كانت النية أن نكمل ما انتوينا إكماله من سلسلة مقالات “الغزالي المفترى عليه”، غير أن تعليقاً وردنا من الأخ الأستاذ أسامة موسى غير نيتنا، وجعلنا نصرف الحديث إلى وجوه أخرى ، ربما لا تبتعد كثيرًا عن موضوعنا، بل تتكلم في صلبه وعينه، وتوضح ما انبهم وغمض والتبس في مقالنا .
أورد علينا صديقنا نقاطًا يغلطنا في بعضها، ونقاطًا يصوبنا في بعضها ، كتب ذلك كله بأسلوب جميل،وأداءٍ راقٍ يعبر عن شخصية منفتحة على الآخر وتتقبل المخالف ولا غرو في ذلك، فقد عاشرنا الأستاذ وخبرنا ذلك فيه من قريب، وقد طلب منا الأستاذ إفساح صدورنا، واللواذ بالصبر والحلم، وأن نحمل كلامه على محمل طيب حسن ، وقد فعلت.
اعترض الأستاذ أسامة على إيرادنا المقدمة واعتبرها “فضلة” لا لزوم لها وأنه كان بالإمكان الاستغناء عنها!
والجواب على هذا؛ أن الأمر فيه سعة، فربما كان مصيبًا في قوله ، ولكن أنى للقارئ والمتابع أن يتبين الجذور التاريخية للتشويه والتلبيس، والتي بدأت مع بداية الخلق وما تزال – وفي رأيي- ستظل ما بقي في الدنيا خير وشر، والإمام الغزالي أحد هؤلاء.وقد شكا الغزالي نفسه في رسالة لأحد إخوانه ما تلقى كتبه من تحريف وتبديل إبان حياته، أما بعد مماته فحدث ولا حرج.
وقد ذكر صديقي أنني متعصب للغزالي ، بحجة عدم انتقاده، وعقب على قوله أن “العصمة للأنبياء”. وأنا معه في ذلك، ولولا أن المقام مقام رد افتراء، وليس مقام دراسة شاملة، فنذكر ما له وما عليه، وقديمًا قالوا :”لكل مقام مقال”، ووجود أخطاء عند الغزالي أو غيره أمر مسلم فيه ولا نناقشه ، وحسبك من الغزالي، الغزالي فقد صور بكل دقة وموضوعية تجربته الروحية وانصهاره فيها، حيث عرى نفسه تعرية تامة من دون اضطرار أو سؤال من أحد، وقد اعترف بأنه شك في كل شيء إلا في البديهيات، لولا أن عاد من ثورته إلى الاستسلام الذي ألقى به في أحضان التصوف،ولكن وقبل ذلك أصغ إليه وهو يصف بدقة بالغة خلجات نفسه، ونوازع قلبه فقال: ” ولم أزل في عنفوان شبابي؟ منذ راهقت البلوغ قبل العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين؟ أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، واستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلماً إلا واجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر سفوته، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتجسس وراءه، للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته، وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد من الصبا.”
فالغزالي إذن لا ينتظرنا أن نتكلم عن عيوبه ، فقد سبقنا إلى ذلك بقرون، عديدة.
قال الأستاذ :”من المؤكد أن الغزالي هاجم الفلاسفة وليس الفلسفة”، ولا أدري تمامًا ماذا يقصد الأستاذ بهذا الاعتراض، إذ لا يوجد فرق بين الفلسفة والفلاسفة، فإن مهاجمة الغزالي للفارابي وابن سينا لم تكن مهاجمة لصورهم، ولا لأجناسهم، ومن المؤكد أيضًا أنه ليس لألوان عيونهم، فلم يبق إلا يكون النقد لآرائهم وفلسفتهم ومعتقداتهم، فهما في النهاية شيئان متلازمان لا ينفكان.
لقد قالوا قديما :”من ألف فقد استهدف” أما عنوان الكتاب :”تهافت الفلاسفة” وهو – في رأي صديقنا- محصور في نقد الفلاسفة، ولا علاقة له البتة في نقد الفلسفة، والخطب يسير ، ذلك أن الغزالي أديب كبير وهو يختار عناوين كتبه بعناية ودقة، وهنا في هذا العنوان محذوف مقدر وهو المضاف إليه، فعندما عنون الغزالي كتابه “تهافت الفلاسفة” فإنه ولا شك كان يقدر محذوفًا مثل؛ في فلسفتهم، أو في آرائهم، أو معتقدهم، فهذا مما لا يناقش فيه أهل اللغة والبيان، وهو تحصيل حاصل.
أما قوله : “ليس صحيحًا أن الغزالي هدم الفلسفة، إذ لا يمكن لأي شخص مهما بلغ علمه أن يهدم علمًا له أسس وأركان وباحثين،كل الأنبياء لم يستطيعوا هدم أي علم من العلوم ، حتى الشعوذة والسحر والخرافات التي حاربتها الأديان ما تزال قائمة إلى يومنا هذا رغم التطور العلمي والحضارة والتكنولوجيا.
أما أن الغزالي لم يهدم الفلسفة، فهذا كلام غير دقيق ويحتاج منا إلى بيان وتوثيق، فقد قلنا في مقالنا إن الغزالي لم يهدم الفلسفة ولكن أي فلسفة؟ ولم يدر ذلك في خلده، وإنما هدم –ولا شك- القسم الخاص “بالإلهيات” لأنه –كما قلنا- فلسفة فارغة لا تقوم على أساس من العقل والتفكير، وقد أثبتنا ذلك بمؤيدات عقلية،وشواهد منطقية، ولم نتردد بالاستشهاد بأقوال بجملة من جمهور الفلاسفة الغربيين ابتداء من فرانسيس بيكون ومرورا بسبينوزا ولوك وهيوم، وانتهاءً بالفيلسوف الألماني مانويل كانط، ولو نظرنا إلى القضايا الفلسفية التي نقدها الغزالي، وأبطل بمقتضاها الفلسفة لوجدناها: “نظرية قِدم العالم”؛ “وعلم الله بالكليّات دون الجزئيات”؛ “وإنكار بعث الأجساد” ، وهذه المسائل هي التي كفّر بها الغزالي الفلاسفة القائلين بها..ولم يخف الغزالي غرضه ونيته من وراء تأليف الكتاب، وهو هدم “الفلسفة الإلهية” بشكل خاص باعتبارها مضمونًا عقديًّا وثنيًّا، وزعزعة ثقة الناس في تلك الفلسفة، وتشكيكهم في قدرة العقل واستحالة الوثوق به في المسائل الإلهية.ومن دون ريب فإن الغزالي حقق غايته، ورفع على قبر الفلسفة رايته، وقد قامت محاولات عديدة ومتنوعة للرد على الغزالي رأيه، وتفنيد مذهبه، وإبطال حجته، ولكنها ظلت طيورا كسيحة لا تقوى على الطيران،ولعل أقوى محاولة وأنجحها محاولة الإمام ابن رشد الحفيد الذي ألف كتابه “تهافت التهافت” بعد نحو قرن من تأليف الغزالي كتابه، وقد صرح بغرضه من تأليفه فقال:”إن الغرض في هذا القول أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت في التصديق والإقناع…” بيد أن جميع المحاولات باءت بالفشل، وآلت إلى السقوط؛ وقد حمل لواء الغزالي وسار على طريقه، وأكمل مشروعه عدد من العلماء وعلى رأسهم “ابن تيمية” الذي حمل بشدة وقسوة على الفلاسفة من خلال كتابيه “موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول” و”نقد المنطق” ، وقبل أن أنتقل عن هذه النقطة أحب أن أنبه إلى مغالطة جنح إليها قلم صديقنا سهوا وهي قوله : “إذ لا يمكن لأي شخص مهما بلغ علمه أن يهدم علما له أسس وأركان وباحثين،كل الأنبياء لم يستطيعوا هدم أي علم من العلوم ، حتى الشعوذة والسحر والخرافات التي حاربتها الأديان ما زالت قائمة إلى يومنا هذا رغم التطور العلمي والحضارة والتكنولوجيا”.فهو قد جعل “الشعودة والسحر والخرافات” علما له أسس وأركان، وما أظنه يقصد ذلك على ظاهره.
كذلك نحب أن نقول أن وجود الشعوذة والسحر والخرافات لا يدل بالضرورة على عجز الأديان والأنبياء، بل إن ذلك كله قد تلاشى بعد سطوع شمس الحضارة الإسلامية ، وأما ظهورها –الخرافات- الآن فهو ظهور على استحياء، ونهوض على خزي وعار ، وما حدث ذلك إلا بعد أفول شمس الإسلام وانحسار ظله. وقد وافقني “صديقي” بان الغزالي لم يهدم إلا ما يستوجب هدمه من مسائل الإلهيات ، وأن الغزالي ظل مخلصًا للأقسام الفلسفة الأخرى، بل عمل على تطويرها وإنضاجها، لا سيما علم المنطق الذي ألف فيه مؤلفات نفيسة، وقد ذكرنا هذا كله في مقالنا فلا نقف عنده.
كذلك انتقد علينا “صديقنا” مرة أخرى وصفنا لمن يهاجم الغزالي بالمضبوع بالثقافة الغربية، وليعذرني أخي في ذلك، فإنني عندما أسمع أو أقرأ شخصا لم يقرأ حرفا للغزالي، ولم يكحل عينه بشيء من مصنفاته، وكل همه إلقاء الكلمات على هواهنها، يلوكها في كل مجلس ولا يعرف مصدرها أو معناها فهو بلا شك حقيق بهذا الوصف، ولولا الحياء لنعتهم بنعوت أكثر انطباقا عليهم، وشبها بهم. قال الشاعر :
تصدّر للتدريس كلّ مهوسٍ بليدٍ تسمّى بالفقيه المدرسِ
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيتٍ قديمٍ شاع في كل مجلسِ
لقد هزُلت حتى بدا من هُزالها كُلاها وحتى سامها كل مفلسِ
وقد لام “الأستاذ” علينا هجومنا على “الفارابي وابن سينا ” وقد قدموا للحضارة ما قدمه الغزالي.
ولعل أهم معضلة واجهت الفلسفة العربية بشكل خاص التوفيق بين الفلسفة والإيمان، وقد تلاقى هذان بشكل خاص في عقلي ابن سينا والفارابي فحدث صراعي داخلي، وكان اختيارهما اختيار الفلسفة، واصطفا إلى جانبها ، وذهبا يؤولان ما يتعارض معها من آيات القرآن الكريم، وقد وصفهم الغزالي ومن على شاكلتهم بأنهم طائفة من الفلاسفة ادعوا الذكاء، وأهملوا الشرائع ،اقتداء بفلاسفة يونان ، وترفعا عن العامة، وقد انبرى لهم الإمام أبو حامد يرد عليهم ويظهر ضلالهم وتناقضهم , على انه لن يجادل جميع الفلاسفة، بل يقتصر منهم على الفارابي وابن سينا،لأنهما خير من أخذ عن المعلم الأول “أرسطو”.
قال الأستاذ….علما أن الإسلام بحث فيما وراء الكون والغيبيات وتكلم عن الجن والملائكة والجنة والنار ..الخ. وأنا أوافق الأستاذ على هذا مع الفارق الكبير بين كلام الله وكلام الفلاسفة، فالقرآن عندما حدثنا عن الغيبيات حدثنا حديث الخبير وهو مستند إلى علم الله سبحانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما كلام الفلاسفة فلا يستند إلى واقع أصلا، وإنما هي ضرب من التخمينات والتهويمات.
وأخيرا فقد ادعى أخي وصديقى دعوى أن التعريف الذي أتيت به للعملية العقلية والتفكير والوعي إنما هو تعريق سبقني إليه ماركس والماديون من بعده.مع أن التعريف الذي أتيت به تعريف إسلامي محض لم يقل به ماركس ولا غيره من الماديين وإن كانوا قد اقتربوا من القول به ، وحقا قد استغربت جدًا من التباس الأمر على أخي أسامة لأن المذهب الماركسي مذهب مادي صرف، ومن أولى أساسياته القول بسبق المادة على الفكر.
وللعلم انهم لم يهتدوا لذلك، أي القول بان المادة سابقة على الفكر إلا بعدد تردد كبير، واختلاف عميق وبناء عليه عَرَّفوا الفكر “بأنه انعكاس الواقع على الدماغ” ، فقالوا بوجوب وجود الواقع والدماغ والانعكاس،ولم يتعرضوا للواقع من أين جاء ومن فرضه وأوجده، ولو فعلوا لصدموا بحقيقة وجود خالق خلقه من عدم، ولانتقض عليهم فكرهم ومبدأهم كله،ولو فعلوا لقادهم ذلك إلى البحث في سبب الفكر لأول إنسان على هذه الأرض ،فلم يكن لهم بد من تهربهم من هذا السؤال بتصوير فروض وتخيلات، وأن الإنسان الأول قد قادته التجارب إلى المعارف، وان المعارف أتت بمعارف وهلم جرا.
ومالنا نذهب بعيدا في شرح وتبرير ذلك وعندنا من كتب القوم ما يشهد بصحة ما قلنا؛ مثل: كتاب:”الدفاتر الفلسفية”،وكتاب: “المادية والمذهب التجريبي النقدي”، وكتاب:”القضايا الأساسية الماركسية” للأستاذ ليخانوف، وأخيرا كتاب “المادية” الديالكتيكية”.قد جاء فيها تعريف الفكر بأنه “انعكاس صور الأشياء إلى الدماغ ، والتفكير ليس إلا إعادة لإنتاج الواقع منسوخا على صفحة الذهن”. ولا نزيد على هذا لأن ما قلناه لا نكرره فمن أحب أن يستزيد فالمقال موجود.
زر الذهاب إلى الأعلى
حوار شيق وممتع ومفيد. وكل الشكر للدكتور احمد الزبيدي والاستاذ أسامة موسى.
حوار شيق وممتع ومفيد. وكل الشكر للدكتور احمد الزبيدي والاستاذ أسامة موسى.
الله يعطيك العافيه دكتور
حوار جميل جدآ وممتع
بارك الله بك وبجهودك
الرد على الانتقاد كان بطريقة حلوة ومقنعة جدآ وعبارات منطقية هذا بدل على مستواك العلمي و الثقافي المتميز
حوار جميل وممتع وشيق كل الشكر لجهودك دكتور الرائع والمبدع احمد الزبيدي اتمنى مزيد من الحوارات الممتعة والرائعة
حوار جميل جدا شكرا دكتورنا الغالي على حوارك الممتع والمفيد فخورون بك وبكل جهودك وثقافتك العلمية
جزيل الشكر للدكتور المبدع احمد الزبيدي وزميله الأستاذ أسامة موسى الحوار جدا شيق وممتع نتمنى المزيد من هذا الابداع 💗💗