مقالات

 الجانب الاجتماعي في شعر د. شهاب غانم                      د . أكرم جميل قُنبس    –    الإمارات

د. أكرم جميل قنبس

   

  • 1- الشاعر والمجتمع والأسرة

أخذت الأُسرة مكاناً مُهمّاً، ومساحةً مُمتدّة في أشعار الشّاعر الإماراتي الدكتور شهاب غانم، فقد تناول اللَّبِنة الأولى في بِناء المُجتمع، وتحدّث عن تعاقُبِ الأجيالِ، فنراهً يستحضر ذِكريات الماضي، وألعاب الطّفولة التي طويت مع تعاقُبِ الأزمان وَتَقَلُّبِها.

والزّمنُ بِرأيهِ مُجرَّدٌ لا يُمكنُ تَثبيتُه أو الإبقاءُ عليهِ، فتراهُ يتفلّتُ منه، ويمضي سريعاً، فتتغيّر معه الأحوال، فالصّغيرُ يكبر، والمُتفرّغُ للحياةِ بِذهنٍ خالٍ من الهموم يُصبح مُثقلاً بهموم الحياة ومشاكلها، يقول :

وأخذتُ أُفَكّرُ في الأجيال

             وَأُحاولُ أنْ أتذكّر ألعابَ الصّبيان

في زَمَنٍ أفلتَ منّي خلفَ الأزمان

                       كُنتُ بهِ خالي البال.  (1)

كما كان الشاعر الدكتور شهاب غانم موسوعيّ النّظرة الشّعريّة، إذْ إنّ نظرتَهُ تجمع بين الفِكر والعِلم والوجدان، ومن ذلك – على سبيل المثال – قصيدتُه التي وجّهها إلى حفيديه التّوأمين، حيث جاء الحديثُ فيه حديثَ ودٍّ وَمحبّةٍ، ولكنّه ضمّنه كلاماً عِلميّاً عن التّوائم، وعن الحامل والمحمول، وعن السّائل الذي يسبح فيه الجنين، يقول:

               وَلأنّي يا عَبدَ الرّحمن

               توأمكَ الحاني مَيثاء

                شَقَقْتُ الدّربَ

               وَكُنتُ الرّبّان

                فَغرِقْتُ قَليلاً في الماء

                وَكِدْتُ أموتُ بدون هواء

                لولا لُطفُ المَنّان (2)

وللتّرابط الأُسَريّ مكانةٌ  بارزةٌ في شعر الدكتور شهاب غانم، فهو يؤكّد على محبّة  الأولاد والأحفاد، فنراه يتحدّث عن حُبّه لهم، وشوقِه إليهم، حيث يفرد قصائد لكلّ من: وِئام، وضّاح، وجد، ولأحفادِه: ميثاء، عبد الرّحمن، هنوف،  فهم كأنهم قطعة من قلبه الذي لا يستغني عنه أينما حلّ  أو  ارتحل، ومن ذلك قوله :

” هنوف” يا وردةً من دون أشواكِ

   كمْ يفرحُ القلبُ في صَدري لِمَرآكِ

أنتِ الحياةُ تناهَتْ في براءَتِها

في وَجْهِها العَذْبِ، لا في وَجْهِها الباكي (3)

وهو لا يكتفي بالواقع، بل يتفاءل لها بمستقبلٍ مُشرق زاهٍ، فيراها شاعرةً تنهجُ نهج الأجداد، وكأنه يرى الشّعر ذروةَ الآمال والأُمنيات بالنّسبة إليه، أوْ يراه شيئاً عظيماً لا يبلُغُه إلا من تخيّره اللهُ لهذه الموهبة السامية، ويتمنّى على الله أن يحفظها، ويجعل قلبها مُعلّقاً بطاعته وعبادته الخالصة التوحيد لوجهه الكريم،  يقول:

تُرى تصيرين كالأجداد شاعرة

تأسو فؤادَ المُحِبِّ المُدنفِ الشّاكي

يا رَبِّ صًنها تَصُنْ كُلَّ القلوبِ بِها

واجعلْ لها قَلْبَ عُبّادٍ وَنُسَّاكِ (4)

ولا تستقرّ حياة الشّاعر على فَرحٍ إلا بلقاء أبنائه الذين ملؤوا قلبه شوقاً، وحياته سعادة، ويقظته ومنامه أملاً، فهو يُعاني من كوابيس تُفقده طريق النوم وراحته، وتتركه مُلقى على بساط الأرق والشّوق،  يقول:

               يا وجدُ

               يا وضّاحُ

               يا وِئامُ

               لو تعلمون كيف كُلّما يجنّ حولي الظّلام

               يضيعُ في سوادِه المنام

               وتخرجُ الأشباح

               ترقص فوق جُثّتي إلى الصّباح

               أوّاهُ يا أحبائي المِلاح

                يا وجدُ

                يا وِئامُ

                يا وَضّاح …  (5)

أمّا ابنتُه وئام، فهي حُلم الشاعر، وهي قمر زمانِه الذي أضاء سماء حياته، وفي ذلك إشارة واضحة إلى العُمق النّفسي الذي يتّسم به شاعرنا الدكتور شهاب غانم، وإلى أبوّته المثاليّة، فهو لا يخشى الموت حُبّاً بلذّات الحياة، بل لأنه لا يُريد الابتعاد عن ابنته الغالية، ولذلك فهو يرضى بالمُعاناة التي تجود بها الحياة من أجل عيني ” وئام ” القمر المشرق في فضاء القلب، والدواء الشافي لهذه المعاناة، يقول:

وِئامُ يا أجملَ أحلامي

يا بَلسماً للخافقِ الدّامي

بَزَغْتِ في دُنيايَ وضّاءةً

كالبدرِ في أحلكِ أيّامي

فَصِرْتُ أخشى الموتَ يا مُهجتي

وَصِرتُ أستعذبُ آلامي (6)

وكم لجأ الشاعر إلى المبالغة وهو يصوّر مكانة الأرض عظمةً بمكانة القلب من جسد الإنسان، فالأرض العطشى للماء إذا انهمرت عليها سحائب الخير من الغيث انتشت وأثمرت من كلّ زوجٍ بهيج، وكذلك قلب شاعرنا إذا ما رأى ابنه ” وضّاح ” تدفّقت ينابيع الفرح في قلبه، وتراقصت روحه طرباً، وهجر كُلٌّ من الأرض والقلب ما كان فيهما من المعاناة القاسية، وتوهّجَتْ آلاءُ السّعادة بين يدي الشاعر هامسةً في أُذنِه أن يعزفَ أنغامَ ابتهاجها في قلبه وروحه،  يقول شاعرنا:

رأيتُكَ يا وَضّاحُ، والقلبُ مُجدِبٌ

تَشقّقَ مثلَ الأرضِ فانهمرَ المُزْنُ

فعادَتْ يَنابيعُ الحياةِ غَزيرةً

وعادَ إلى الأرضِ اليبابِ بِها اليُمْنُ (7)

وحين تهدأُ نفسُ الشّاعر، وتهنأُ أساريرُه برؤية الأحبّة والأهل نَراهُ يُبدِعُ فينسابُ الشِّعرُ رقراقاً  على لِسانِه، وتتمايلُ دُرَرُهُ  بين يَديه مُنسابةَ التّألُّقِ  والفرحِ، عازفةً أرقّ الألحان،  وهو بذلك يربط ما بين الإبداع  والحالة النّفسيّة التي يعيشها؛ فَيُلامس بذلك قضيّةً نقديّة مُهمّة وقف عليها – كثيراً –  عُلماءُ النّفس، وهي ارتباطُ الإبداع بالعامل النّفسي للمُبدعِ، يقول:

رَأيتُكَ وَضّاحاً أجدّ لي المُنى

وقد خرس القيثارُ، وانهرَقَ الدَّنُّ

فعادَتْ بَناتُ الشِّعرِ نَشوى تزورُني

وَتهمسُ في أُذني فينطلقُ اللّحنُ (8)

والنّظرة الاجتماعية لدى الشاعر الدكتور شهاب غانم مُتكاملةٌ ومُترابطة الحلقات، يُكمل بعضها بعضاً، فالأبناء والأحفاد أركانٌ مهمّة فيها، أما الأُسُّ والأساسُ فللوالدين الأبِ والأمّ، وهُنا نلمح دعوة شاعرنا إلى بِرِّهما،  والاعتناء بِهما، فنراه يبحث عن هديّة تليق بوالده الذي يعدّه منارة العمر، ليس فقط لشاعرنا بل لكلّ أبناء الشّعب اليمني الذي نهل من نور معرفة والد الشاعر، ولاسيّما أنه أوّل من نال شهادة الدكتوراه  في اليمن كما نعلم،  وكيف لا وشاعرنا نشأ بين أحضان عالِمٍ موسوعيّ العلم  والمعرفة والفكر، ولم يجد الشاعر هديّة أثمن من الشعر والشعور يهديهما لأب تتلمذ على يديه، وتعلّم منه نظم القصيد، وارتوى من مناهل أفكاره ومشاعره النبيلة، يقول:

ليت شِعري ماذا تكونُ الهديّةْ

والشّموعُ السّبعون تزهو نَديّةْ

أَبَتي لمْ تَزَلْ مَناراً رَفيعاً

للنّفوس الطّموحَةِ اليَمنيّةْ

كمْ تَعلّمتُ منكَ صوغَ القوافي

وَتَشرَّبتُ مِنْ رؤاكَ الأبيّةْ

ليتَ شِعري ماذا بِعيدِكَ أهدي

غيرَ هذي المجموعَةِ الشِّعريّةْ (9)

وللوالدين حيّزٌ مُهمٌّ  ومُمتدٌّ في شعر الشاعر، وهو لا يدخلُ في رثاء والدِه مُباشرة، بل يُمهّد بأبيات يتناول فيها أعماله وأخطاءه، ويطلب من ربِّه المغفرة والرحمة، ومن ثُمَّ يرثي والده، ولعلّي به يخشى أن يدعو اللهَ تعالى وهو يعرف ما ارتكب من ذنوب، ولذا تراه يُعدّد جوانب من تقصيره، ويتمنى مغفرة الله، ومن ثَمَّ يبدأ بالدعاء لوالده، ورثائه، يقول:

أخشى، وآملُ، ما لي غيرَ آمالي

فأنتَ يا رَبُّ قد أحصيتَ أعمالي

وأنتَ سَجّلتَ أقوالي، وكمْ شَطَحَتْ

في لحظَةِ الضّعفِ والشّيطانِ أقوالي

وأنتَ تعرفُ أفكاري التي كَمَنَتْ

ولم تُتَرجَمْ إلى قولِ وأفعالِ

فاغفِرْ وَتُبْ، واهدِني نحوَ الصّراطِ فلا

أحيدُ عنه، فأهوي بينَ أهوالي

فأنتَ تدري بأنّي مُسلِمٌ أَبَداً

بل مؤمِنٌ، رَغمَ تقصيري وإهمالي (10)

والبِرُّ أساس حياةِ الشاعر، فنراه يذرف الدموع مدرارةً على فقد والده، ويرثيه بأبيات شعريّة عميقة الدلالة في مُناجاة إلهيّة رائعة تُمثّل الصّلة القويّة والرائعة بين العبدِ وَرَبِّهِ، بل إن الشاعر يحار كيف يبدأُ، أوْ مِنْ أين يبدأُ رثاءَ والدِه، ذلك الطَّودُ الشّامخُ في آفاق الفكر والمعرفة والعلم، وذلكَ الجذرُ المُمتدُّ في أعماق أرض اليمن الكبير، بل والوطن العربي بشكل عام، والإنسانيّة كلّها، فهو عَلَمٌ لا يَجهلُه إلا جاحدٌ أوْ قليلُ معرفة، يقول الشاعر:

من أينَ أبدأُ في المرثاةِ يا أَبَتي

وَكُلُّ بابٍ أمامي دونَ أقفالِ

وأنتَ قصرٌ مُنيفٌ من مَداخلِه

عِلْمٌ وَفَنٌّ، وَشِعرٌ سامِقٌ عالِ

مِنْ أينَ أدخلُ في المرثاةِ يا أَبَتي

وأنتَ بَحْرٌ بألوانٍ وأشكالِ

مِنْ أينَ أدخلُ في المرثاةِ يا أَبَتي

وأنتَ صاحِبُ أفضالٍ وأفضالِ؟ (11)

وبعد جُملَةٍ من الأسئلة الاستفهاميّةِ التي تدلُّ على حَيرة الشاعر- وهي حَيرة تنبع من بِرٍّ عظيم – نراه لا يجد القامة السّامقة، ثُمَّ يتّجهُ الشاعر بالدعاء لوالدِه، وكأنّي بِه يُحقّقٌ البِرَّ بِه مُترجماً ما قاله الرسول كلماتٍ تناسبُ مقام والده، فكلّ كلامٍ أمام صَرحِ والدِه قاصرٌ، ولا يُمكن أن يطال هذه

الكريم – صلى الله عليه وسلّم – :” إذا ماتَ ابنُ آدمَ انقطعَ عَمَلُهُ إلّا من ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جاريَةٍ، أوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ وَلَدٍ صالِحٍ يدعو له ” (12).

قَبراً بِصنعاءَ يا رَبَّ الوجودِ، أَنِرْ

    وَجُدْ عليهِ بِغَيثٍ مِنكَ هَطّالِ

واجعلْهُ قصراً، وَهَبْ في الخُلْدِ ساكِنَهُ

عن كُلّ مِثقالِ خيرٍ ألفَ مِثقالِ

وانزِلْ على قَبْرِ مَنْ كانتْ بِجانبِهِ

على الشدائدِ صَبراً، أيَّ إنزالِ (13)

والتّوظيف الثقافي لدى  الشاعر يدلّ على  غِناه  المعرفيّ، فهو يستخدم لفظة الغيث وليس لفظة المطر؛ لأن الغيث سُقيا خيرٍ، وهو يُريد من الله تعالى أن يُنزل الخير وشآبيبَ الرحمة المتدفّقة على قبر والده، كما  نراه في تناصّ ثقافي يورد لفظة ” مثقال “، وهي مُستوحاة من القُرآن الكريم، ليطلب من الله سُبحانه وتعال أن يُضاعف وزن حسنات والده في ميزان الحساب، يقول الله تعالى في سورة الزلزلة:

﴿  فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿٨﴾.

ولم تقتصر مواقف الشاعر الشعرية على الأُسرة فقط، بل تجاوزتها إلى المجتمع، وإلى النّقد الاجتماعي بما فيه من مؤسّسات اجتماعيّة، إذْ نراهُ يتناول الظّواهر السّلبيّة فيها، فيصف المدير الفاسد الذي ملأ جيوبَه من الرّشوة، ومن إساءة المنصب الوظيفي، واستخدامه استخداماً ” براغماتيّاً ” ، وبهذا لا يكون الشاعر مُجرّدَ مادحٍ، أوْ وصّافٍ، بل هوَ ناقدٌ اجتماعيٌّ ذو رؤية منطقيةٍ حكيمة  تصف المجتمعَ والآفاتِ التي تفتك بِه بسبب أشخاصٍ لا تهمّهم إلا أنانيّتُهم التي تُبيحُ لهم كُلَّ شيء لتحقيق طموحِهم الأعمى، وإن كان بغير وجهِ حقٍّ، يقول شاعرنا:

          ويستوي في المقعدِ الوثيرْ

          وينتشي من الشّعورْ

          بأنّه مُدير

           بلْ إنّه المُديرْ

           لكنّ شُغلّه الوثيرْ

           أن يُعمِلَ التّفكير

           في كيف يستطيعُ أنْ يُدير

           دواخِلَ الأمور

           لكي يُصيبَ المبلغَ الكبير

           فيستطيع أن يصير

           في زمنٍ قصير

           مُستثمراً كبير

           ونافِذاً خطير

           وإنْ يَكُنْ بالنّصبِ،

           بالنِّفاقِ والتّزوير

           والطّعنِ في الظّهور …  (14)

فالشّعرُ عند الشّاعر ينبعُ من أتّون الرّوح تارةً، ومن الواقع تارةً أُخرى، فهو تكامليُّ الرؤيةِ المُجتمعيّة، ورؤيةُ الشّاعر عميقةٌ، وليست سطحيّة؛ لأنها تنفذ إلى عُمقِ الظّاهرة، فيصفها، ويحللّها، ويحدد جذورها.

  • 2- الشّاعرُ في محرابِ العِلْمِ

 بِنفَسِ الشّاعرِ والمُفكّرِ والإنسانِ عبّرَ شاعرُنا الدكتور شهاب غانم عن فِكْرٍ عميقٍ، ورؤيةٍ ثاقبةٍ تبحثُ عن أدواتِ النّجاحِ، وَسُبُلِ الارتقاءِ والسُّموِّ في المجتمع خصوصاً، وبينَ الأُمم عُموماً، وهذه الأدواتُ أساسُها العِلمُ، والجِدُّ، والارتقاءُ في سُلَّمِ الدراسَةِ والتّفكير والتّحصيلِ، وقد صاغ الشاعر هذه الرؤية في مُناسبات كثيرة، وبطرائق متنوّعة، لعلّ منها ما قدّمه في حفل ” جائزة راشدٍ للتّفوّق العلمي”   في دُبيّ عام 1996م ، حين أدخل العشقَ والغزلَ في صياغة الفكرة التي أرادها، فكما أنّ الحبيبة لا ترضى بِحُبٍّ ناقصٍ، وإخلاص غير مُكتمل، كذلك طَلَبُ العِلمِ لا يكون بالاقتصار على الأجزاء، بل لا بُدَّ من الكُليّة والشّمول، وَهُنا نراه يُحدّد مراتبَ للعِلم في أسلوبٍ جماليّ رائع، وتوظيفٍ حَسَنٍ، يقول:

تَضوَّعَ مِنْ حَملِ الهوى، وتألّقا

وفي دَرجاتِ العِشْقِ جاهدَ وارتقى

وما كُلُّ قلبٍ يَعرِفُ الحُبَّ والهوى

ولا كُلّ ذِهْنٍ عن خيالٍ تَفتّقا

ولا كُلُّ فَنّانٍ، ولا كُلُّ شاعرٍ

قد اقتحمَ الفنَّ الرّفيعَ المُحَلّقا

ولكنْ طموحٌ في الدُّنا، ومواهبٌ

وَمَنْ يَمتلِكْ مَهْرَ العُلا كان أسبقا (15)

وكما أن العاشق لا يرضى في عشقه بقليل من وصال، أو بحُبٍّ متواضعٍ سطحي، فكذلك العِلمُ لا يكون إلا بالارتقاء والبذل والجِدِّ، وكأنّي بالشّاعر يُعيدُ صياغة المقولة الشهيرة للشاعر أبي القاسم الشّابيّ:

وَمَنْ لا يُحِبُّ صعودَ الجبالِ

يَعِشْ أَبَدَ الدّهرِ بينَ الحُفَرْ  (16)

يقول الشاعر الدكتور شهاب غانم:

كذلِكَ عِشْقُ العِلمِ يأتي مَراتِباً

وَمَنْ سَهِرَ اللّيلَ الطّويلَ تفوّقا

فما نالَ إنسانٌ بِنِصفِ عَزيمةٍ

قلادةَ مجدٍ في الدُّنا وَتطوّقا

وهلْ تَرتضي ليلى بِنصفِ مُتيّمٍ

وقد ذابَ قيسٌ في الهوى، وتحرّقا

وما العِلمُ إلا مثلُ طَوْدٍ، وإنّما

يفوزُ بِذرواتِ العُلا مَنْ تَسلّقا (17)

وكأنّي بشاعرنا الدكتور شهاب غانم يضع أُسُساً تربويّة لعلّها تُمثّل منهجاً علميّاً، من ذلك أنّه جعل العِلمَ مراتب لا يُمكن بلوغها إلا ببذل العمل والجهد، وعلى قدر الجهد المبذول يكون الناتج، وتتحقق الدرجة العلمية المنشودة، وهو يدعو إلى الارتقاء، وعدم الاقتناع  بالقليل، فالعلم كالعشق لا يقبل بالحُبّ القليل، والعاشق – دائماً – يطمح إلى الحُبِّ المُتكامل، والوصال المثالي للحبيب.

ونظرية شاعرنا في العزيمة تشبه نظرية الشاعر المتنبي حين يقول:

على قَدْرِ أهلِ العزمِ تأتي العَزائِمُ

  وتأتي على قَدرِ الكِرامِ المكارمُ     (18)

ووفقَ منهجٍ علميّ منطقيّ يُقدّم الشاعر توصيفه لأهميّة العِلمِ ودورِه الجوهريّ في حياةِ الفرد،  ومن ثَمَّ يورِدُ الدّليل والحُجّة والبُرهان على ما ذهب إليه، فتراه يتحدّث عن دور العِلمِ وأثَرِه، فالأُمَمُ ترقى، وتسمو بالعلم، وإنّ تفوّقَ الغرب  وتقدّمه ما هوَ إلا  نتيجةٌ للعِلمِ الذي تسلّح به، وبذل من أجلِه، وهو الأمر الذي تعلّمه الشاعر نفسُه من والدِه الذي علّمه عشق العِلمِ، وأغراهُ به بحراً اغترفَ والدُهُ من كنوزه وخيراتِه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، يقول:

ذَكرتُ الصّبا الميمونَ في ظِلِّ والدٍ

يُعَلِّمُنا أن نَعشقَ العِلمَ والتُّقى

وَيغرفُ من بحرِ الثّقافةِ كيفما

أرادَ، ويشدو بالقريضِ مُحَلّقا

وَيُرشِدُ أنّ الغربَ سادَ بِعِلْمِه

وليسَ بِغيرِ العِلمِ سادَ أو ارتقى (19)

ويرى الشاعر أننا حين أهملنا العِلمَ تراجعنا فتقدّم الغَربُ علينا، وتحكّم بنا فأصبحنا تابعين له، نتحرّك كما يشاء، أوْ يُحرّكنا كما يشاء، يقول:

فَصِرنا لهذا الغَربِ ذَيْلاً يَهُزُّنا

إذا شاءَ في عُنفٍ، وإلّا تَرفّقا (20)

والشاعر يدعو إلى نّبذِ التّخلّف، والعمل من أجل الارتقاء والسّير في رَكْبِ التّطويرِ والتّحديث، والاستفادة من تجارب الغرب، ونبذ مقولة التّغريب، والخوف منها؛ لأننا سنأخذ بوعي، وسنحافظ في الوقت نفسه على تُراثنا العربيّ الأصيل؛ لأنّ الانقطاع عن التّراثِ ونبذِ الماضي المجيد، والانخراط في تتبّعٍ أعمى للغرب بِحُجّة العولمةِ هو أمرٌ مرفوضٌ، وغير مقبولٍ –  برأي شاعرنا –  وهو لا ينسى أن يُذكِّرَنا بأهميّة ربط العلم بالأخلاق والدّين، فلا يُمكن التّخلّي عن تقوى الله تعالى بِحُجّة التّطوّر والحداثة، فهذه الأمور من الثّوابت الأساسيّة التي لا يُمكن تجاوزُها، أو التّخلّي عنها تحت أيّ ظرفٍ من الظّروف،  يقول:

كفى أُمّةَ العُربِ العِرابِ تخلُّفا

ويكفي بَني الدِّينِ الحنيفِ تَمَزُّقا

فَسيروا إلى التّحديثِ دونَ تَهيّبٍ

وليس إلى التّغريبِ إن كان مَزلقا

ولا تَجحدوا فضلَ التُّراثِ فَدَوحُنا

بِدونِ جُذورٍ لن يقومَ وَيورِقا

ويا إخوةَ العِلمِ الرّفيعِ تَذَكّروا

بأنّ العُلا بالعِلمِ، لكنْ معَ التُّقى (21)

وفي هذا الطّرح بُعدٌ ثقافيٌّ، ووعيٌ علمي وعُروبيٌّ يشهد له، فنحن علينا أن نأخذ من الغرب، ونفيد منه، لكنّنا يجب ألا ننسى تُراثنا، وما تركه لنا الأجداد من إرثٍ عِلميّ وحضاريّ مجيد، يقول الشاعر:

            تحتَ ادّعاءِ ضرورةِ التّحديثِ والتّجديدْ

            والهدفِ الحقيقيّ الأكيد

            هوَ القضاءُ على ثقافات الشّعوب المُعدَمَهْ

            بِكُلّ تِلكَ الطّلسمه

            أَتَعدُّها أمراً مُفيد ؟!…

            وَرَشَفْتُ آخر رَشفَةٍ في الكوبِ

            ثُمَّ نَهَضْتُ، سِرْتُ،

           ومن بَعيد

           صوتُ الجِدال غدا بِأُذني غَمغمهْ (22 ) …

ويجعل الشّاعر من  نهضة دولة الإمارات العربية المتحدة – بقيادة روّادها – نموذجاً يُشار إليه بالبنان، ويفخر به كلّ عربي، وكلّ مُسلم، وكلّ إنسان على وجه هذه الأرض؛ لأن النهضة التي تشكّلت على أرض الإمارات هي نهضةً تخدم مصالح العالم كله، وقد أخذت على عاتقها الإفادة من تجارب الشعوب وعلومها واقتصادها، فغدت واسطة العِقد بين بلاد العالم، مُحافظةً على أصالتها، وآخذة من العالم الحديث ما يُناسب نهضتها الحديثة الشاملة، يقول:

تعالوا انظروا كيف الإماراتُ تكتسي

لدى كُلِّ صُبحٍ من سنا العِلمِ رَونقا

وكيف غَدَتْ للعُربِ جَمعاً نموذجاً

إذا ما رآهُ المرءُ أثنى وصفّقا

وكيف سعى شَيخُ العروبةِ زايدٌ

وإخوانُه نحو العُلا فَتحقّقا

وكيف بَنى للشّعبِ بالأمسِ راشِدٌ

مَرافِقَ في طولِ البلادِ، وأغدقا(23)

كما يرى الشّاعر في الجهود العلميّة المُباركة الكبيرة التي تقوم بها دولة الإمارات انعكاساً للرقيّ والتّقدّم العلمي،  وإن التكريم والتقدير الذي يلقاه أهل العلم من قادتها أرسى مكانة العلماء على شاطئ الإبداع والسعادة على أرضها،  يقول الشاعر:

وَيُثلِجُ صَدري أنْ أرى اليومَ قادةً

تُكَرِّمُ أهلَ العِلمِ والبحثِ والفِكْرِ(24)

 والعلمُ صرحٌ شامخٌ، ولا يمكن بلوغه من دون بذلِ الجهد، وأخْذِ الأسباب، وهذا الأمرُ لم يغفل عنه الشّاعر، حيث نراه يُشير إلى ما يجبُ على طالب العلم امتلاكُه من الأدوات والعزائم؛ لأن العلم لا يُكتسبُ بالقوّة أو القسر، بل بامتلاك العزيمة والرّغبة والمحبّة  والاجتهاد حتى بلوغ المُرتجى، ولاسيّما أنّ طلبَ العلم ممّا أوجبه الله تعالى على الإنسان في القُرآن الكريم، فكانت كلمة ” اقرأ ” هي أوّل ما نزل من كتاب الله على رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – وكان ذلك في قوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿١﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿٢﴾اقْرَأْ وَرَبُّكَ

الْأَكْرَمُ ﴿٣﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿٤﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿٥﴾ (25).

فما أجمل شاعرنا وهو يحثّ على فضيلة العلم مُقتدياً، ومُهتدياً بما أراده الله تعالى للبشرية في حضارتها الإنسانية، يقول:

وإنّ طِلابَ العلمِ نوعٌ من الهوى

عليهِ يَحُثُّ الحقُّ في مُحْكَمِ الذّكرِ(26)

وحين يكون الحُبُّ ديدن طالب العلم، يستطيع الانتقال إلى المرحلة الثّانية، وهي بذل الجهد والعمل الدؤوب، والالتزام بمنهج العلم ومُتطلّباته، فكيف إذا كان طالب العلم قد ولد وترعرع في بيئة علمية رضع من نورها محبّة العلم، وحرص على الالتزام بواجبات أصدقائه الأوفياء في مسيرة حياته: الورق، والحبر، والوفاء للعلم ، يقول:

جرى في دَمي ذاك الهوى، وَرَضِعتًه
فَقَضيتُ أيّامي مع الطِّرسِ والحِبرِ(27)

وإنّ ارتقاء سُلَّمِ العلم يقتضي تضحيات كبيرة، ولعلّ منها الاغتراب، والسّفر بحثاً عن مصادر العلم ومنابعه، بعيداً عن ملذّات الحياة ومُغرياتها بما فيها من الأولاد، والأهل، وقديماً كان طلّاب العلم يقضون العُمر مُرتحلين من بلدٍ إلى بلد، باحثين عن العلم والمعرفة مهما تقدّم بهم السنُّ، فليس للعلم حدود في العُمر أو الزّمان أو المكان، وهو ما أكّد عليه الشاعر الدكتور شهاب غانم في قوله:

وفارقْتُ أولادي وأهلي وموطني

وَضَحّيتُ بالغالي النّفيسِ وبالعُمرِ

وها أنذا أدركْتُ خمسينَ حِجّةً
ومازال مُهري في مسالِكِهِ يَجري(28)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

–  المصادر والمراجع

– القُرآنُ الكريم.

1- الأعمال الشّعرية الكاملة /ص 18- د. شهاب غانم – منشورات هيئة أبو ظبي للثّقافة والتّراث- المجمع الثّقافي / ط1 / 1430هـ / 2009م.

2- السابق ص 22.

3- السابق ص 20.

4- السابق ص 20.

5- السابق ص 24.

6- السابق ص 26.

7- السابق ص 27 .

8- السابق ص 27.

9- السابق ص 35

10- السابق ص 398 .

11- السابق ص  399 .

12- شرح رياض الصالحين، محمد بن صالح العثيمين  . ( رقم الحديث : 1383 ).

13- الأعمال الشّعرية الكاملة / ص 402 – د. شهاب غانم – منشورات هيئة أبو ظبي للثّقافة والتّراث- المجمع الثّقافي / ط1 / 1430هـ / 2009م.

14- المصدر السابق ص  325 .

15- المصدر السابق ص 145 .

16- ديوان أبي القاسم الشّابّي  / ص 70 – شرحه وقدّم له : أ. أحمد حسن بَسَج – منشورات دار الكتب العلمية- بيروت / ط4 / 1426هـ / 3005م .

17- الأعمال الشّعرية الكاملة / ص 145 – د. شهاب غانم – منشورات هيئة أبو ظبي للثّقافة والتّراث- المجمع الثّقافي / ط1 / 1430هـ / 2009م.

18- شرح ديوان المتنبي/ وضعه عبد الرحمن البرقوقي / الجزء الرابع / ص 94/ منشورات دار الكتاب العربي/ بيروت / 1407هـ / 1986م.

19- الأعمال الشّعرية الكاملة / ص 146 – د. شهاب غانم – منشورات هيئة أبو ظبي للثّقافة والتّراث- المجمع الثّقافي / ط1 / 1430هـ / 2009م.

20- السابق ص 20 .

21- السابق / ص 333 .

22- السابق / ص 146 .

23- السابق / ص  150 .

24- القُرآن الكريم، سورة العلق ، الآيات.

25- الأعمال الشّعرية الكاملة للشاعر الدكتور شهاب غانم /  ص  150 .

26- السابق / ص 150 .

27- السابق / ص 150 .

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى