مقالات

الإيقاع في شعر الشّاعر الإماراتي د. شهاب غانم                    د . أكرم جميل قُنبس    –    الإمارات

د. أكرم جميل قنبس

                                             

انتشرت في الدّراسات النّقديّة عدّة مُصطلحات تتّصل بالبناء الموسيقي للغة الشّعر، نذكر منها الإيقاع، والعروض، والموسيقا، والوزن، وغيرها، وبقدر ما نُركّز في دراستنا على أهميّة المصطلح الأوّل، وهو هَدفُنا، فإننا نوضّح علاقته ببقيّة المصطلحات لإزالة الالتباس والغموض، وهذه المصطلحات ليست خارجة على الشعر لِتُضاف إليه؛ بل هي نابعةٌ منه، تفرضُها أحاسيس الشاعر وأفكاره، وَتُبرِزُها عاطفتُه، وليست ضوابطَ موسيقيّةً مُعيّنة تُفرَض على الشاعر، بل هو حُرٌّ  في صياغة شِعره على النّحو الموسيقي المؤثّر مِنْ  قِبَلِه، والسّاعي إلى التأثير في المُتلقّي، وبما أنّنا أردنا توضيح ماهيةِ مُصطلح الإيقاع فلا بُدَّ من توضيحٍ، ولو سريع، لماهية باقي المصطلحات التي يُظَنُّ أنها والإيقاع شيء واحد.

  إنّ الوزن والإيقاع ليسا تسميتين مُختلفتين لمصطلح واحد، بل إن الوزن قِسْمٌ من الإيقاع، وَيُمكن تعريف الوزن أو الإيقاع بأنه حركة مُنتظمة مُتساوية ومتشابهة، ويتميّز بالتّردّد الكمّي للحركات، فمن أجل تمييزِ التّفاعيل بعضها عن بعض، لا بُدّ من تلك الظّاهرة الصّوتيّة التي تتردّد بين تفعيلة وأُخرى، والمُصطلحان لا يُفهَمُ أحدُهما دون الآخر.

وقد فرّق الدكتور  محمد مندور  في نظريته بين ” الوزن” وبين    ” الإيقاع ” ، فالوزن عنده هو :  “كمّ التّفاعيل مُجتمعة” بغضّ النّظر عن قياس كمّ كُلِّ مقطع، أمّا الإيقاعُ فهو:” تردّدُ ظاهرةٍ صوتيّة على مسافات زمنيّة محدّدة النِّسَبِ “. ( 1 )

فالدكتور ” مندور ” يُعنى بالكَمّ الوزنِ، فلو وضعنا كلمة الكمّ مكان الوزن لكان ذلك داخلاً في تعريف ” مندور “.

ويُعدّ البحث الطبيعي للإيقاع بحثاً وصفيّاً، من شأنه الوقوف على ما يتألّف من الإيقاع، وليس من

شأنه تفسير الإيقاع، وهو بذلك كالعَروض التّقليدي، سواء بسواء، إلا أنه يحاول كشف عناصر أُخرى للإيقاع لم يشملها العَروضُ التّقليديّ بوسائله الأقل دقّةً، ولعلّنا في دراستنا هذه نُريد الوقوف على تفسير – ولو كان سريعاً- لماهيّته النّفسيّة لدى الشاعر، ولعلي أعدّ أنّ البحث الطبيعي في الإيقاع من شأنه أن يُفسّر الدّلالة النّفسيّة للحركات والسَّكنات، وتوالي الحروف في القصيدة، فالإيقاعُ

هو حصيلةُ عناصر مُتكاملة، وليس عُنصرًا واحدًا، وإذا كان إحساسُه هكذا، فلعلّنا نصل إلى حُكم نقدي مفادُه أنّ الإيقاع حصيلةُ جِماع الوزن والتّكرار المُنتظم للحروف والحركات.

والإيقاعُ هو حركةُ الأصوات الدّاخليّة التي لا تعتمد على تقطيعات البحر أو التفاعيل العروضيّة؛ لأن توفير هذا العنصر أشقّ بكثير من توفير الوزن؛ لأن الإيقاع يختلف باختلاف اللّغة والألفاظ المستعملة ذاتها، في حين لا يتأثّر الوزن بالألفاظ الموضوعة فيه. تقول – مثلاً – ” حبيبي “، وتقول مكانها ” طبيبي “، ولكنّ توالي حرفي الحاء والباء يحملُ دلالةً نفسيّة تختلف عن توالي الطّاء والباء، ولذلك نرى أن أكثر الأبيات الشّعريّة امتلاءً بالمعنى، وأكثرها حيويّة تلك التي تتوازى فيها حركات الإيقاع الموحية والحركات العقليّة، والإيقاعُ هو الذي يلوّن كلّ قصيدةٍ بلونٍ خاصّ، وإنّ الأقرب إلى طبيعة الشّعر أن يكون إيقاعيّاً، لا وزنيّاً، أما العَروضُ فلا يُفرّق بين الفتح أو الضّمّ أو الكسر، وإذا كانت الموسيقا هي المعرفة الجماعيّة مثل العَروض بزحافاته، وَعِللهِ، وقوافيه، فإنّ الإيقاع هو المعرفةُ الخاصّةُ، والعزف المُنفردُ، أي إنه من قبيل الإبداع، وبقدر ما يكون للشّاعر إيقاعُه الخاصّ، وصوتُه الفرديّ، يكون إبداعُه وأصالتُه.

الإيقاعُ ينقسم إلى قسمين، الأوّل: التّناغم الشّكلي الذي يتضمّن إيقاع المفردات بالنّظر إلى بِنيتها المقطعيّة، وتبيان التناغم الذي تُحدثُه الظّواهر الصّوتية في بعض مفرداته، وإيقاع الجُمل التي تقوم بِنيتُها على أساس التّصدّع، وتقوم حركتُها بتقديم تشكيلات مقطعيّة، وفاعليّات صوتيّة ودلاليّة، والثّاني: التناغم الدلالي الذي يضمّ إيقاع التّواصل، أي: انسجام حركة الدّلالات فيما بينها، ممّا يولّد حركات جديدة قد تحمل خصائص مُغايرة.

ويرى الأستاذ الأديب محمد محيي الدين مينو أنّ الإيقاع ” هو وحدة النّغمة التي تتكرّر على نحوٍ ما في النّثر أوْ في الشّعر، أي:هو توالي الحركات والسّكنات على نحوٍ مُنتظَمٍ في الكلمات والجمل، أو في الأبيات، ففي النّثر ينبعث الإيقاعُ من الألفاظ، ومن بعض المُحسّنات البديعيّة، وفي الشِّعر ينبعثُ من التّفعيلة التي تتكرّر في البحر مرّاتٍ، ومن القافية التي تتوالى في الأبيات، ومن الألفاظ وبعض المُحسّنات والأساليب …” ( 2 )

” وشاعريّةُ العربية العفويّة شيءٌ، والشِّعرُ الموزون المُقفّى شيءٌ آخر. إنّ شاعريّة العربيّة العفويّة  المُتجليّة في الإيقاع طَبْعٌ من طِباعها وطبيعتها، ينجمُ عن التآخي والتّجاور والتّعاقب كما ينبع الماءُ، وينسابُ الشّعاعُ… إنّ إيقاعها ليس زخرفةً يُرَقَّشُ بها ظاهِرُ الكلامِ، وإنما هو روحٌ تحيا بهِ اللّغةُ العربيّة “. ( 3 )

وهكذا، يُمكننا الحُكمُ على الإيقاع أنه وحدةُ النّغمة التي تتكرّر على نحوٍ ما في الكلام، أو في البيت، أو توالي الحركات والسّكنات على نحوٍ مُنتظم في فقرتين أو اكثر من فِقَرِ الكلام، ومجموع التّفعيلات في القصيدة يُمثّل الوزن، وبتتبّع هذه العناصر، ومن خلال هذا الفهم لمصطلحي الوزن والإيقاع، يُمكننا أن نُلخّص سِماتِه لدى الشّاعر الدكتور شهاب غانم في مجموعته الشّعريّة.

إن القارئَ ليَجِدُ مُلاءمة حرف الرّوي لدى الشاعر الدكتور شهاب غانم للغَرَضِ الشّعري الذي يختاره، فتارة يكون مضمومًا، وتارة مفتوحًا، وتارة مكسورًا، أوْ ساكنًا، وذلك كُلُّه وفق مُقتضى حاله، ومُناسبة نَصِّهِ الشّعري، وإنّ النّماذج على ذلك كثيرة جداً، وسيكتفي البحثُ باختيار مجموعة من النماذج؛ لتكون عيّناتٍ على جودة الإيقاع لديه، ففي قصيدته “عَبر التّلفزيون ” نراه يستخدم الهاء السّاكنة حَرْفَ رويٍّ لقصيدته، والهاء السّاكنة تُناسب همسات الحُبّ، ووشوشاته، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى نجد اختياره السّكونَ ليكون مع الهاء، والسّكون يُناسب وقفة الشّاعر ساكناً مُتسمّراً في محراب الحبيب: صوتاً وصورةً وحركةً، ومن هُنا كان اندماجُ الهاء بالسّكون، وقديماً تحدّث ابنُ جنّي في كتابه “الخصائص” عن أهميّة التّناسب بين الحرف وحركته من جهة، وبين المعنى المُراد من جهة أُخرى، يقول الشاعر الدكتور شهاب غانم:

            مَنْ أنتِ يا مَجنونة ؟ أَمُغَرِّدٌ قد ملَّ أَسْرَهْ ؟

            حَوّاءُ تِلكَ الفتنةُ الهوجاءُ ما أهوى وأكرَهْ !

            فالطّينُ عَبْدٌ للهوى، والرّوحُ في الأفلاكِ حُرّه ( 4)

ولا يقتصر الإيقاعُ لدى الشّاعر الدكتور شهاب غانم على اختيار حرف الرّوي أو القافية فحسب؛ بل نراه في الإيقاع الداخلي للكلمات ذاتها في اختيار حروفها، وترتيبها، وحركاتها، ففي قصيدته ” لولا

الهوى ” نرى استخدامه لفظة ” أجهش ” بتوالي حروف الجيم والهاء والشّين، للدّلالة على عذابات الحُبّ وآلام الشّوق والهجر، وهنا جاءت الكلمة بحروفها وإيقاعاتها مُناسبة لحالة الشاعر النّفسيّة، وَلِمقامه، وكان من الممكن له أن يختار لفظة ” بكى “، ولكنّ لفظة ” أجهش ” أكثر مُناسبة ومُلاءمة للحالة النّفسيّة للشاعر. وكذلك لفظة ” قيود ” لارتباط الشّاعر بالحبيب، وتعلّقه به، وكأنه مُقيّدٌ بِه، ولا يستطيع مُفارقته، وكان من الممكن أن يختار لفظة أُخرى من مثل ” صِلة ” أو ” رابط ” ، لكنّ القاف مع الدّال تفيدان قوّة الالتصاق والارتباط والتعلّق، واستحالة البعد والانفصال، وفي لفظة ” الصّدّ  للدّلالة على الهجر والبُعدِ كان يُمكنه استخدام لفظة الرّفض أو الهجر، لكنّ حرف الصّاد مع الدّال المُشدّدة يفيدان الهجر والرّفض والبُعد معاً، وفي هذا حُسن الانتقاء لإبداع جميل، وإنّ كُلّ ذلك مع قسوته يحلو للشاعر؛ لأنه من الحبيب، ولأجله، يقول :

أبيتُ وأصحو في هواكِ مُكبّلا

كذاكَ قيودُ العشقِ بالصَبِّ تَصنعُ

فلا ترحمي إنْ كانَ في الصّدِّ مُتعَةٌ

       تنالينها، .. يهنيكِ أنتِ التّمتّعُ

ولا تأبهي إنْ أجهشَ الطَّرفُ بالبُكا

  وسالتْ على الخدّينِ كالسّيلِ أدمُعُ ( 5)

ومن جماليّات الإيقاع لديه، أنه استطاع من خلال الباء المضمومة في رويّ قصيدته “لُغة العيون” أن يُصوّر الأثر العميق للغة العيون، ذلك الأثر الذي يخترق فؤاد المُحبّ، ويشعل نار العشقِ والوَلَهِ في أعماقه، فيكاد قلبُه ينفطر أوْ يخرج من مكانه، فيجعله لا يعرف الرّاحة أو الاستقرار، وهنا

تكون الباءُ المضمومة كمطرقة تدقّ في قلبه ومسامعه، فَتُنسيه السّكينة والهدوء. كما نجد في إيقاع القصيدة الداخلي مجموعةً من الكلمات بحروفها وحركاتها التي تتناسب مع المقام النّفسي للشاعر، نذكر منها: ” اعْتَنَقَتْ ” بحروف العين والنّون والقاف، وبتلاقيها تعكس صورة الالتقاء والتقارب، والعِناقُ أنسب لفظة للمعنى الذي أراده الشاعر، إذْ كان من الممكن استخدام لفظة     ” تلاقت ” أو ” اجتمعت ” ولكن لفظة ” اعتنقَتْ ” أكثر قدرة على الوصول إلى المعنى المُراد، وكذا  لفظة “جوانح” بحروفها تدلّ على سُكنى الحبيبة في كلّ ذرّة من ذرّات روحه وجسده، وهي التي تناسب هذا التعبير دون ألفاظ أخرى، مثل: “أطراف” و “ضلوع”           و ” أعماق ” ، … وكذا في لفظة ” تَفُهْ ” المُخفّفة، والتي أُسقِطَتْ منها الواو، فإنها تدلّ على الصّمت المُطبق، والسّكون في حضرة الحبيب، وكان من الممكن أن يستخدم لفظة “تتكلّم ” أوْ ” تتحدّث “، ولكن كلمة “تَفُهْ” بإيقاع حروفها هي  المناسبة، ليس من باب الوزن فحسب، بل من حيث المعنى، والغرضُ الشّعري، يقول:

إذا أنظارنا اعتنقت *

 أحس القلب يضطرب#

ويزه وجهها خجلًا *‘

   ويعــلو خدها اللهـب#

فأشعر أن هذا القــلب*

    بـين جـوانـحي يثــب#

وأغضي مثلها خجلًا*

 ولا أفضي بما يجب#(6)

وحين يتحدّث الشاعر عن فرحته بالعيد الوطني لوطنه الغالي دولة الإمارات العربية المتحدة، يختار حرف الرّويّ بِرائهِ المضمومةِ، والرّاءُ تفيد التّكرار، والاستمرار، فَحُبُّه للوطن مُستمرٌّ، وَمُتجدّدٌ، ولا يُمكن أن ينقطع أو ينتهي، وهذا يدلّ على ديمومة الحبّ حُبِّ الوطن في قلب الشاعر وروحه، وكذلك الأمر في اختياره مجموعة من الكلمات ذاتِ إيقاعٍ داخلي يتناسب مع المضمون الوطني للقصيدة، نذكر منها: لفظة ” جَذَل ” ، وهي بحروفها، وحركتها بين الجيم والذّال واللّام تفيد مُجتمعةً معنى النّشوة وقمّة الفرح، إذْ كان من الممكن للشاعر أن يقول: ” الفرح ” لكنّ ” الجَذَل ” يُناسب قمّة الفَرَح والانتشاء، وكذلك لفظة    “قاحلة” التي أرادها بحروفها الدالّة على الجفاف والخواء، وانعدام الحياة في الصّحراء، ولكنّها في أرض موطنه الإمارات تُصبح ذَهَباً لامعاً، وَهُنا يختارُ أيضاً لفظة “التِّبر” بإيقاعها الخاصّ، والهدف من ذلك كُلّه تصوير حُبِّه لوطنه من جهة، وتصوير جمال وطنه، وعظمته من جهة أُخرى، يقول:

يُصَفّقُ البحرُ مِنْ سَعدٍ وَمِنْ جَذَلٍ

وَتَبْسِمُ الأَنجُمُ الزّهراءُ والقَمَرُ

والرّملُ يَظهَرُ في الصّحراءِ قاحِلَةً

تِبْراً، وليس تُراباً خانَهُ المطَرُ( 7)

والأمرُ نفسُه نراه في الرّاءِ المضمومةِ مرّةً ثانيةً، في قصيدته  “عواطف وعواصف”  للدلالة على عُمق الحُبّ لديه، وهو للوطن مرة أُخرى، هذا الحُبّ الذي لا يفتأ يُطِلّ، ويظهر في كثيرٍ من أشعاره، وهو أمرٌ ليس بالغريب على شاعرٍ وطنيّ من الطّراز الأوّل. أمّا الإيقاع الدّاخلي فنراه في كلمة

“أَضنيتَني ” للدّلالة على شدّة الهَمّ والتّعَبِ، فالضّادُ والنّونُ والياء تشتمل على التّعب، وعلى الضّيق، وعلى القلّة، وهذه الأمور تتحقّق في هذه اللّفظة، ولا يُمكن لكلمة ” أتعبتَني” – مثلاً – أن تحلّ

محلّها، وكذا لفظة “يعتريه ” ولفظة “الكَدر” ، وكان من المُمكن له أن يستخدم لفظة       “يُصيبه”، وأن يستخدم بدل       “الكدر” لفظة “التّعب”، ولكنّ الكلمتين “يعتريه،الكدر”  تحملان إيقاعًا أكثر مُلاءمة للمعنى الذي أراده الشاعر. يقول مُخاطبًا قَدَرَهُ الذي أبعده عن وطنه، وفرّقَ بينه وبين أحبّته:

