مقالات

في الذكرى الثانية والعشرين لرحيله   سلطان بن علي العويس كما عرفته    د. محمود علياء

زايد بن سلطان آل نهيان وسلطان بن علي العويس

 

محمد بن راشد آل مكتوم وسلطان بن علي العويس

 

سلطان بن علي العويس مع نزار قباني وفي الصورة د. محمود علياء ونواف العمصي

 

يوم الثلاثاء الماضي في الرابع من يناير  2022 مرّت الذكرى الثانية والعشرون لوفاة المرحوم الشاعر الكبير سلطان بن علي العويس الذي لا يزال حيًا بيننا بمآثره وإنجازته وإبداعاته.

ولابُد من التوقف في هذه الذكرى في رحاب شعره و إبداعه و مآثره، التي لا تزال تضيء مشاعل الثقافة و الفكر و الإبداع ، ليس في دولة الإمارات العربية المتحدة وحسب، و إنما في العالم العربي قاطبةً، حيث يتوالى الإبداع المتواصل للفائزين بجوائزه الأدبية، سواء المحلية منها أو العربية تترى لرفد الفكر العربي والثقافة العربية، والإبداع العربي بالمزيد و المزيد من العطاء يومًا بعد يوم. رحم الله سلطان العويس وأسكنه فسيح جناته.

  و بهذه المناسبة التاريخية ذكرى وفاته لابُد من العودة الى سلطان الشعر و شعر سلطان، حيث يجري الشعر في شريان الأمة العربية كالنهر المتدفق من منبعه إلى مصبه، يتغلغل في مشاعر أبنائها ويستقر في وجدانهم غذاءً روحيًا لا مثيل له و لا رديف، ولا مندوحة دونه، ولا بديل عنه . فيظل هو المحرك الأول للوجدان، و المحرض الأقوى للخاطر، والدافع الأهم لاستبيان المكنون، فيشكل حسًا مشتركًا ولغة جامعة وكينونة  قائمة، تتمازج فيها المشاعر بين الحلاوة و المرارة.. حلاوة الطرب والنشوة، ومرارة الحزن والألم، لكن مع مختلف الاتجاهات يبقى الصدق لُب المشاعر وكنهها وجوهرها، وحركة دفقها، وبيان ألقها، وورودها وسياجها… معه يخرج الكلام من القلب ليدخل في القلب، ويفيض من الوجدان،  لينسكب في الوجدان، فإذا بالخاطر يصب صبًا في الرائي والناظر، والسامع والمتابع، حيث تتفاعل الأحاسيس، وتتجلى العبارة، وتأتي الصورة معبرة و ناطقة، وواقعية وملموسة، أو خيالية جامحة، مفعمة بالألق والطموح و الخيال، فيتماهى الواقع بالخيال المشرع، و تتداخل اليوميات بالأمنيات بتناغم المبادئ والأهداف،و يسمو القصد النبيل وتعلو الغاية الشريفة، فيحرك الإبداع الشاعر سواء أكان رومانسيًا حالمًا أو ثائرًا متمردًا، أو فيلسوفًا متأملًا، و قد كان سلطان العويس كل ذلك، فهو يجيد اللفظ سكبًا والمعنى سبكًا برقة يقل نظيرها،ولا يخبو نورها، ومعاناة لا يشح زيتها، ولا يخفت ألقها، ولا يذبل بريقها. إنه شاعر الرومانسية بكنهها الأعمق عاطفةً و فكرًا و خيالًا، يبدع بتميز، و يجدد بامتياز، ويختار مفراداته بإنتقاء وأناةو تبصر.. إنه واحد من شعراء الرسم بالكلمات الذين جمعهم الاتجاه الإنساني الخلاق، و استوقفتهم لوحة الطبيعة، فتحولت الريشة لديهم الى كلمات وعبارات و قوافٍ وأوزان، حيث عزفوا بالريشة على أوتار الألوان، كما رسموا بالمداد على نسيج المدى، و حلقوا بالصورة الى أعالي الفضاء، و منهم نزار قباني وعمر أبو ريشة و الأخطل الصغير و إيليا أبو ماضي وعبدالكريم الكرمي( أبو سلمى) وهارون هاشم رشيد و محمود درويش            و بولس سلامة و صلاح عبدالصبور  وأحمد الصافي النجفي، و بدوي الجبل،        و فوزي المعلوف، و أبو القاسم الشابي ، ومحمد مهدي الجواهري وغيرهم وغيرهم.

    لقد غلبت صور الشاعر الكبير سلطان العويس- رحمه الله- على أفكاره أحيانًا فطغى الخيال، كما غلبت أفكاره على صوره في أحايين كثيرة فبرز الموضوع. كانت القصيدة لديه تبدأ بكلمة، ثم يتدافع القول بالدفق، كما يدفع الألم بالقلم، فتذرف الدمعة الكلمة، أوتبوح الابتسامة بالعبارة، وتنساب المفردات مترادفات أو متناقضات  بعد لأي.

   لماذا ؟ لأن الشاعر سلطان العويس مرهف بسليقته، محاور بطبعه ، يستمزج آراء الأصدقاء بشعره، و يصغي للرأي الآخر، و يستحسن هذا الرأي أو يستهجن ذاك، و يأنس بالشؤون و الشجون الانطباعية أوالمعرفية، فهو دائمًا ينعتق  من الأنا، و ينأى عن النرجسية، ويجترح المداد  من الفؤاد، ويتفاعل مع الآخر، فيخلص مترويًا إلى انتقاء المفردة الأجمل في العبارة الأرقى، والدلالة الأوضح، والخطاب المباشر.

    لدى سطان يتناغم صدر البيت الشعري مع عجزه، ليأتي رنين القافية منسابًا برقة، واضحًا بصيرورة، جليّ القصد والمعنى، رقيق الحاشية، لا تقض مضجعه مبالغة، ولا تعتوره لفظة حوشية أو ممزوجة أو متقعرة.

   إن شعر سلطان العويس (خلطة سحرية) تتألف من عناصر عدة، أولها العفوية، و ثانيها الصدق،و ثالثها البساطة، ورابعها الوضوح، وخامسها وأهمها الأداء الانسيابي السهل الممتنع يخرج بشعره من الفؤاد ليدخل في الفؤاد، فهو يحسن توظيف النبرة الشعرية الهادئة مع إضفاء البساطة   والشفافية على حركية المعاني ذات الدلالة المباشرة، التي لا تحتاج الى إغواء التأويل،أو شغف الكشف، أو تعقيد المعنى، أو ارتياب المتاهات.

  و هذه العناصرعينها لا تتردد، وهي تجوب بساتين التراث وبواديه وفيافيه وقفاره، وأزاهيره ورياضه، لتقطف الثمار ناضجة يانعة من الجزيرة العربية الى بلاد  الشام، و إلى أرض الرافديّن،والى مصر والمغرب والأندلس والمهجر الأميركي، لتلتقي بكل روافدها مع ربوع الإمارات الدافئة بصحرائها و شواطئها و رياضها و بوحها، فيأتي شعر سلطان العويس نسيجًا جامعًاً بين مرتع صباه على شاطئ “الفشت” في حيرة الشارقة،ومجالس العائلة، واللقاءات مع الشعراء، و معالم وطنه و بيئته، وهموم و تطلعات أمته، و يبرز متأثرًا و مؤثرًا متفاعلًا و فاعلًا ، ممهورًا ببلاغة الاختزال، مطربًا بإيقاع النغم، مفعمًا بإكتناز الدلالة، هادفًا بسمو القصد و نبل الغاية، مع فكره الثري بالتجربة والمعاني والرؤى الشاملة،           والجامعه. قال لي ذات مرة: (وردة في الهند جعلتني شاعراً) حيث كانت قصيدته (يا وردة) التي نظمها في الهند أول قصيدة له فصدق، الشاعر دائمًا هو سر خلود شعره، و نبض الإنسان في شخصه، ونكران الذات في غاياته وأهدافه          ومقاصده، وهكذا هو سلطان العويس الشاعر المفكر الإنسان.

   لقد عرفت الشاعر سلطان العويس عن كثب، و نهلتُ من معين معارفه وتجاربه الكثير، وأدركت شمولية فكره و موضوعية رأيه وتفاصيل يومياته، والتصقت بمجالسه في دبي والذيد و خورفكان و بيروت و بحمدون أنهلُ من معينها الثّرّ، وأستقي من روافدها المتعددة، وأجد في سلطان دائمًا معلم الجميع، المؤلف بين الحضور، المحاور و المصغي والمتأمل، يعشق الثقافة، لا يبرح أجواءها، كما يأنس بتعدد الآراء، و يوازن بحكمة بالغة بين الجد والطرافة،    و الاحترام والمودة، و صواب القول، ونقاء السريرة. لقد كان ربّانًاً حادقًا بإقتدار، مثلما كان شاعرًا إنسانًاً بامتياز ، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)

            صدق الله العظيم ( آل عمران: ١٨٥)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى