مقالات

عيسى صالح القرق فارس ترجّل د. محمود علياء – الإمارات

د. محمود علياء

عرفت الفقيد الكبير المرحوم عيسى صالح القرق الفارس الذي ترجّل يوم الخميس الماضي وهو يستعدّ لاستقبال شهر رمضان المبارك،عرفته على مدى أربعين عاماً في مجلسه بدارته بدبي، وفي مكتبه، وفي لقاءاته، وفي المؤتمرات الكثيرة التي شارك فيها باحثاً ومتحدّثاً ومستشرفاً للمستقبل، سواء داخل دولة الإمارات العربية المتحدة أو خارجها، فكان بحق رجل الرأي الحصيف، والسديد، بقدر ما كان صاحب الكلمة المسؤولة، والرؤية الشاملة، والتحليل الموضوعي، والنظرة الثاقبة الصائبة، والالتزام الكامل، حتى غدا أبو صالح بحق رحمه الله، مدرسة بل جامعة تمشي على قدمين يقصده الجميع من القاصي إلى الداني، والشايب والشاب، والصديق والقريب والبعيد، للاستنارة برأيه، والنهل من معين خبرته، والاستزادة من تجاربه الشاملة، وعلمه الراسخ، وثقافته الواسعة، في معترك الحياة، وعالم الكتب، وتباين الشؤون والأمور.

  لقد كان المرحوم عيسى صالح القرق دبلوماسياً إماراتياً وعالمياً من طرازٍ رفيع، فهو المستمع المجيد، والمحدّث الكيّس اللبق، والمحاور الواقعي والموضوعي الهادف، الذي يحرص على أن يسمّي الأشياء بأسمائها، وبدقة مصطلحها اللغوي، دون مداورة أو محاباة، يقرأ بحصافة، ويكتب بسلاسة ووضوح، يعتمد التعبير المباشر، ويختار المفردة الدقيقة في مكانها الدقيق. ويعتقد بثباتٍ بصحّة ما قاله عالم النفس الشهير “كِهلَرْ” صاحب نظرية الاستبصار بأنّ “من لا يستطيع أن يعبّر عما يجول في فكره تعبيراً منطقياً سليماً، لا يستطيع أن يفكر تفكيراً منطقياً سليماً”.

   تعلّم المرحوم السفير عيسى صالح القرق في مدرسة الحياة الكُبرى من مطالعاته المتشعّبة، وقراءاته الكثيرة، إضافة إلى دراسته الأولى، وأيقن أنّ الخطّ المستقيم هو دائماً أقصر مسافة بين نقطتين، وأنّ احترام ذكاء الناس هو مفتاح النجاح، وأنّ الاجتهاد هو الباب الواسع للتطوّر وللتطوير، وأنّ المجتمع هو المدرسة الكبرى التي لا ينضب معينها، ولا يشحّ زيت نورها، فهي التي ترفدنا جميعاً لنتعلّم كلّ يوم منهج الصواب، ونتجنّب الخطأ لتقويم السلوك، وتكريس صحّة القرار، والحرص على نجاح أية مبادرة والالتزام بالصحيح والأصح.

  كان ،رحمه الله، قريباً جداً من المرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، وكذلك من المرحوم الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم رحمه الله، وكذلك من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى للاتحاد حاكم الشارقة، أمدّ الله في حياته، ومن أصحاب السمو حكّام الإمارات عامة، يقدرون دوره في تأسيس المسيرة الاتحادية ونجاحه، وفي نجاح المؤسسات التجارية والمصرفية التي أسّسها وتولّى رئاسة مجالس إداراتها، وكذلك في دوره الدبلوماسي سواء في الظروف الاعتيادية، أو الطارئة، لما في رأيه من حصافة، وفي أدائه من كياسة، وفي بصيرته من حكمة، وما في علاقاته المحلية والإقليمية والعربية والدولية من اتساع وشمول أكسبه احترام الجميع، وتقديرهم وثقتهم، وتكريمهم لسعادته على مدار حياته.

  وفي إحدى حواراتي الصحفية معه سألته رحمه الله: ما هو أثمن أسرار الدبلوماسية؟ فأجاب هو: أن توافق بحذر، وأن تعارض دون أن تكون مكروهاً، أما أطرف ما كان يرويه سعادته عما يجول في عالم الدبلوماسية، فهو قول الأديب الإيرلندي الساخر والشهير برنارد شو عندما سئل ذات مرّة عن تعريفه للدبلوماسي، فقال: (الدبلوماسي إذا قال نعم يعني ربّما، وإذا قال ربّما يعني لا، أما إذا نطق بكلمة لا، فالأفضل أن لا يعمل بالحقل الدبلوماسي).

  أما عن صداقات المرحوم السفير عيسى صالح القرق المحليّة والإقليمية والعربية والدولية فحدّث ولا حرج، فقد كان من أبرز أصدقائه في مصر الدكتور محمود فوزي، والدكتور محمود رياض، والدكتور عمرو موسى، والدكتور عصمت عبدالمجيد، وفي بريطانيا رئيس الحكومة البريطانية الأسبق السير إدوارد هيث، وفي لبنان الدكتور شارل مالك، ودولة الدكتور سليم الحص الذي كان يزوره باستمرار في مكتبه بدبي، كلّما قدم إلى دولة الإمارات العربيّة المتحدة،  وقد حضرت ذات مرّة لقاءهما يوم أهدى دولة الدكتور سليم الحص كتابه “تعالوا إلى كلمة سواء” إلى معالي عيسى صالح القرق، وكتب في الإهداء “هذه بضاعتكم ردّت إليكم.” وهو ما يذكرنا تاريخياً بالخليفة العباسي الذي أهدي إليه كِتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه الأديب الأندلسي الشهير، وبعدما تصفحه الخليفة قال كلمته الشهيرة: “هذه بضاعتنا ردّت إلينا.”

  لقد كان المرحوم عيسى صالح القرق علماً في عالم السياسة والإقتصاد، والأدب والثقافة، والاستثمار والتجارة، وقد حرص طوال حياته على الخطوة المدروسة في الوقت المناسب لتحقيق النجاح المنشود، وتقديم النصيحة المرجوّة، بتواضع جم، وخلق رفيع، وأدبٍ لافت، ومثابرة دؤوبة.

  سألته ذات مرّة، قال أحد الحكماء ينصح ابنه: ( يا بني إذا أردت النجاح في الحياة فعليك بخمس هي أولاً اليقظة الباكرة، وثانياً الصدق مع الناس، وثالثاً الذكاء الذي يتصيّد الفرص، ورابعاً حساب لكلّ الاحتمالات، وخامساً هدف محدّد تسعى إليه. ) فقال رحمه الله هذه الوصايا الخمس مثل أصابع اليد الواحدة لا تستطيع الاستغناء عن أي واحد منها.

  وتذكرنا عائلة آل القرق الكرام في دولة الامارات العربية المتحدة بإبداعات أبنائها وثقافتهم وكتاباتهم، حيث الأديب المؤرّخ الراحل، الأستاذ محمد صالح القرق رحمه الله، والأديب الدبلوماسي الراحل الأستاذ عيسى صالح القرق رحمه الله، والشاعر الأديب الدكتور فريد عبدالله القرق وحرمه الدكتورة الكاتبة والمثقفة رجاء عيسى القرق، أمدّ الله في حياتهما بما يبشّر بالمزيد من المبدعين والمبدعات في الأجيال القادمة من العائلة بإذن الله، فالكلمة الطيّبة كالشجرة الطيّبة تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها.

  وهذا ما يذكّرنا بالعائلات الأدبية الكثيرة في عالمنا العربي مثل آل البستاني وآل اليازجي وآل الجسر وآل الرافعي في لبنان، وبآل تيمور في مصر، وبآل السباعي في سوريا، وبآل طوقان في فلسطين، وبآل الإبراهيمي في الجزائر، وبآل الفاسي في المغرب وغيرها من الأسر العريقة بالثقافة والأدب والفكر والإبداع في عالمنا العربي. وجاء في الحديث النبوي الشريف: “الخير فيّ وفي أمّتي إلى يوم القيامة”.

  وكلّنا يتطلّع إلى التمام الذي لا نقصان فيه، وإلى الكمال الذي لا زيادة عليه، والكمال لله وحده.

  رحم الله الفقيد الكبير والصديق العزيز والجامعة التي لا ينضب معينها ولا يخفق بريقها المرحوم الأستاذ عيسى صالح القرق – أبو صالح – وأسكنه فسيح جناته، مع الصديقين والأبرار و ” إنا لله وإنا إليه راجعون” .

وصدق اله العظيم : ” مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا “

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى