إبداعات

قصة قصيرة تيوليب

نادية عبدالوهاب خوندنة*

أزحت ستارة النافذة الكبيرة لأرى الموقع الذي تطل عليه الغرفة الوثيرة، فقد سألني موظف الاستقبال إن كنت أريد غرفة ذات موقع هادئ، و ربما كان سؤاله المهذب تعويضًا لنقاشه معي حتى يتأكد من تاريخ قدومي للبلاد وأنه كان لي تذكرة عودة للوطن، أو ربما من تعوُّده سؤال النزلاء عما يفضلونه، لأن الفندق بأكمله و بما فرضته ظروف العزلة      و التباعد الاجتماعي صار متلفحًا بالهدوء و السكينة على غير عادة الفنادق الكبيرة، بل إن البهو الأنيق ليثير الأسى بآرائكه المخملية الخالية، و التي لا يشغلها سوى الفراغ المتثائب ليل نهار.

كانت الغرفة مطلة على الساحة الكبيرة المجاورة لمركز الفنون Place des Arts في وسط مدينة مونتريال على الشارع الرئيسي للمدينة سانت كاترين.. صمت قاتل في هذا الوقت قبل الغروب الباهت – لو رميت إبرة لسمعت صداها- سبحان مغير الأحوال .. هذه الساحة التي تقام فيها الاحتفالات مثل مهرجان موسيقى الجاز الصيفي والمهرجان الكوميدي Just For Laughs يحفها الآن صمت مطبق، كأنه صمت القبور.

القبور؟ “وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت”. يا ربي يا حبيبي هل؟ ماذا لو؟ أفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.

انتشلني رنين الهاتف لمكالمة فيديو جماعية لزوجي وأبنائي يطمئنون عليّ، مسحت دموعي الساخنة على عجل وأسرعت أطمئنهم أن الأمور على ما يرام، فالسفارة مشكورة تجاوبت سريعاً مع طلبي ورغبتي في عزل نفسي عن الأحبة الذين أقيم معهم والذين جئت خصيصاً لأجل تمضية وقت سعيد معهم، وحكيت لأسرتي عن الضيف الثقيل الذي يسرح         و يمرح وحده في الأماكن الجميلة التي زرناها كثيراً سوية..

تناولت أدويتي المعتادة وأضفت اليها دواء التهاب الحلق .. لعل الله يعجل بشفاء تام من الالتهاب وارتفاع الحرارة البسيط، لابد أن أخرج غداً إن شاء الله لشراء ليمون وزنجبيل وعسل…. المزيج الذي أؤمن بأن الله وضع فيه من أسرار الشفاء الشيء الكثير.

كيف السبيل إلى قليل من النوم؟

بعد غد يرحل أحبتي من مونتريال لوجهة بعيدة أخرى، لابد أن يسرعوا بالرحيل قبل أن تغلق الحدود بين الولايات..

سأبقى هنا ..لا أريد أن أنقل لهم العدوى لو كنت مصابة لا سمح الله، و لكن ماذا لو أغلقت الحدود قبل أن أتمكن من اللحاق بهم؟ و لو كنت غير مصابة و ما أشعر به سوى أعراض نزلة برد عادية و لحقت بهم بالطائرة، أخشى انتقال العدوى لي أثناء التنقل في المطار أو على متن الطائرة… يا إلهي الطف بي بلطفك الخفي… لقد أكرمتني  طوال عمري بسكنى خير البقاع و أطهرها و أحبها لك ، فهل ستحين منيتي في أرض غريبة؟ وبعيداً عن رفيق روحي وفلذات أكبادي لأعود لهم في تابوت مكفنة في صقيع كندا الأبيض؟ حتى هذه العودة لأدفن في تراب الوطن لن أنالها لو مت هنا بعد أن أجبر فيروس كورونا المخيف البلدان بأجمعها على إغلاق مطاراتها..إذن سأدفن هنا .. الحمد لله يوجد كثير من المسلمين هنا وكل مقدر ومكتوب من الله خير..

استيقظت في اليوم الثاني وتذكرت أن اليوم عيد الأم … تهاني عائلتي الحبيبة تملأ مجموعة الواتساب وروداً وزهوراً وقلوباً حمراء … بأية حال عدت يا عيد؟

لابد أن أخرج لشراء بعض الحاجيات الضرورية وأهمها ترمومتر لقياس الحرارة .. لايزال كفي يخبرني – بعد وضعه على جبيني- أن هناك بعض الحرارة وإن أظنها انخفضت قليلاً عن الأمس ، كما أن الألم في حلقي قد تحسن بعض الشيء بحمد الله.

اتجهت إلى المركز التجاري  Complexe Desjardins  في الطابق الأرضي تحت الفندق و استقبلني سكون مؤلم … هدوء قاتل … بالطبع كان يوجد بعض المتسوقين في السوبر ماركت مع حفظ المسافات و التباعد في ما بينهم ، وقد تحصنت المحاسبة وراء حاجز شفاف، ومن الذي يلومها والرعب صار يتزايد طردياً مع تزايد الحالات يومياً..

لم أجد الترمومتر فقد خلت منه الأرفف المخصصة له، كما تناقصت معقمات اليد والأقنعة ما اضطر إدارات مراكز التسوق والصيدليات إلى تحديد العدد باثنين لكل شخص.

استشرت السيد غوغل أين أجد أقرب صيدلية وخرجت أتبع إرشاداته.. ودعتني واجهات المحلات التجارية الحزينة وكأني أسمع نحيب دمى العرض برغم أنهن تجملن بمجموعات الربيع بألوانها البهيجة، و لكن تأجلت الفرحة حتى حين ..

اعتصرني حزن شديد حينما مررت بالنافورة الكبيرة في وسط ساحة المركز التجاري .. هنا وقفت مع حفيديّ لصور تذكارية مع فزاعة هالوين نهاية أكتوبر الماضي، وكم التقطت صوراً كثيرة بكاميرا الجوال لديكورات الخريف التي تتصدر فيها سيدته بلا منازع السيدة اللطيفة يقطينة – وأنا من محبيها ديكوراً وطبخاً – بكل الأحجام وتدرجات الألوان الدافئة بين الأرجواني والبرتقالي..

وجدت فندق هوليداي إن على يساري و لا يزال الأسدان المزينان بالألوان الصارخة رابضين على بوابته الكبيرة بالقرب من الحي الصيني، الذي بدا خالياً تماماً عدا من ريح شديدة البرودة، واتجهت مع إرشادات الجي بي إس صعوداً باتجاه كنيسة نوتردام، النسخة المصغرة من سميتها الباريسية الشهيرة، والمعلم المعروف لقلب مدينة مونتريال العتيقة، أو كما يسميها الجميع منطقة المرفأ القديم …

سبحان مقلب القلوب ومغير الأحوال ..أسير وحيدة لا يرافقني سوى الهواجس والوساوس في هذا الطريق المألوف الذي لطالما سرت فيه إمّا مع العائلة جميعاً في الصيفيات الطويلة وإما مع الحفيدين فقط لزيارة متحف العلوم، أو لزيارة السيرك أو ركوب السفن على نهر سان لوران.

ولكن أين الصيدلية؟ عشرات المرات كنا هنا ولم يلفت انتباهي ولا مرة واحدة أن صيدلية توجد في هذا التقاطع.. كدت أعود أدراجي وأنا أحدث لنفسي بأنني ولاشك قد بالغت في مخاوفي من أعراض بسيطة، وإلا لشعرت الآن بإنهاك شديد من المسافة التي قطعتها للحصول على هذا الترمومتر الذي بدا صعب المنال.. حينها شاهدت شابة تخرج من مبنى قريب، ولدهشتي كانت اللوحة الخضراء الصغيرة التي أبحث عنها موجودة على مدخل المبنى.

الحمد لله وصلت.. ولكن ما أن دخلت وسحبت رقماً ورأيت الصيدلاني والصيدلانية حتى كدت أخرج … جبناً وفزعاً… ولمت نفسي كيف لم أتوقع ما رأيت؟

توجس قلبي منهما لأنهما ذوا ملامح صينية ولكن عقلي عاد يطمئنني ويذكرني بأننا في كندا وليس في ووهان.

عدت إلى غرفتي مسرعة لقياس حرارتي ويا للمفاجأة السارة!

استقبلتني باقة منسقة بعناية واضحة، بها أربع زهرات تيوليب بنفسجية بدرجة داكنة توحي بالأناقة والجمال والحب.. أربعة… رقمي المفضل أو رقم الحظ كما يقولون..

كان لون الزنابق جميلاً جداً، غامقاً  بإبداع الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه، لكنهن أشرقن في روحي بشمس دافئة .. شمس المحبة الدائمة والاهتمام البالغ من بضعة مني:

” ماما…أحلى الأمنيات بعيد الأم “.

*أكاديمية سعودية، باحثة و مترجمة أدبية.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى