دراسة
إِشْكاليّة ُالوُلوج ِإلى هَيْمناليّة النصّ التفكيكيِّ [الشاعرحسين القباحي النوبي نموذجاً]
أحمد عبد المعطي حجازي حسين القباحي
د. نبيل قصاب ياشي *
قبل الشروع في خضم إشكاليات هذا الولوج ، ينبغي التنويه دائماً إلى المغايرة التي تصدمنا ، بين حداثة اللغة ولغة الحداثة في النص الحداثي بوجه عام . وأول إشكالية تصدمنا في النص التفكيكي ، هي لغته الحداثية التي تبدو لي أشبه بعناكب الغار ، بمعنى أن نسْقها اللغوي العنكبوتي لا يمكن أن تفهم هندسته الغوغائية إلا في إطار المعيار التفكيكي . وقبل أن نغامر في تفكيك هذا النّسْق ، من خلال بعض النصوص الحداثية ، يروق لي أن أشير إلى أن قراءاتي الحداثية ، ساقتني إلى اكتشاف منظومة حداثية من المصطلحات الجمالية الفنية ، خبأها القرآن الكريم بين كنوزه ، وضممتها في كتاب تحت عنوان ” التناصُ الحداثي ُّمع منظومة ِإعجازِ القرآن ِالبلاغيّة ِ” اهتديت من خلاله إلى سبق تراثنا البلاغي ، جماليات ِالحداثة الغربية بأربعة َعشرَ قرناً ؛ وهذا ما عكف عليه المرحوم الدكتور” عبدالعزيز حمودة ” في كتابيه : [المرايا المحدبة / والمرايا المقعرة ] حين دلل على سبق البلاغة العربية, مصطلحات ِالحداثة ِالجمالية الغربية ، لأكثرَ من اثني عشر قرناً .
أقول : إن هذه الدراسة هدتني إلى الخوض في المنظومة الفنية الحداثية ـ والتفكيكية على وجه التحديد ـ هدتني إلى تشبيه العلاقات أو العلامات اللغوية العشوائية المنتظمة في آن معاً بالمنظومة الهندسية العنكبوتية ؛ ومنها اهتديت إلى أن ومضاتها الدلالية التي تبخ المعنى بخاً ، تتأطر فيما اصطلحت ُعليه بمعاني معنى المعنى ؛ أي بما وراء الدلالة المجازية من عناصر لا تدعي أي ارتباط مما يجعلها تذهب بالناقد أو المتذوق مذاهب شتى من الدلالات المجازية التأويلية تُسقط المبدع في فوضى التركيب اللغوي ، وهو الذي سماه ” ووكر ” بمعنى اللامعنى (1)، أو ربما أودت به إلى ما يشبه حال المريض الذي وقع تحت تأثير المخدر الطبي ؛ وهذا مغاير تماماً إلى ما اصطلح عليه ” عبد القاهر الجرجاني ” في كتابه ” دلائل الإعجاز ” بمعنى المعنى . وحتى لا تكون الحداثة دُوّامة اختلط فيها الحابل بالنابل ، ينبغي أن يكون الحداثي حداثياً حقيقياً ؛ بمعنى أن يكون قد ثقف حابل الحداثة ونابلها ، حتى يتمكن من فك خيوطها ، ويعي وعياً حقيقياً هندستها الجمالية المعقدة التي نلمس دقتها في هندسة العنكبوت العشوائية ، حين نحسب خيوطه عبثية اعتباطية ، فإذا ثقفنا هندستها أدهشتنا دقتها اللامتناهية في الجمال والجلال . وعليه فقد ازددت احتراماً للناقد السوري الدكتور ” سعد كليب ” – وهو من أنصار الحداثة – عندما أصدر كتابه تحت عنوان : ” نحو وعي حداثي” بعد أن ركب موجة الحداثة كل من هب ودب من الصغار والكبار ، هذا ما نعايشه اليوم في ساحة حداثتنا العربية ، ودراستي هذه تنحو في نواتجها منحى الكشف عن مذاهب الاعتباطيين العبثيين ، الذين انتهوا إلى نفق مسدود من الإبهام المتعمد ، والتعمية المقصودة ، والغموض المغلق . و تنحو في الوقت نفسه إلى أن تتلمس في نواتجها ملامح النص التفكيكي من خلال قراءته قراءة تسجيلية ، من واقع بعض النصوص التي جعلتها نموذجاً لهذه القراءة . وإليك طائفة منها للشاعر المصري ” حسين النوبي ” من ديوانه الأخير[ غداً يرتديك ِالبحر ] .
يذهب بنا عنوان هذه المجموعة الشعرية منذ البدء إلى مجازية : زمانية (غداً) ومكانية (البحر) لفق الشاعر بينهما بتشيُّؤ (الرداء) ؛ فللبحر دلالات شتى ولارتدائه دلالات أخرى ، ( وغداً ) هوهذا الزمان المشتهى لهذه الدلالات . إن تلفيق الشاعربين هذه الدلالات المكتظة ، منحها فسحة غير محددة من الدلالات العشوائية ، في إطار المستوى السطحي ، مما جعلها تخترق سدف معاني معنى المعنى ، فاختلط مجاز زمانها بمجاز مكانها ؛ ثم تشيّآ في رداءٍ يشتهي الشاعر التطلع إلى مستقبله ؛ فللعنوان إذن دلالات متنوعة ، ربما تجمعها نصوص الديوان جمعاً تلفيقيّاً تفكيكياً في آن معاً .
وهذه إشارة أولى لتفكيكية النصوص الشعرية التي يضمها الديوان . مع أني أزعم أن الديوان يبدو لي نصاً واحداً ، تتداخل فيه نصوص من خارجه ومن داخله على حد سواء . وإذا كانت النصوص في المعيار التفكيكي تتداخل في نص واحد كما يرى”ليتش ” وكما يرى السيميولوجيون أمثال رولان بارت ، يقول “روبرت شولز “: ” إن النص المتداخل هو نص يتسرب إلى داخل نص آخر ، ليجسد المدلولات، سواء وعى الكاتب بذلك أم لم يع ِ “(2) ويرى الشاعر” محمود درويش ” : ” أن 090/ 0 من القصائد الحداثية هي قصيدة واحدة يكتبها شاعر واحد أو هي نص واحد يكتبه آلاف الشعراء ” (3) . وإذا كان الديوان نصاً واحداًمن حيث بؤرته الحداثية بنيويا وتفكيكياً ، مع اختلاف شيفراته المقطعية ، فإن لكل مقطع هامشه ، ولكل هامش استنطاقاته ، التي تقدم الدلالات المبعثرة ، في إطار من التشتيت يلمه عنوان النص ، الذي لايعدم هو الآخر شيفراته ، وشتات دلالاته ؛ وهذه بعض عناوين المجموعة : (سُرَّ مَنْ ــ ماذا لو أنّ الأشياء ــ هذا رداء الرمل ــ رداء الأخلاط ــ رداء النعش )
ولنختر شذرات من مقاطع ” ماذا لو أن الأشياء ” وهذا النص في [ غزة ] تحديداً: [ماذا لو جاءت / على غير العادة / ليست حمراء وليست صاخبة / لا تلبس أوراد الصبح الشاردة على كتف الماء / بيضاء بلا دمع أو دم / لا وجع ولا شكوى… لا هم ] .
ثم يقول : [ وأصابع وحشتها تعرف كيف تطرز ما شف من القول /تدغدغ حاشية الرمل هنيهة وجد / تذهب حيث تريد / ولا تلقي بالاً لذهول الخلق وأسئلة الأطفال / بنشيش الزُّبْد على صبح بدوي / وَخْد خطاها يهطل منشغلاً بالذكر وأدعية الفقراء / والليل كما شاءت يفضي بالسر / يعدل ناصية النجم الشارد ليعود / صفاء نعاس أبدياً / خبباً يرتد من الفلوات / قوافل وتجارات /ونبيذ / أنثى يتحدر فيها عشق مخفي في طلل مرقوم ] (4) ، ولو لاءمت بين دلالة العنوان ومعاني معنى معنى النص الرئيس لوصلت إلى دلالة تقول : ( ماذا لو أن غزة تحررت وعاشت حريتها ) ؛ ولعل ملاءمتك بين العنوان والنص أشبه بمن يجعل العنوان قبعة ، ثم يذهب مع خيوط معاني معنى المعنى , لينسج منها بنطالاً يتلاءم قماشه ولونه مع قماش القبعة ولونها ، ولاهتديت إلى نسج تبقى خيوط مبعثرة كخيوط العنكبوت ، حينئذ ترى من خلالها النص ولا يراك ، أويراك النص أحياناً ولاتراه ، تعميك غيومه المجازية وترميزاته الضبابية .
من هنا نجد ” دريدا ” يضع المجاز تحت ” كشطة ” يصعب عليك ويشق أن ترى تحتها النص المكشوط ، ولهذا فإن الناقد أحياناً يفقد هيمنته على النص ، وهو في الوقت نفسه لا يرغب في السقوط ، وعليه فإن النص وناقده يجب أن يفتحا نفسيهما على القراءة التفكيكية (5) . وإذا كان “دريدا ” يستخدم قراءة ما تحت الكشطة ، أو قراءة الفضاءات البيضاء في النص ، فهذا عندي ـ كما أسلفت ــ أشبه بخرافة الرجل الذي يرتدي قبعة الإخفاء ؛ فهو موجود ولكنك لا تراه أي حاضر غائب ، وقد يكون هذا شبيه ـ عندي ـ أيضا ً بعلاقات الحضور والغياب في النص الحداثي الهيمنالي Hymnenelـ تحديدا ًـ .
وكثيراً ما ارتدى الشاعرالحداثي الاعتباطي مثل هذه القُبَّعة في نصّه ، وكثيراً ما كنت حريصاً على أن أمسك بتلابيبها حتى أنزعها عن رأسه ، فأفلح أحياناً وأفشل تارة أخرى ، وليس في فشلي ولا في قبعته ما يعيب أحدنا ؛ لأن فشلي وقبعته هو غائية المدرسة التفكيكية الهيمنالية ؛ فالناقد أو المتذوق قد يعجز عن قراءة فضاءات بيضاء بين سطور النص عارية من دلالات الكتابة ؛ أو أن يقرأ في صفحة مكتوبة كشطت كتابتها ، وطلب منه أن يلم الحبيبات المكشوطة ، ليشكل منها كتابة أخرى ربما تختلف عن كتابة النص الأصل أو الكتابة الأصلية ــ كما يسميها دريدا ــ . ومرة أخرى نحاول معا ً الوصول إلى الكتابة الأصلية في نص ” النوبي ” الموسوم بعنوان (هذا رداء الرمل ) :
[…. وتدري أن للبحر التفاتته / ومسافة يرتد فيها الموج عرياناً من المعنى / يخبئ ما تسلل من ظلام الليل / في لمعان صرخته / هنا في تمتمات العابرين على الرصيف تمر رائحة الغزاة الراقدين على الرمال / ترتادنا المدن الجديدة / وهي تعبر مثلنا نحو الهباء / هنا لا يستوي الضدان / والأصداف لاتنسى / ولكن للفناء طريقه المعروف ….. إلخ] (6) .لنتفحص هذه الإيماءات ونجمع حبيباتها المكشوطة ، لنصل إلى الكتابة الأصلية التي تقول : ( إن حماة الوطن فشلوا ، ولكن الغزاة خاسرون مثلنا ، وهنا لا يستوي الضدان : المحتل والمحتلون ؛ فالجوهر سيبقى والعدو الغريب طريقه للفناء ) .
فتحديد الشيفرة هنا من خلال إيحاءات الدلالات الجزئية الضبابية وعلاماتها المجازية ، هي أشبه بحركة طَرْفة العين وهي تنغلق . فنحن إذن أمام نص لايمكن أن نتلمس دلالاته إلا كما تتلمس العين الشي ء ، أثناء طَرْفتها الخاطفة بين الفتح والإغلاق . ونحن هنا أيضاً أمام نص له حضور ، هو هذه الشيفرات والعلامات ، وله غياب هو هذا النص الأصلي الذي نحاول إعادة كتابته ، فنص الشاعر النوبي الحداثي منتهك ولا منتهك ؛ وهو المكتمل طيُّه وفتحه في آن معاً ، ونحن إذ نفك بنياتـــه الميتافيزيقية الفاعلة في النص لاعتقادنا بوجود مرساة له ، وفضاءات بيضاء ، لها دورها في لعبة المعنى ؛ فإنما نفعل ذلك لنستكشف مغاور الدال ، ونقلب تراتيبيته ونزيح ما قلبناه وصولاً إلى استراتيجية التفكيك الذي يرمي إلى إعادة البناء ، من خلال فضح نظام القواعد التي يستنها النص نفسه . (7) . وعلى هذا نستطيع أن نصف نص النوبي الحداثي الهيمنالي ” بالنص الذي يشكله الإخفاء بقدْرما يشكله الإفشاء ، وأن الإخفاء هو نفسه إفشاء والعكس بالعكس ” (8) .على الطريقة الهيمنالية .
وهذا لا يعني أن في نصوص الشاعر النوبي ما يصعب تفكيكه ؛ أما إذا رغبت في تفكيك نص لا يسبر غوره ، فإن ذلك سيقودك إلى تفكيك التفكيك ، وهو فحص ما يفلت ـ بطريقة ما ـ عن عين القارئ ؛ وبذلك لا يكون التفكيك علماً إيجابياً (9) ؛ وهذا مأزق مزدوج أطلق عليه دريدا ” فصام ما تحت الكشطة ” . وفي هذا لذة الهاوية إلى اللاقاع ، وبذلك يغدو التفكيك هاوية تحت هاوية . ويرى ” جايتريا وكريستوفر ” أن هذه الهاوية ظهرت بعد أن رفع ” نيتشة وفرويد وهيدجر ودريدا ” الغطاء عن الأفكار التي تثير الألفة بخصوص إمكان المعرفة (10) .
فنصوص الشاعر النوبي بوجه عام تستطيع أن تحدد النصوص الأصلية فيها بعد أن تكشط جميع علاماتها ومجازاتها ، ولكن إيماءات هذه النصوص وإشاراتها القابعة وراء سياجها المجازي واللفظي ، في إطار الجزء المنفصل عن إطار الكل ( العضوية ) تحس أنها تدور حول نفسها ، وأنك تدور حولها فتزيغ عيناك ويدوخ دماغك ، وتحاول أن تلم رذاذ هذه الإيماءات في غمامة ، لعلك تتنبأ من خلال أرصادها الجوية بدرجة الحرارة أو بنسبة الرطوبة في جو النص العام (الكل ) الذي يحدد الأصل .
وبعد فإنك لا تجد في نصوص الشاعر النوبي الحداثية الاعتباطية نمطاً مثل نمط النص الحداثي ” السيابي ” أو” القباني ” أوكمن نهج نهجهما في توصيل المعنى من خلال علاقات مجازية ولغوية مفهومة ، في إطار الإيماءة الدالة والترميز الكنائي ؛ فنص النوبي ــ وهو نموذج لكل نص تفكيكي ــ مغلق في جزيئه المجازي، مفتوح في إطاره الكلي ؛ وهذا الازدواج بين الانغلاق والانفتاح ، يقود المتلقي أحياناً إلى مأزق يحرجه ويتركه في ريبة وارتباك ، لأن قراءته تصبح أشبه ” بصور أشعة إكس التي تكشفُ عن صورة أخرى مخبوءةٍ تحت بِشْرةِ لوحةٍ زيتيّة للرسام نفسِه أو لرسامٍ آخر لا فرق ” (11) ولهذا فإن نص ” النوبي ” الحداثيَّ مستنسخ من بطن البؤرة الحداثية ، ينبغي أن يُتذَّوق على نحو خاص في إطار الثقافة الحداثية المعقدة ، وإن العلاقات اللغوية في نصه هي أيضاً بؤرة تذوقنا للجمال الفني المبنيِّ على هذه الثقافة .
إن نصوص ” النوبي ” في مجملها أجادت المراوغةَ بحقٍ في اللعب على علامات الدال والمجاز اللذين يكملان المهمل في استكشاف أغوار النص ، وهذا شئ يُحمَد له ؛ ولكنّ الخطير أن يستخدم الناقدُ هذا الاستكشافَ باللعب على أجزاء من المفردات ، أو على الفضاءاتِ البيضاء في الصفحة فقط ؛ فإن أداته الاستكشافية في هذه الحالة تصبحُ مراوِغةً جداً ، و” عندما لايستطيع الناقد أن يكشفَ العلاقة بين النص المعادِ كتابتُه ، وبين النص الأصلي ، تظل أيةُ كتابةٍ أصلية مجردَ أثر”(12)لا قيمة له .
وأخيراً . . أزعم أنني حاولت الولوج إلى نموذج من النصوص الحداثية التفكيكية بحذر، ولملمتُ بعضَ أصداءِ إشاراتها ، ورموزِ برقياتها ، من خلال الدخولِ في تفكيكاتها التي تبدو عند كثير من الحداثيين مستغلقةً ، مُوغِلة في الغموض الذي ينحو منحى الإغلاق في لانهائيةِ الدلالة ، وعبثيةِ العبارة ، واعتباطية الإشارة ، في قالب موسيقي تتكسر إيقاعاته في صدىَ مغمغمةٍ ، لا تتماسك سلالمها الموسيقية ، ولاتومئ ببارق معنى المعنى ، أو ببوارق معاني معنى المعنى ؛ فما عاد ” بلند الحيدري ” يفهم ما يقوله أدونيس ” ولا “أدونيسُ ” يستطيع أن يُفصحَ عما يفهم ، يقول بلند : ” أنا لا أفهم أدونيس وهو أقرب أصدقائي ، وأصدق أصدقائي ، أعرف كل دخائل حياة أدونيس ، لكن ماعدت أفهم قصيدته .. ويعتز بأن الآخر لايفهمها ، ويلتذ بأن هذا الآخر ربما جاهل ، أو قاصر عن استيعاب تجربته “(13) ويخاطب الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي أدونيس متسائلاً : ” كيف تخاطب الآخرين بلغة خالية من آثار وعيهم الجماعي والتاريخي ، لغة مفرغة من الذكرى والحلم ؟ .. ” (14) ولا أنا العبدُ لله بتُّ أفهم ما يرمي إليه أحدُ الشعراء اللبنانيين حين قال : ” والله لو وصلت قصيدتي إلى المتلقي لحرقتها ” ولا ” مالارميه” حين قال :
” إن أسمى أنواع الشعرِ مالم يُعبَّر عنه ” فلماذا إذن يكتب المبدعُ ؟ ولماذا يسمع المتلقي ؟ ولماذا أخي القارئ تتجشم مشقة قراءة هذه العجالة ؟ إن هذا النوع من الشعر ينأى عن عبقرية اللغة التي اتسعت أوعيتها المجازية والكنائية للإفهام لا للإبهام , و للتعبيروالتصوير والتبصير لا للتشويش والتغميض و التغرير ؛ ولكن النص الحداثي التفكيكي نص انفصاميّ فصاميّ ، بمعنى أنه : ” يعمل على شل جميع قدرات الفرد ، ومن ثم لا يستطيع الفنان أو الشخصية المزدوجة تلك أو الفرد بوجه عام في ما بعد الحداثة أن ينتج حدود كيانه الإنساني ، لا يستطيع أن يعرضه أو يمثل دوره أو وجوده , لا يستطيع أن يعكس ذاته كما في المرآة , إذ إنه الآن ليس إلا شاشة بيضاء ، هي موضع كل شبكات التأثير والتشكيل ” كما يرى ” بوديلار ” . (15) ، إن هذا النوع من الشعر نتاج ثقافة العقلية الفصامية لما بعد الحداثة ، كما أسماها ” جيمسون ” ، ثقافة ثمانينات القرن المنصرم ، التي تعلن فقدان النص كلَّ ما يربطه بغيره من تواصلية وتعاقبية . (16) ويعترف ” وليام باراس ” بأن أعماله الشعرية تقدم ” صوراً ليس بينها روابط ” (17) .
وأخيراً هل نعلن موت المؤلف كما أعلنه ” رولان بارت ” حين قال : بأن النص من الآن فصاعداً على كافة مستوياته وبجميع أدواته منذ صناعته وحتى قراءته يظهر بشكل يغيب فيه المؤلف غياباً كاملاً ” (18) أم نتريث ونقول بأن عبارة بارت عبارة مراوغة في دقتها ترمي إلى السخرية , بمعنى أن المؤلف لم يعد يبتكر، وأنه ” يستطيع فقط أن يتبع لمحات خارجية مسبقة , لا داخلية جديدة يفرزها الكاتب من أعماقه حال الكتابة نفسها ” (19) وأن ما يفعله حينئذ هو مجرد عملية خلط للكتابات الموجودة بالفعل لا ابتكاراً كاملاً وابتداعاً خالصاً . (20)
وبعدُ .. فهذا مااستطعتُ أن أقدّمه في هذه العُجالة المفتاحية لنصوص “النوبي ” الحداثية ، من خلال موقعه الحداثي في شبكة العلاقات اللغوية العنكبوتية ؛ فإذا كان أحد الزملاء يعرف موقعاً آخر في هذه الشبكة ، فليسجل لنا العنوان البريدي ، كي نتعرف جانباً آخر أو قراءة أخرى للشيفرات والومضات البراقية في نصه التفكيكي الهيمنالي .
*شاعر وكاتب سوري – الإمارات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات :
(1) نيكولاس زربرج . توجهات ما بعد الحداثة ص 250(ترجمة ناجي رشوان) الصادر عن Routledge – 1993 . نشر المجلس الأعلى للثقافة . ط1 القاهرة 2002م .
(2) د. عبدالله الغذامي . الخطيئة والتكفير 321 . النادي الأدبي الثقافي . جدة 1985 م
(3) لقاء محمود درويش مع مجلة الجيل ؛ نشرته جريدة البيان الإماراتية (الاثنين 14مارس 1983م ) .
(4) حسين القباحي (النوبي) ديوان/قريباً يرتديك البحر 56 . ط1 دائرة الثقافة والإعلام . الشارقة 2007م
(5) جايتريا سبيفاك وكريستوفرنوريس . صور دريدا 105 (ترجمة حسام نايل) طبع ونشر المجلس الأعلى للثقافة . القاهرة 2002م .
(6) الديوان 65
(7) انظر صور دريدا 108
(8) انظر المصدر نفـسه 67
(9) انظر المصدر نفسـه 109
(10) انظر المصدر نفسه 110
(11) انظر المصدر نفسه 106
(12) انظر المصدر نفسه 106
(13) مجلة المنتدى ـ العدد (11) اكتوبر1992م
(14) من ندوة عقدت في تونس , نشرت في الملحق الثقافي لجريدة البيان الإماراتية ، وانظر كتاب ” في قضايا الشعر العربي المعاصر ” ص 14 تونس 1988م, نشر المنظمة العربة للتربية والثقافة والعلوم .
(15) 13 Baudrillard, ” The Ecstasy of Communication,”
(16) نيكولاس زربرج . (ترجمة ناجي رشوان) توجهات ما بعد الحداثة ص 229
(17) المصدر نفسه 249
(18) Roland Barths, ” TheDeathof theAuthor “, inImage- Music-Text,145.
(19) نيكولاس زربرج . توجهات ما بعد الحداثة ص39
(20) المصدر نفسه 39