إبداعات

“التقاطات شوارعية”                 أمان السيد *     –       أستراليا

أمان السيد

رجل لم أتمالك نفسي من استراق النظر إليه في ما يفعل.. كان مهندمًا بشكل يوحي بأنه موظف مكتب رسمي، توقف قليلًا، وسحب زجاجة ذات عنق طويل من جيب داخلي في سترته، كانت شفافة بحيث أبدت سائلها.. اجترع منها بنهم، ثم توقف قريبًا من حاوية قمامة، ومج بالشراهة نفسها سيجارة حتى أتخمها، لتتحول بعدها عيناه إلى جمرتين، التمع معهما خاتم الزواج الذهبي الواضح في بنصره الأيسر، ومن جيب خفي آخر، سحب علبة امتص منها حبتين  ليغير ما  لحق بأنفاسه من السّكر، والدخان..عدل نفسه قليلًا، تمسك بلاب توبه، ثم دفش باب المركز الطبي بيده، وغاب فيه..

“حدث هذا في صباح مبكر”..

                                               **

امرأة حكمت من الوهلة الأولى بتسولها..

استغربت كمية الجرائد التي تحملها في سلتها، تشاركنا الباص، هي بقامتها القصيرة، ورقبتها الغاطسة بين كتفيها، وأنا بعيني اللاهثتين خوف أن تضيع مني محطة أقصدها.. سألت جارتها عن موعد آخر باص للتنقل، ولم أتوقع أن تأتيني الإجابة مفصلة منها.. ما أزال لا أستطيع أن أبعد شبح التسول عنها، واستغرابي الجرائد المكتظة بها سلتها..

جاء يوم ثان، رأيتها تجالس رجلًا على مقعد في الشارع، يدور بينهما حديث ما، استرعتني الجرائد ثانية.. كانت السلة ترقد بجانبها فاصلة بين الجالسين تطل منها جرائد كثيرة..

خبر ما استوقفني للسؤال، لكني أحجمت حين رأيت المرأة تفتح جريدتها، وتشير إلي، ويكتفي جليسها بالابتسام..

” شارع ما، رصيف ما، يا إلهي كم تنوء الأرصفة  بحكاياتها!”..

لم ينتظر الإشارة خضراء ليقطع الشارع.. مسرعًا يجر كلبه الأسود الصغير.. كان الرجل مسنًا، لكنه رياضي رشيق ب “شورته” القصير، ورجليه الناحلتين، وما أن وصل إلى جانب الشارع الآخر، حتى ركع أمام كلبه يقبله ويحتضنه بمنتهى الحنان.. شعرت بأنه يعتذر منه عما فعل.. سؤال ما لم أتمالكه: هل يقبل هذا الحنون زوجته بهاتين الشفتين نفسهما اللتين قبلتا الكلب من فمه؟!

                                                   ……

شوارع كثيرة تختص بالبؤساء، وطبقة أقل من المتوسطة، في رمضان يتناسل القوم من بيوتهم، وقد اتخذوا كل مفرق وطريق.. جميعهم يلهثون فقط لشعورهم بأنهم بلا طعام أو شراب، أو تدخين..

                                                  …..

الليل حين يهبط هنا يتخذ ألف شكل،على الأقل لي أنا يحمل الخوف والرغبة في التدثر سريعًا بجدران بيت يخصني..

هناك سكير اتخذ من الرصيف متكأ للهو وسمر، يشير بيده بلا معنى، فقط يهزها عاليًا وفي مستوى قامته جالسًا.. لقد قام الآن، وانطلق باتجاه امرأة لم أفهم.. لم توجه إلي حديثا .. لا تريد مني جوابًا عليه، أعتقد أنها الأخرى بها مس ما، في عينيها ضياع وقلق رهيب النظرات..

 اهتز الرجل أمامها وقد غاب أكثر عقله، ثم انطلق…

أحس بأني اتجهت بلا تقصد إلى منتصف الطريق عرضًا، ذاك الارتعاش من الليل رغم أن الشارع يغص بالمارين والسيارات، متى تراني أنجو منه ؟!!!

*أديبة استرالية من أصل سوري لها مجموعة إصدارات

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫8 تعليقات

  1. جواب سؤال طرحته الكاتبة في القصة” هل يقبل هذا الحنون زوجته بهاتين الشفتين نفسهما اللتين قبلتا الكلب من فمه؟!الجواب: نعم، ولا غرابة في ذلك، لأن زوجته أيضاً تقبله بنفس الشفتين التي تقبل بهما كلبها!!🌹

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى