحت عروسًا ..تحتاجين إلى الزواج الآن وليس بعد.. وكنت أستقبل هذه الأحاديث بفتور حينًا وتخيل جارف لما سأكون عليه في قادم الأيام حينًا آخر..وضحك مرة ثالثة، واختتمت حديثها بجملة رنت في أذني طويلًا: عندما تصيرين مثل أمي أنا..عجوزًا قاربت الأرض على التهامها، ستتمنين يومًا أن تعاد الأحاديث القديمة الساذجة بنظرك الآن، وتنصب شراك الأسئلة لتصطاد طفولتك الخجلى أو شبابك الغض الذي ماعاد سوى ذكرى تهوم أوتنداح دوائر من الشجن….
زر الذهاب إلى الأعلى
نعيم رضوان … الدنيا مدرسة الحياة والناس معادنها