موسوعات وموسوعيون د. أحمد الزبيدي* – الإمارات

يقرر بعض الباحثين وعلى رأسهم المستشرق” كارل بروكلمان” أن العصر الذهبي للتأليف العربي الموسوعي” EncycloPedique”وصدور الموسوعات العلمية والأدبية ظهر على يد الأمام الخوارزمي ت 387هـ في كتابه “مفاتيح العلوم”.

على الجانب الآخر  ظهرت الموسوعات الغربية مطلع القرن السابع عشر في فرنسا ،حيث صدر في سنة 1674 معجم “موِريري” التاريخي المسمى “القاموس التاريخي الكبير” مرتباً ترتيباً أبجدياً؛ وصدرت في سنة 1697 موسوعة بايل التاريخية المسماة “القاموس التاريخي النقدي” مرتبة حسب ترتيب الحروف أيضاً؛ وظهرت أيضاً في أواخر هذا القرن موسوعة “دربلو الشرقية” المسماة “المكتبة الشرقية”؛ ثم تطور نظام الموسوعة بسرعة، فاتجهت إلى التوسع والترتيب الفني والأبجدي، وأخذت تغدو شيئاً فشيئًا مرجعًا شاملًا لأشتات العلوم والفنون، وتشعبت مناحيها شيئًا فشيئًا حتى غدت مشروعًا علميًا جامعًا بعد أن كانت مجهودًا فرديًا فقط، وساهم في إخراجها جميع الآداب الحية بأوفر نصيب.

وقد استمرت حركة التأليف العربي الموسوعي حتى وصلت إلى القرن الثامن الهجري ليمتاز هذا العصر بسمات وميزات جعلته خليقًا أن يزهو على غيره من العصور، ويباهي غيره من الدهور كيف لا وقد كان من رواده علماء عمالقة وحكماء مناطقة تركوا وراءهم آثارًا علمية وأثمارًا أدبية وفلسفية خالدة.

ولعل أبرز نجوم ذلك الزمان وأشهرهم على الإطلاق: الإمام  النويري “ت 733 هـ” وهو صاحب كتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب» ، والإمام  ابن فضل الله العمري “ت 749 هـ” وهو صاحب كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» ، والإمام القلقشندي “ت 821 هـ ” وهو صاحب كتاب “صبح الأعشى في كتابة الإنشا”.

الإمام القلقشندي وكتابه العجيب”صبح الأعشى” هما موضوع حديثنا. لا نبالغ في القول ولا نتزيد في الكلام إذا قلنا إن كتاب” صبح الأعشى” قد حوى في باطنه خلاصة المعارف التي كانت سائدة في عصره، فصار خزانة للأدب عامة وللنظم الإدارية والسياسية خاصة.

وإذا كان أدباء عصرنا يقسمون الأدب قسمين: الأدب بالمعنى الخاص وهو الشعر والنثر والخطب والرسائل، والأدب بالمعنى العام وهو كل ما توفرت عليه الأمة من معارف وعلوم، فيقال مثلًا: أدب العرب، ويقصد به ما أثر عنهم من نظم ونثر وخطب ورسائل، ويقال أدب العرب أو آداب العرب ويقصد به كل ما أثر عن الأمة العربية من آداب وعلوم ومعارف، فإن كتابنا “صبح الأعشى” حري أن يكون حائزًا الحسنيين، وضامنًا الفضيلتين، وإن  كان يميل بكفته إلى المعنى العام من اسم الأدب.

صحيح أن النظرة العجلى إلى الكتاب تُفهِمُ أن مؤلفه يعالج فيه موضوعات أدبية صرفة ؛ وهي موضوعات الأدب الخاص كما بينا قبلُ، ولكن القاريء المتمعن، والمثقف المتبصر إذا ما جد في القراءة وأمعن في المطالعة يكاد يكتشف موسوعة ضخمة تعج بالأدب، وتطفح بالتاريخ، وتضطرب بالفلسفة والاقتصاد وعلوم الشريعة والاجتماع وغير ذلك من ضروب المعرفة وفنون العلم والأدب التي تجعل منه دائرة معارف ثرة يفخر بها الفكر العربي والإسلامي أزمانا متطاولة.

ولعل أول ما يلفت القارئ لهذا الكتاب هو اسمه “صبح الأعشى في صناعة الإنشاء” وكيف وجهه – صاحبه – بشكل مباشر إلى موظف بعينه، وهو كاتب الإنشاء، يقصد من ذلك إلى تزويده بما يحتاج إليه من معارف ومهارات تعينه على القيام بوظيفته أتم قيام، فإن كاتب الإنشاء إذا ما أخذ بنصيحة القلقشندي وتسلح بما أفاده من معارف علمية ومهارات فنية فإنه سيهديه ويوصله إلى بر الأمان، وسيكون له نورًا وهداية كما الصبح بالنسبة للأعشى.

من أجل ذلك حشده بما تحت يديه من محفوظات ديوان الإنشاء من وثائق دبلوماسية ورسائل سلطانية، واستفاد من أمهات كتب العلم والأدب في مختلف الفنون، ولعل أهم كنبه ومصادره التي اعتمد عليها : “العقد الفريد” لابن عبد ربه ، و”الأموال” لأبي عبيد، و”المثل السائر” لابن الأثير وغير ذلك الكثير من الكتب والمراجع ذات القيمة العلمية.

أما أسلوب القلقشندي في كتابه فإنه لم يخرج عن أساليب بيئته التي كانت في جملتها تقليدًا ومحاكاة لأسلوب القاضي الفاضل، بل إن القلقشندي بالغ في ذلك فأسرف في استعمال المحسنات البديعية؛ من سجع وجناس وطباق، وجنح إلى الترصيع والتضمين والتورية والمقابلة، ولا غرو في ذلك، فإن هذا هو أسلوب القاضي الفاضل وهو الأسلوب السائد آنذاك.

ومهما قيل في كتاب “صبح الأعشى” فإنه سيبقى المرجع الأول والأصيل في” أدب الإنشاء والمراسلات “لم لا وقد أودع فيه مؤلفه مكاتبات ملوك الشرق والغرب، وعهود الأمان، وعقود أهل الملل والنحل، وبيّن أنواع الهدن وصيغها، ولم يخلِ كتابه من ذكر المقامات والهزليات، وفي الختام تكلم عن أمور لها علاقة بالإنشاء كالبريد وتاريخه والحمام الزاجل.

*كاتب فلسطيني