في عودة سريعة للذاكرة الجمعيّة العربية نجد أنه من انتقاص الرجولة أن يبكي الرجل، أو يظهر آلامه، أو حتى ضعفه ومشاعره، لأنهم زرعوا في أذهان الرجال والنساء على حدّ سواء أن الرجل يحبّ أن يتمتع بالشجاعة والقوة والسيطرة والتحكم، فلا يليق به أن يظهر ضعفه أبدًا.
نعلم أن الذكورة المفرطة مصطلح نفسي يُستخدم للتعبير عن السلوك النمطي الذكوري المبالغ فيه بإيلاء الأهمية للقوّة الجسدية أو الجسمانية مثلًا.. صاغ هذا المصطلح كل من دونالد إل. موشر ومارك سيركين في عام 1984، إذ عرّفا الذكورة المفرطة أو «الشخصية الذكورية» عمليًا بأنها تنطوي على ثلاثة متغيرات:
* السلوكيات الجنسية القاسية عند التعامل مع النساء.
* الاعتقاد بوجود طابع رجولي مرتبط بالعنف.
* الاعتقاد بحماسية التجارب المنطوية على الخطر.
من هنا نرى أن هذه الهويات الاجتماعية مكتسَبة ومتغيّرة بحسب تغيّر الظروف الاجتماعية والسياسة والاقتصادية، ومعها تغيّر الأفكار السائدة في المجتمع ، و طبيعتنا البيولوجية ليست هي ما يحدّد سلوكنا الاجتماعي والسياسي – وإن كانت تؤثر في جزئياته – بل نحن كأفراد واعين وجودنا، وخياراتنا من يحدّد هذا السلوك، أي أنّ سلوكياتنا والهويات الاجتماعية والجندرية التي نكتسبها أو ننتسب إليها، هي في الواقع انعكاس للخيارات السياسية والإيدولوجية التي ننتمي اليها، و يشترك في ذلك معظم الثقافات حتى الغربية منها ليتم إنتاج مايعتقد بأنه نموذج للرجل الحقيقي.
والمجتمع الذكوري هو المجتمع الذي تنتشر فيه بشكل واسع ثقافة الذكورية والتمييز ضد النساء، كما تنتشر فكرة وجود أدوار محددة للنساء وأفكار نمطيّة عنهن.
أما الرجولة الحقيقية فمسؤولية تكمن في خدمة المجتمع والتعاون مع أفراده.. الرجولة في صلة الرحم والوقوف مع الأقارب في السراء والضراء.. الرجولة تعني الكرم والشهامة وسعة الخاطر والتحمل عند الشدائد.. الرجولة في احترام الكبير والعطف على الصغير.. الرجولة في التواضع ولين الجانب والبشاشة وحسن قبول الآخرين.. الرجولة في فعل كل عمل حسن وترك كل عمل قبيح.
إنها كما يبدو رحلة تدريب مع الأسف تبدأ منذ سن الطفولة للانفصال عن الذات الحقيقية وتقمص الذات الكاذبة والقناع الرجولي، الذي يخفي المشاعر الحقيقية للإنسان، ويقدم للعالم صورة كاذبة للقسوة، ولكي يكون الرجل حقيقيًا في هذه الحياة عليه أن يصارع من دون كلل أو ملل وأن لا يستريح أو يستكين بطريقة وأد المشاعر أو حرقها لتهديه الحياة قناعًا رواقيًا يواجه به العالم لأن رجولته المزعومة أيضًا تفرض عليه أن يواجه مصاعب الحياة القاسية بقلب لا يعرف الرحمة، وإذا لم يكن من بد للإحساس والمشاعر في معترك الحياة أو في ميدان إثبات الذات هذا، فليكن الغضب الذي يستحضره بالمهارة نفسها التي يتعامى بها عن الخوف، وها هو في النهاية وحيدًا على الرغم من أنه محاط بالكثيرين، و يحتفظ بسرّ عاطفته الإنسانيه الحقيقيه ولينه وحنانه إلى قبره، فهكذا تعلم منذ نعومة أظفاره.. تعلم أن يكافح بشراسه ليكون رجلًا حقيقيًا وبطلًا حقيقيًا في عيون الناس وفي عيون والده على وجه التحديد.. والده الذي علمه كيف يتنافس ويتنافس بلا كلل أو ملل ليكون دائمًا التلميذ الأول والرياضي الأول والمعشوق الأول والزوج الأول والأب الأول.. إنه إبن أبيه بحق، وهنا سرّ مأساته الحقيقية.. هو إنسان منفصل عن ذاته الطبيعية، ويعيش بذات مزيفة تم تركيبها وبناؤها ضمن قيم موروثة للرجولة، وما من شك في أن الثمن الذي يدفعه هذا الرجل باهظ جدًا، وهو لا يكمن فقط في مثل نمطية حياتية بائسة كهذه، بل يمتد ليطال صحته الجسديه ليفتك بها ويدمرها، حيث تفيد الدراسات الطبية أن هذا الرجل يعيش أقصر من نظيرته المرأة ست سنوات، كما أن معدل الانتحار لديه أعلى من نظيرته المرأة بأربع مرات، كما تفيد دراسات أخرى أن ثلثي مدمني الكحول في العالم من الرجال، والحال نفسها بالنسبة لأمراض القلب وارتفاع الضغط الشرياني وغيرها من الأمراض المتعلقه بالتوتر، فعلى الرغم من العين الحسود التي كانت ترمقه بها المرأة عبر التاريخ بسبب سيادته الكلاسيكية على المجتمعات وتفوقه التقليدي، يعيش الرجل المعاصر مأساة هذه السيادة وهذا التفوق وتلك الرجولة بكل ما في الكلمة من معنى، فحياته هذه التي يعيشها لمرة واحدة غالبًا ما تمر من دون أن تكون له حتى فرصة لأن يتلذذ بها لأن الرجل والمرأة واجها عبر التاريخ مسؤوليات مختلفة، ففي حين ذهب الرجل للحرب والصيد تركت المرأه في الكهف أو الكوخ لتنشئة الأطفال وبناء العلاقات الاجتماعية، ومن هنا عيّن المجتمع البشري للرجل صفات تتعلق بالقوه والسلطة والاستقلالية والقسوة والغضب والسيطرة والتحكم والهيمنة، وكلها صفات تتناسب مع دوره الاجتماعي، وعيّن للمرأه صفات كالحنان والألفة والموّدة والصبر والوداعة والكياسة والتبعية، وهي أيضًا صفات تتناسب ودورها الاجتماعي، وهكذا أجبر التاريخ المرأة على ان تتنازل عن قوتها واستقلاليتها، كما أجبر الرجل على أن يتنازل عن مشاعره وحساسيته العاطفية ، وهكذا خسرت المرأة صوتها وخسر الرجل قلبه، وتحول كل منهما من كلّ بشري كامل متكامل إلى نصف بشري كسيح.
لقد كان المجتمع صارمًا جدًا، وهو ينشد الحفاظ على وجوده في تحديد صفات الرجل والمرأة، فالمرأة التي كانت تتجرأ لتظهر صفات خاصة بالرجل كانت توصف بالمسترجلة، وكذلك الحال بالنسبه للرجل الخارج عن ذلك التحديد الاجتماعي التاريخي للشخصية، والذي كان بدوره يوصف بالمخنث أو شبيه النساء وما إلى ذلك، وقد أفادت دراسات سيكولوجية حديثة بأن نصف الرجال يعانون كآبة سرية باطنية، وبأن هذا ناجم عن نمط حياة قائم على إنكارهم لعواطفهم ومشاعرهم، حيث إنه ولكي تكون رجلًا في هذا المجتمع، فإن هذا يعني أن تتجنب تلك الحساسية العاطفية الأنثوية الزائدة، وأكثر من ذلك بأن تنكر الألم، فالمعيار الكلاسيكي الرئيسي السائد للرجولة كان وما يزال حتى يومنا هذا في مقدار تحمل الرجل للألم، أو بتعبير أدق إنكار الألم والعيش تحت وطأته، ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف يكبت معظم الرجال مشاعرهم ودموعهم، ويخجلون منها في أغلب الأحيان تلك المشاعر التي لا تلبث أن تتحول إلى ضغط نفسي عاطفي يرزحون تحت وطأته، ولقد قدَّر رونالد لافانت وهو أحد علماء النفس الأكثر شهرة في العالم نسبة الرجال الذين يعانون مرض الأكزيثيميا – عدم قدرة الإنسان على تحديد نوع مشاعره- بثمانين في المائة، بالطبع كارثة أن لا تعرف حقيقة مشاعرك لأنك في النتيجة ستكون عاجزًا على أن تعبرعن مشاعرك للآخرين، ويعتقد ان هذا هو السبب الرئيسي لحالات الانعزال النفسي عن المحيط التي يعانيها أغلب الرجال في المجتمعات المعاصر.
زر الذهاب إلى الأعلى