أَضنَيتَني، لم تُقَدِّرْ حَقَّ مٌغتَرِبٍ

إنْ حَطّهُ سَفَرٌ، ألقى بِهِ سَفَرُ

قد غابَ عن وَطَنٍ حالَ الزّمانُ بِه

وَمَزَّقَتْ أهلَهُ الأقدارُ والغُيُرُ

كَمْ باتَ في قَلَقٍ ممّا يُهَدِّدُهُ

وكانَ لا يَعتريهِ الهَمُّ والكَدَرُ(8 )

وحين تصفو نَفسُ الشّاعر، وتهنأ روحُه، وتسعد، ويستحضر الذّكريات الجميلة نرى تحوّلًا في الإيقاعِ الشّعريّ لديه، فيتحوّل من الفخر، أو الغضب، أو الحُزن، إلى السّعادة والفرح، وَهُنا ينتقل من الرّاءِ المضمومة، أو الباء المضمومة، إلى النّونِ المكسورة التي تفيد الجَمال، وراحة النّفس، وهو ما عبّر عنه في قصيدته ” في رُبا الأرز” التي استحضر فيها أجمل اللّحظات، وأبدعها في لُبنان، يقول:

يا رِفاقي قد هيّجت أشجاني

ذكرياتٌ كانت هُنا، وأمانِ

خَطرَتْ في دروبِ ” أَنفا وَشَكّا “

وتهادَتْ على رُبا لُبنانِ (9)

بينَ لوزٍ يغيبُ في كأسِ وردٍ

وَهزارِ يضيعُ في سِنديانِ

وكرومٍ تمتدّ خلفَ كرومٍ

وزهورٍ تفيضُ بالألوانِ

(10 )

وكذلك الإيقاع الدّاخليّ في كلمة   ” خَطَرَتْ ” ، وكان باستطاعته كتابة كلمة ” مَشَتْ “، ولكن كلمة ” خَطَرَ ” تفيد معنى السّيرِ والالتصاق بالأرض،، وكأنه يحبو على أرضها مُحِبّاً مُعجَباً، وكذلك لفظة ” أشجاني ” بما تحمله من الشّجن ” بالشّين والجيم والنّون ” التي تعطي باجتماعها معاني الحزن والألم معًا.

كما يُبدِعُ الشّاعرُ الدكتور شهاب غانم حين لا يكتفي بإيقاعٍ واحدٍ في شِعرِه، فهو يُلوّنُ ويُنوّعُ في حروف الرّويّ في إيقاع قصيدته الخارجي، وينوّع في الإيقاع الدّاخلي من خلال تنوّع الحروف والحركات، وتواليها، وتراكبها، كما أن هناك أمراً آخر أجاد فيه الشاعر، وهو التنوّع في حروف الرّوي  والفواصل الشّعريّة في القصيدة نفسها، وهو ما ظهر لديه جَليّاً في شِعرِ التّفعيلة، ، ففي قصيدته ” رِسالة عاجلة إلى المُجاهدين “، والتي يدعو فيها إلى التعقّل، وقتال العدوّ، بدلًا من الاقتتال الداخلي، حيث ينتقل بين اللّامِ، والنّون السّاكنتين من جهة، إلى النّون  والرّاء والميم السّاكنة من جهة أخرى، ولكنّ المُتأمّل لهذه الحروف يرى أنّ ما يجمع بينها هو السّكون، ولعلّ هذا الإيقاع يُناسِب الموقف، وهو  كَثرةُ الشُّهداء بعد المعارك التي يخوضها المجاهدون، حيث تفوح رائحة الموت، والموت يعني السّكون، ويعني الصّمت، يقول:

           لا تقتتلوا

           هل في خاتمة الملحمة يموتُ البطلُ

           وتنتحرُ المُثُلُ ؟ …

           تتحدّون صواريخَ الطُّغيانِ

           بِصدورٍ يَعمرُها الإيمان

           أعواماً أربعةَ عَشر …

          هل كُتِبَ علينا

           أن تنقلبَ جميعُ الأعراسِ مآتِمْ  ؟ … ( 11)

كما نراهُ أحياناً يُزاوج بين إيقاعين في القصيدة الواحدة، ففي قصيدة ” المذبحة قبل الأخيرة ” نلمس الموسيقا الداخليّة لديه تسير وفق خطّين موسيقيين: الأوّل هادئ دافئ يتناسب مع جِراح وآلام مذبحة  “صَبرا وشاتيلا”، يقول:

          تتدحرَجٌ عينٌ نُزِعَتْ من مِحجرِها فوقَ الطّين

          تتوقّف

         تنظرُ نحوَ سَماءِ اللهِ

         كما لو كانت تشكو من ظُلْمِ الإنسانِ

         إلى المَلكوتِ الأعلى

          فتمرّ عليها أحذيةُ السّفّاحين … (12 )

والثّاني قويٌّ صاخب يُشبه دقّات طبول الحرب، حين يدعو الشّاعر إلى الثّأرِ والانتقامِ، يقول:

         أُقسِمُ،

         والقهرُ بِصدري مثل الأطواد

         لو أضخم فردٍ يخطر فينا

         كان بِحَجم الخنصرِ في كفِّ صلاحِ الدّين

         ما كُنّا نَملأُ سَمْعَ العالَمِ نَوحاً، وزعيقاً، وأنيناً

        أوْ كُنّا نَشحذُ أتفهَ جُزءٍ من حقٍّ كالمسكين

        بل كُنّا نتدفّقُ سَيلًا مجنونًا

        وَنُعِيدُ إلى أذهانِ الدّنيا ذِكرى حِطّين … ( 13)

هكذا، ومن خلال تتبّع الأعمال الشّعريّة للشاعر الدكتور شهاب غانم، نلمس بوضوحٍ الدّقّةَ في اختيارِ الإيقاعِ المناسب لقصائده،  وهي دِقّةٌ تقوم على حُسنِ اختيارِ الإيقاع الدّاخلي والخارجيّ لنصّه الشّعري، وفق المضمون والموضوع والموقف، سواء أكان موقفاً اجتماعيّاً، أم وطنيّاً، أم إنسانيّاً وجدانيّاً، إضافة إلى التنوّع الإيقاعي في القصيدة نفسها، تبعاً للتنوّع النّفسي لديه في كُلّ قصيدةٍ على حِدَة، وقد اكتفت الدّراسة بانتقاء مجموعةٍ من النّماذج التي تعكس ذلك بعد قراءة الأعمال الشعرية الكاملة، واختيار النماذج المناسبة التي تعكس صورة الإيقاع في الأعمال الشعرية بشكل عام، وذلك منعاً للاستطراد والتّكرار.

                                     –  المصادر والمراجع

1- الإيقاعُ في الشّعر العربيّ من البيت إلى التّفعيلة، مصطفى جمال الدين، مطبعة النّعمان / 1970م.

2- معجم مُصطلحات العروض- مُحمّد مُحيي الدّين مينو  /ص 223 – منشورات مدرسة محمد بن راشد آل مكتوم / دبي / ط1/ 1428هـ – 2008م . / ط2/ دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة 2014م.

3- لُغتنا الشّاعرة / د. غازي مُختار طليمات / ص 88 / منشورات  مكتبة دار طلاس / دمشق/ ط1/  2010م.

4- الأعمال الشّعرية الكاملة للشاعر الدكتور شهاب غانم / ص 102 .

5- السابق / ص 106 .

6- السابق / ص 113.

7- السابق / ص 129 .

8- السابق / ص 158 .

9- أنفا، وشكّا: ضيعتان في شمال لُبنان.

10-   الأعمال الشّعرية الكاملة للشاعر الدكتور شهاب غانم / ص 177 .

11- السابق / ص 235 .

12- السابق / ص 185.

13 – السابق / ص  188.

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. بوركت الجهود الراقية, مقال متميز وتناول دقيق لقضية مهمة وهي موسقة الشعر وإيقاعه .

  2. نعيم رضوان …
    أحسنت يا دكتور في تحليلك للإيقاع والوزن في الشعر وهذا لا يختلف عن تسميتنا في الموسيقى كوحدة واحدة وهي عناصر الموسيقى حيث تتكون الموسيقى من عنضرين اثنين ..١.. عنصر الإيقاع..
    ٢.. عنصر النغم ,,
    وعنصر اإيقاع هو الذي يضبط النغم الذي يصدر من النغمات الموسيقية لتكون في نهاية الأمر وحدة موزونة حسب ميزان القطعة الموسيقية أو اللحن الموسيقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى