في مجتمع مزدحم بكل شيء نوعًا ما والخالي من كل شيء في محيط بعض الشباب ،حيث يتعرضون لمشكلات ما، قد يعتقدون من خلالها أن الكون سينتهي، أو أن كارثة ما ستحل بهم، هنا سنسلط الضوء على الموضوع من خلال قصة في البداية، لننتهي بالنقاش عن الهشاشة النفسية كمشكلة حقيقية وطريقة التعامل معها، وذلك على ضوء قراءة في كتاب “الهشاشة النفسية لماذا أصبحنا أضعف وأكثر عرضة للكسر ؟” لمؤلفه د.إسماعيل عرفة.
القمّة تحت قدمه اليُمنى .. مدخل قصصي
«أحسَّ بنشاطٍ كبير يعصفُ برِجله اليمنى، فأرسلها خلف الحلم الأخضر تطلب ودّه، وتجهد النفس للفوز برضاه، قبل المقابلة» هذه الكلمات التي وصف بها الكاتب سمير بيّة تجربة شاب في مقابلة وظيفية، لا تعبر عن تجربة بطله الشخصية فقط، وإنما تعبر عن تجربة جيلٍ بأكمله؛ انعدام وضوح الرؤية للمستقبل، والقلق من تخبطات القرارات المصيرية، أسباب القبول والرفض، المخاوف المتجذِّرة في طبيعة العيش تحت وطأة ضغوط العصر الحديث، لنسأل سؤالًا كبيرًا: ماهي أسباب الهشاشة النفسية؟
كان الحلم يتحاور مع الشاب :” هيّا تعطّر ، كن أكثر أناقة اليوم ، وأشد جاذبيّة، أنت ستدركني اليوم ، بل بعد سويعات، ستعرف أني لست صعب التحقيق، فأنا منيتك النفسية، أنت في طريقك الآن إلى القمّة والمجد”.
في مكتب الاستقبال أطلّ برأسه رجل نحيل، ووجه كئيب لايصلح إلا أن يكون مديرًا لأحد المقابر، أشار له بالتوجه إلى الدور الرابع ، فألقى برجله اليمنى في المصعد، وانطلق نحو تحقيق الهدف، حتى صافح سكرتيرة المدير التي كانت عبارة عن قنبلة الاستقبال، التي قدمت له قهوة بناء على خياره ، وهو مازال يحاور الحلم حتى أثناء تدخين سيجارته، إلى أن اصطدم بصوت الضحكات المتعالية من داخل مكتب المدير، حتى غاب الحلم فجأة ولم يعد له وجود، فراح يتحسس رجله اليمنى، ” إذ لم يعد يشعر بحدّة نشاطها، وضعها تحت رجله اليسرى،وألقى بقية السيجارة في المنفضة، مرّت قرابة الساعة والضحكات من مكتب المدير لاتنفكّ تدقّ مسامعه، وأعصابه من حين إلى آخر، فتفتك بها فتكًا”.
بعد مرور السّاعة انفتح الباب، لتنطلق قنبلة أخرى لها كلّ مقوّمات الانفجار بشعرها الأصفر ووجنتيها الغارقة في بودرة التجميل، وعينيها الزرقاوين وشفتيها الحمراوين، والمدير ذلك القزم البدين يسير خلفها ضاحكًا
_أراكِ الليلة، لاتقلقي لن أتأخّر عليكِ.
_سيدي أنا الذي …
_أنا آسف، لو حضرت قبل ساعة من الآن لكان العمل من نصيبك.
سار نحو المصعد ، ضغط على الزر ، فإذا به مشغول، فألقى برجله اليسرى على درجات السلّم الهاربة نحو الهاوية.”
انتهت القصة لتبدأ المأساة ؛ نجح الكاتب في تصوير عميق للأسباب ربما، لأن المهزلة هي في كتابة محتوى عن ظاهرة الهشاشة النفسية، واتّهام الشباب بأنهم غير قادرين على تحمل مسؤوليات الحياة لما يعانونه من ضعف في الإرادة وشعور بالاستحقاقية المفرطة؛ بينما تنتشر أفكار تتهكم عن أزمة القيم الأخلاقية عند الأجيال الشابة، وعلاقتها المباشرة باضطراباتهم النفسية المتزايدة، فبمجرد أن يتم إخراج الأسباب من المعادلة، لا يتبقى سوى الفرد ليتحمل مسؤولية إخفاقاته كاملة، ويالها من نظرة بائسة للحياة تفتقر إلى الواقعية والإنصاف.
الآن، وبعد هذا الاستعراض القصصي الموجز، حان الوقت لبدء تَقَصّينا إجابة السؤال الرئيسي لهذه المقالة: هل أزمة الهشاشة النفسية مُتأصِّلة في طبيعة الأجيال الشابة أم إنها نتيجة العيش تحت تأثير أسلوب الحياة العصرية؟
يدفعنا هذا السؤال باتجاه الكتاب الذي قدَّم لنا مفهوم الهشاشة في العالم العربي لنتفحّص خطابه ونقيّم موضوعيته ونتبيّن حقيقة أهدافه.
إلى مَن تشير أصابع الاتهام في خطاب الهشاشة النفسية؟
في كتابه المثير للجدل «الهشاشة النفسية : لماذا أصبحنا أضعف وأكثر عرضة للكسر؟»، افتتح إسماعيل عرفة الفصل الأول باستعراضه لمشهدٍ قصير يُمهد به تحليله لأزمة الهشاشة عند الأجيال الشابة:
«شابٌ يقع في غرام فتاة، ربما رآها على وسائل التواصل الاجتماعي، وربما لحظتها عيناه في جامعته .. تضطرب مشاعر هذا الشاب وينبض قلبه بالإعجاب بها” ثم أخذ يرسم سيناريوهات هوليودية مختلفة لبداية تطور العلاقة العاطفية حتى تدهورها؛ فنجده يكتب بنبرة حتميّة:
«لكن بعد مدة، طالت أو قصرت، يكتشف الشاب أنه يعيش في عالم من الخيال .. ».
وبعدها يسهب في وصف تبعات الانفصال من العلاقة:
«يبدأ [الشاب] في الدخول في دوامة من المشاكل النفسية .. وتتأثر حياته سلبًا فيرسب في اختباراته ويقطع علاقته بأصدقائه وينطوي على نفسه .. ».
قبل أن يختم مشهده بطرح سؤال الهشاشة النفسية وربطه بالتهرب من المسؤولية:
«لماذا تنكسر النفوس بهذا الشكل وترفض أن تتحمل نتيجة أخطائها ..؟ » (١)
هنا، علينا أن نسأل، مَن هذا الشاب الذي يتحدث عنه المؤلف باستمرار في مختلف مشاهد الكتاب؟ ببساطة، إنه شاب مُتخيَّل، غير حقيقي، لا حياة له؛ أي إنه متواجد في عقل مؤلفه، مما يجعله قابل للتشكُّل بما يتناسب مع أهداف الخطاب وتوجهاته. ما يفسر لنا سبب اختيار المؤلف للنبرة الحتميّة في سرده للأحداث؛ إنه الـمُخرج لهذا المشهد، وهو المتحكم بكل تفاصيله؛ فكل علاقة عاطفية هي بالضرورة فاسدة ونهايتها وخيمة، لأن هذا ما يخدم حكم المؤلف في إثبات تهمة الهشاشة النفسية على الأجيال الشابة.
لا يعني هذا بأي شكلٍ من الأشكال أن المشاهد المذكورة في الكتاب لا تحدث في الواقع، لكن ما نريد التشديد على أهميته هنا بعيدًا عن التنظير والتخيُّل، هو أن الأحداث الواقعية في حياتنا المعاشة تحصل لأشخاص حقيقيين يعيشون حياة حقيقية ليست مجردة أو منزوعة من سياقاتها.
لا، لا يصح ذلك؛ لأن انتزاع الفرد -أيًا كان- من سياق الحياة المعاشة تحوله إلى شيء غير واقعي (شيء مُتخيَّل قابل للتشكُّل) ، ما يؤثر سلبًا في موضوعية التحليل؛ فلا يمكننا الاحتكام في تحليلنا إلى النماذج التي يقدمها إسماعيل عرفة في كتابه؛ فمَن يدري، النفسية.
الهشاشة النفسية تحت المجهر
لننطلق من هذه الفكرة البديهية؛ حياة البطل في القصة لم تبدأ مع بداية قصته (في مكتب استقبال الشركة)، ولم تنتهِ إلى الهاوية بنهايتها (بعد خروجه من الشركة)؛ إنها حياة حقيقية مُعاشة في عالمنا الواقعي (بدأت منذ ولادته وستنتهي عند مماته)، ما يجعلها أكثر ثراءً و تعقيدًا ما يمكن سرده في مدخلٍ قصصي، لذا علينا البدء بالتأكيد على فرادة حياة الشاب، حيث إن معتقداته وطموحاته وعلاقاته وصدماته والتزاماته .. إلخ.
«كانت الجلسات تتمحور حول تأخره عن الموعد، أين وكيف وهو الحاضر قبل ساعة، نستطيع رؤية أثر المسؤولية الفردية في خلق ضغوطٍ تحصر الفرد بين مِطرقة خطاب الهشاشة وسِندان البيئة،
هشاشة النفس أم الحياة؟
هنا يكمن الإشكال الأساسي في توجه المسؤولية الفردية كما يتبناه خطاب الهشاشة، إنه يعزل الأجيال الشابة عن بيئاتهم ثم يطالبهم بحمل أثقال الحياة على أكتافهم، وعندما تنكسر ظهورهم، يتم اتهامهم بالضعف والكسل! هذا لأنه من منظور المسؤولية الفردية، هناك حل لمعظم المشاكل التي يواجهها الإنسان في حياته، وهذه الحلول غالبًا ما تقع على عاتقه كفرد؛ أي يكونوا أقل تذمُّرًا حتى وإن كانت معاناتهم حقيقية:
* شاب متأثر نفسيًا بسبب شح الفرص الوظيفية في سوق العمل .. غالبًا ما يتم اتهامه بالهشاشة ومطالبته بالعمل في أي وظيفة شاغرة.
هذه ليست أمثلة مُتخيَّلة نحاول صياغتها لخدمة تحليلنا، بل هي تصورات سائدة عن الهشاشة النفسية للأجيال الشابة؛ فبالرغم من افتقارها إلى الواقعية والإنصاف -إلا إن هناك مَن يؤمن بواقعيتها وصحة أحكامها؛ إنهم أولئك الذين يَحصِرُون أسباب انكسارات النفس في العوامل الفردية الخاصة، كي يُخلِّصوا أنفسهم من ثقل حمولة المسؤولية العامة؛ فنسمعهم يقولون إن الشباب تشرَّبوا الدلال حتى تسمَّموا بالاستحقاقية وأصبحوا أكثر عُرضةٍ للكسر، ونجدهم يُشخِّصون الأزمة بأعراضٍ تحوم حول كل ما هو جوهري كالقيم والأخلاق والأهداف، الأمر الذي يجعل وصمة الهشاشة النفسية من منظورهم تُعبِّر عن فسادٍ مُتأصِّل في طبيعة الجيل بأكمله.
هذا ما أعطى خطاب الهشاشة نبرته الوعظيّة؛ إنه قائم على أساس المفاضلة بين الأجيال؛ فالجيل الأكبر يخاطب الجيل الأصغر ويعظه مُوَبِّخًا: «نحن أفضل منكم. قيمنا أفضل وأخلاقنا أفضل وأهدافنا أفضل».
لنتوقف هنا قليلًا ونسأل أنفسنا: ما الدافع وراء تبني خطاب الهشاشة لتوجه المسؤولية الفردية ونبرة الوعظ المتعالية؟
بالعودة إلى أفكار مَن أخذوا على عاتقهم ترويج هذا الخطاب، نستطيع استشعار رغبتهم المبطنة بالمحافظة على الوضع الاجتماعي وممانعة تغيُّره؛ بمعنى، إنه موقف سياسي-اجتماعي يُعارض حاجة الأجيال الشابة إلى التغيير المواكب لتطورات العصر وتحدياته. كل هذا باسم «المحافظة على القيم الاجتماعية»؛ لأن التغيير من منظور الفكر المحافظ، قد يكون البداية المؤدية إلى تفكك القيم وزوالها؛ فنجد هناك مَن يرفض أبسط الحلول لإصلاح مشاكل البيئة المؤثر.
في هذه الحالة، لا عجب من اتساع فجوة التفاهم بين الأجيال؛ فما النتيجة المرجوة من تسخيف معاناة الشباب والشابات؟ إنه موقف تصادمي يكشف لنا انفصال خطاب الهشاشة عن الواقع المعاش في السياق التاريخي؛ لأن الحياة لم تتوقف يومًا عن الحركة في الزمن.
نحن نعيش في عالم يوَلِّد تحديات متجددة كل دقيقة، فالتنمر الذي قاساه الآباء قبل خمسين سنة، يختلف كليًا عن التنمر الإلكتروني اليوم؛ الأجيال تختلف والمعاناة تختلف والحلول تختلف أيضًا.
هذا يقودنا إلى استنتاجٍ في غاية الأهمية، وهو أن ظاهرة التأزم التي نحن بصددها، تَشَكَّلت نتيجة تفاعل عدة عوامل خاصة بأسلوب الحياة العصرية، مما يُبَرِّئ ساحة الأجيال الشابة من تهمة الهشاشة المتأصِّلة في طبيعتهم.
هذه هي الحياة كما نعرفها اليوم، إنها مُنفَتِحة على كل السُبل الممكنة وتطفح بالخيارات إلى حد الشلل؛ فهناك عشرات المسارات المتفرِّعة مع كل خطوة يخطوها الفرد في هذا العالم المثقل بالصور الدعائية «للحياة الناجحة» و «الحياة المميزة»، مما يدفعنا للإفراط بالتفكير في كل قراراتنا. هل علي تغيير تخصصي؟ هل علي ترك وظيفتي؟ هل علي الإصرار للزواج بمَن أحب؟ ماذا علي أن ألبس؟ أن أشاهد؟ أن أقول؟ كل هذه الخيارات المتاحة -أو ما نعتقد إنها كذلك- لما يمكن فعله، تدفعنا للهوس باتخاذ أكبر قدر من القرارات السليمة في أقصر مدة ممكنة؛ فلا مجال للخطأ، لا مجال للتباطؤ!
والنتيجة هي قلق مستشر تمتد خيوطه في نسيج الحياة كما نعيشها ونخوض غِمارها. نحن لا نعاني لأننا ننتمي إلى جيلٍ هش غير قادر على تحمّل المسؤولية؛ بل لأننا نسعى للعيش بأصالة في عالمٍ زائف. فما بين ضغط الأهالي وضغط الأقران وضغط الثقافة الاستهلاكية وضغط الإعلام الموَجَّه، يسأل الفرد نفسه: «هل ما أرغب به هو فعلًا ما أرغب به؟».
الفشل في تحقيق الأحلام قد يترك الشاب مكسورًا، لكنه سيعطي قوّة خفيّة تتولد فيما بعد ليتابع بإصرار أكثر وتحدٍّ يثبت، أنّ العيب لم يكن فيه؛ بل في نماذج سيئة من المجتمع.