مقالات

قراءة في مجموعة قصصية “مذكرات غريق” للكاتب عبد الرحمن محمد . ريما آل كلزلي – السعودية

إن النص الأدبي لا تنصب فوائده على كونه نصًا أدبيًا يجمع ما بين أساليب الكتابة المتقنة والتعبيرات الجمالية البارعة، التي تأخذ القارئ إلى عالم آخر لكن فائدته تتعدى ذلك، فالأدب له فائدة تأثيرية إبداعية إنسانية، فلا تقتصر مهمة الأديب أو الكاتب على تلقين القارئ النص لمجرد أن يعرضه عليه، وإنما يحاول أن يصل بمشاعره وأحاسيسه إلى المتلقي بل والتعمق داخل وجدانه، فالأدب يخاطب العقل والوجدان معًا وله طبيعة اجتماعية إنسانية تنويرية.
و بطريقة مبتكرة بين عدم التكلف والعزف على أوتار الوجدان، يطلُ علينا الكاتب عبد الرحمن محمد في مجموعة قصصية واقعيّة أشبه بسلسلة من الذكريات التي تطفو على بحر الحياة، محوّلًا الأحداث والتغييرات التي عاصرها خلال حقبة مرّت به لإخراج نصوص قصصيّة مستوفية لشروط القصّ
” ومن أطرافه مجموعة من النازحين/ المهاجرين ، وقد ضاق بهم الوطن ليس لضيق به وهو الوسيع، وإنما للوضع الذي التبس به وساده، حيث كان خيار الهجرة والاغتراب هو غرق آخر في وحل الظروف قد يبدو أكثر بشاعة من قارب الموت”.
في السردية سلسة من الأحداث تدور في مكان عرف في مخيالنا الشعبي بكونه موطن المتناقضات، سكن للمتضادات : “الاطمئنان والرهبة، النقاء والسواد، السكينة والاضطراب ، الهدوء والغضب ، الموت والحياة، على وجه بحر موجه كالطود في مركب بدأ يتآكل ، تصارع الآمال الخوف أو الخوف الآمال ، الرجاء الانكسار الذي ترسب في قلوب هاربة من وضعية قَصية، من حرب عنوانها الزائف تحرير المواطنين من الاستعباد وعنوانها الحقيقي خلق فوضى جديدة لشرق جديد تحيكه أبالسة هذا الزمان / الامبراطوريات الاستعمارية لتكريس معادلة الخضوع والطاعة والسيادة والزعامة والتفوق، تحت عنوان مصيدة تشكل أحداث مجموعة فارّة أو مهاجرة ، يطيح بها الانكسار وتسكنها هواتف الآمال الزائفة والموج يخبئ استغفاله لهم و يتوعدهم خفية فهل ستتكسر الآمال أم ستنتصر..؟”
تتقدم الاحداث تباعًا يقودها فن الحوار ، حوار كشف فيها كاتبنا عن مجاميع النفوس والخوف والترقب الهلوع الذي سكن الضلوع.. هناك نوازع ذاتية لدى الأديب يحاول أن يبددها أو يخفف من وطأتها حال مزاولته مثل هاتيك الظواهر ، يتبعها على الفور بقصة مختلفة لكنها ضمن منظومة الغرق المعنوي( مولودة مرتين)، حيث ساند الحظ (نازي) هذه الفتاة المدللة بأن غيّبها عن نظر المرتزقة أشباه البشر في لحظاتهم الأكثر حيوانية حين تمثلت بالهجوم على حييها ليقتلوا الجار ويقيدوا فتاتيه ثم يمارسون أبشع أنواع الاغتصاب والإذلال، فيما ظلت مختبئة خلف كومة أوجاعها بين وهم الموت وأكذوبة الحياة، وبعد مضي أيام وهي على حالها مختبئة زال خطرهم لتطلق ساقيها إلى الحياة وتنهار أمام أقرب مشفى لتولد مرة ثانية.
“البيضة بخير” كانت القصة ١٣
كل مافي الأمر أن الأم كانت تمنح أبناءها الوصايا ليكونوا بخير ويستطيعوا الإفلات من قبضة المصاعب في الحياة بانتظامهم وترتيب مشاعرهم الفوضوية، لكن الحياة ليست حمل وديع لترضخ لهم دائمًا فجاء معلمٌ من قريةٍ أخرى قاسيًا لايعرف الرحمة، يطلب بيضة من كل طالب برغم صعوبة توفرها وإلا…
ومن الملاحظ أن في هذه القصة ثمة عوالم مضمرة ومخبوءة لدى الأديب ليس من السهولة إزالتها أو محوها، وإن حاول جاهداً مخاتلتها بصورة أو بأخرى ليظهر لنا نمطاً مغايراً على عكس ما يخفيه, لتتراءى ملامحها بصورة جلية، أما في ما يخص الإيهام وإلصاق صفات ونعوتات غايتها استنطاق مرحلة من المراحل الفكرية، كانت المسألة الأخرى أن هناك بعضًا من المتبنيات والمفاهيم التي وظفها الأديب داخل النص لتضفي مسحة فنية لها درايتها وعمق أثرها في النفس ، فأتت كغاية لها معاييرها واشتغالها واشتعالها داخل المبنى السياقي للنص, لأخوة في عائلة بسيطة، كان العدس وثريد الخبز البائت أفضل ما يمكن تقدمته لهم كوجبة صباحية، مهمومين، فصور الحياة التي اعتكفوا عليها غيبت الفرح والطمأنينة وكانت وصايا الأم اليومية هي بمثابة مفاتيح الأمل إذ إن مثل هذه المتبنيات لها حالة من التوهج الذاتي التي يجد فيها الأديب بقاياه التائهة ليلملم ما استطاع حيازته من خلال هذه التعليمات وابتزاز المعلم لهم بطريقة بشعة ليحضر كل تلميذ بيضة ، وإن حاول الأديب تمويه ذلك قدر المستطاع تبعاً لاختلاف الرؤى أو ضديتها فإنه ليس بالأمر الهيّن كونه خاضعًا لمتناقضين في آنٍ معًا إيماناً مطلقاً وليس من السهولة أن ينفك عنها او يتنحى دونها.
أخيراً أود أن أبين كم الشتات والانقسامات التي يعاني منها حين تختلف التربية بين أم راضخة لظروف الحياة الصعبة ومعلم بقسوته وابتزازه يبني له عقلًا.
“الصفعة”
جاءت هذه القصة لتكمل منظومة الغرق الذي سيطرت ثيمة الكرامة             و الهجرة واللجوء، على الحاضنة الفكرية في المجموعة خاصة بأن لها توابعها وكشوفاتها وانفعالاتها الظاهرة والمعلنة فتبرهن السّر الذي من ورائها انخرط الأديب بها وتماهى معها وأخلص لها، رفض الاغتراب بجميع أشكاله، والتخاذل من خلال وطنيته الشديدة وانتمائه لأرضه وجذوره، وبالتالي فإن سمة التأثر والانتماء تحتاج إلى وعي ودراية ومعرفة بعوالم هذا النهج، أي أنها لا تأتي اعتباطية مجانية أو مستهلكة كصيت إعلامي أو تأثراً بموجة معينة.
“الفاتحة”
كانت هذه القصة مختلفة النمط ، ولديها ثيمة خاصة في منظومة الغرق ، حيث كانت قراءة فاتحة الفتاة التي أبعدت عن محبوبها لظروف ما، هي اللحظات نفسها التي شاركت موته و قراءة الفاتحة عن روحه.
تشابهت ملامح القصة مع رواية “ديفداس” العالمية التي مثلت بفيلم هندي كان من أنجح الأفلام التي مثلها شاروخان لبطل يموت في حديقة حبيبته يوم زفافها.
ختم الكاتب مجموعته بقصة مختلفة وهي قصة “حب لهريسان” البدوي راعي الغنم، والتي لم تكتمل بسبب عادات قديمة تمنح ابن العم الوصاية والأحقية في امتلاك ابنة عمه حتى لايتم الاغتراب عن دم القبيلة، فقتل (هريسان) غريمه ، وباع والده غنمه ليدفع ديته، وإن كان اليأس هذه القصة يتخللها لكن الأمل والعودة كان السياق الأقرب لها.
في النهاية تعلق الكاتب وحبه للذكريات التي لا يمكن وصف جمالها في مدينته جعلاني أتذكر مقولة للكاتب الفرنسي غاستون باشلار : “هنالك أطفال يتخلون عن اللعب لينصرفوا إلى زاوية في حجرة السطح يمارسون ضجرهم فيها. لكم أشتاق إلى عليّة ضجري عندما تجعلني تعقيدات الحياة أفقد بذرة الحرية ذاتها”
المجموعة ملهمة للتفكير بالهروب من معتقل الحياة الصعبة وعدم الرضوخ لليأس لأنها كانت الأمل والحياة والحريّة بالنسبة له.
و يكفي هذه المجموعة أنها تدخلنا الى “الدستوبيا” أي عالم الهاوية، و”الدستوبيا” هو مصطلح متخيل أوغير مرغوب فيه بطريقة ما، وقد تعني “الديستوبيا” مجتمعًا غير فاضل تسوده الفوضى، فهو عالم وهمي ليس للخير فيه مكان، يحكمه الشر المطلق، ومن أبرز ملامحه الخراب، والقتل والقمع والفقر والمرض.. باختصار هو عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته يتحوّل فيه المجتمع إلى مجموعة من المسوخ يناحر بعضها بعضاً.
لكن الكاتب أراد أن يدخلنا في مجموعته إلى عالم اليوتوبيا وهي النقيض للدستوبيا والوجه الأجمل للمدينةأي المكان الفاضل ليس من باب العدالة الاجتماعية التي تمتلكها المدينة من الزاوية الأخرى التي تداعب مشاعرنا في التعلق بأماكنها وزواياها ودفء الشمس الذي يطوف بين أزقتها وعلى أدراجها.. تلك المدينة التي لا يمكنني أن أهرب منها إلى أي مكان أو بقعة أخرى في هذا الكوكب إلا كغائب وأعود إليها.
تلك المدينة التي نركض فيها فرحاً عندما نريد الانسلاخ من واقعنا المؤلم، ونهرب إليها وعند حدائقها في لحظات الفرح والحزن في لحظات العشق والبعد.. تلك المدينة التي تصبح في كل يوم جزءًا لا يتجزأ من حياتنا في الاطمئنان عليها صباحًا والسهر على عيونها لتنام وهي دافئة الوجدان.
الحقيبة الاجتماعية
لا أحد ينكر أن حواس الإنسان ممهورة بنوع المكان الذي يوجد داخله، فهو الذي يؤثر في تفكيره ومشاعره وأفعاله ويتم تحفيزها بشكل إيجابي أوسلبي.
وما سلوكيات التدمير والتخريب والتشاؤم والأفكار الهدامة والمدمرة والتصرفات العدوانية ما هي إلا من مظاهر الاضطراب البيئي؛ حيث ينأى الفرد عن بيئتهِ بكل مواردها للهروب تحت تأثير قوى أخرى خارجة عن إرادته، ما يعرضه إلى مشاكل اقتصادية واجتماعية ونفسية تقوده نحو السوداوية.
عندما نختزن فينا عاطفة رقيقة، خلال الكثير من سنوات عمرنا ، فإن فكرة قبولنا ببديل عنها تبدو ترخيصًا لحياتنا، ومع متابعة العين للسرد الرشيق غير المبتذل بالفصحى المتمكنة، نرى مفردة الحنين الغائبة لغويًا والحاضرة في كل مفاصل القصص، الحنين وما يفعله بثنايا الروح، فها هو البطل حزين وما دام يشتاق لنعيم الوطن يظن القارئ أنه من السهل اختراقه، فيصول ويجول لمقاومة مشاعره بعقل الذي ملّ فكرة الغرق الذي وسّع الفجوة بينه وبين الحرية والوطن ليلغي الحوار ، حتى انتصرت إرادته ” أن الابداع يولد من رحم الحزن”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى