إبداعات

            قلب نبت له جناحان!                         صباح ديبي       –       الإمارات

صباح ديبي

    كنت قد خرجت باكراً لأعود في وقت متأخر، السماء ملبدة بالغيوم، والهواء منعش وبارد. كم أحب هذا الجو، فيه تتفتح فضاءات نفسي عن سحب الذكريات، وأبقى ككتاب مفتوح، تتطاير فيه أفكاري وكلماتي كندف شوق قديم. لم أعِ ما يحدث حولي، فجمال المكان أشبه بالحلم، ورائحته كالجنة.. عبق اللوز والزهور! وقفت أتأمل كل شيء، أنظر هنا وهناك، فقدت لوهلة قدرتي على الكلام! ثم لمحت من بعيد وجه امرأة يلمع على سطح البركة! امرأة بعينين واسعتين، وابتسامة ساحرة، مدت يدها إليّ، شدتني نحوها، تبعتها من دون تردد، وما كان منها إلى أن وضعت تاجًا على رأسي، ثم قالت: كليوبترا، مرحبا بك، اخلعي عن كتفك ثياب الواقع، وارتدي عالم الخيال !!

جلست في البركة، تدفقت المياه بقوة أمامي، لم أشعر بجسدي أبدًا، صار ريشة تحلق في الهواء، كل شيء أمامي غاب، سوى ذاكرتي الممتلئة بضوضاء الحياة، زحمة الوجوة تكاثفت أمامي، حاولت أن أتظاهر باللامبالاة، أن أخفي تفاصيلهم عني، إلا أن الموسيقى تسربت إلى نفسي، كأنها ريح خريف وادعة، حشود الفقاقيع تجمعت من جديد، اقتربت رويدًا رويدًا، تخبطت كأشواقي المهترئة، للمرة الأولى، أغمضت عيني عنهم جميعاً، أطلقت زفيراً طويلًا..  استسلمت كفقاعة تراقصت فوق الماء! ورحت أردد:

في المدى
شوق يخضرْ
قلب نبتَ له جناحان
عنقود حبٍّ استراح
على خاصرتيك
وهسهسات الرياح تحمل في
أنفاسها مواسم الأمطار

هكذا يجيئُكَ اعترافي
معزوفةٌ ما أردتها أن تخدشَ الماء
قصيدة
تضيع في لجّة البوح..
أيها المتعب مني
تحمل في قلبك أوجاع قبيلة
ومدينة تغفو في عينيك مرتبكه!
فلا تنحنِ
شذب الوردة من شوكها
وارسم بها جنون الربيع
نم على كتفي

واسترح
فالأحلام فقط
ملكٌ للأنقياء
كقلبك أنت!..

ثمة ضجيج داخلي يزعق بقوة، أحاول أن أخنقه لكن رائحة الزهور النفاذة، اخترقت جمود روحي، كموسيقى برية، خيل لي أني أشاهد فتاة تتراكض وسط الأدغال، والحيوانات المفترسة من كل صوب، تستل سهمها بخفة، تصوب هنا وهناك، ومن بين أغصان البامبو، يظهر فيل ضخم، يضع على جبينه زهرة لوتس برية، هالها جمال الزهرة، فتراقصت في الهواء وسقطت على ظهر الفيل وانتزعت منه الزهرة بقوة، هكذا!

مضت ثلاث ساعات متواصلة، وأنا أحاول أن أستند على ابتسامة عجزت عن رسمها، كل ما حولي جميل، إلا أن الغصة في حلقي ما زالت عالقة، كم هي مُرَّة! ماذا الآن؟

الوقت يمضي، وذاكرتي لا تمضي، غريب أن يتداعى كل هذا الشوق في نفسي، الألم والحب معاً، والغريب، أن تنصب لي الأفكار فخاخها هذا اليوم! كم كنت أستحضرك في نفسي .. ثم تخنقني لترحل!

يقف تمثال “فينوس” على مرمى نظر مني، سألتها: هل أنت سعيدة هنا؟ نظرت نحوي بحزن صامت، قلت لها: ألن تجيبي؟، صمتت أيضاً، حسناً .. أحيانًا يكون الصمت خنجرًا يطعن  صدر النوايا! وراحت تسكب دموعها كأنها “نوفرة” صغيرة، حطت أمامها عصافير جميلة، لتزقزق لها، علها تبتسم.

عدت للبيت، وعاصفة الأرق تقلبني على السرير، يميناً ويساراً، أغطي وجهي بالشرشف الثقيل، أختنق، أتكشف، أعاود التقلب، لا فائدة، أغادر سريري، إلى طاولتي، أقلب عدة كتب، أخرج من دموعي، وأعيد سرد رائحة تركتها على رمال البحر، الكراسي تملؤها وشوشات العاشقين، الزوارق النائمة تغطيها سحب النوارس المهاجرة إلى مساء قد يكون جميلاً، وهذا السكون يعبق بثقل الخطوات الباردة.

أمشي، ودخان الذكريات تأبى أن تفارقني، أحسب أني كنت في حلم لذيذ، أو ربما في رواية كنت بطلة في إحدى فصولها، ولوهلة ألمح أن للبحر ضفة أخرى على المدى القريب، ضفة لم ألامس ذكرياتها بعد، ولا تفاصيلها التي قد تكون لي كما أشاء يومًا ما.

أعود، لأخط هذه الكلمات و داخلي حب عاصف، وحنين لا يخبو مهما طال.

في المدى عطر وعود

وقناديل تضيء طريق عزلتك

وحمامات بيضاء

تهديك السلام

لتعود!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى