مقالات

قراءة في ديوان “همس الحروف” للشاعرة المغربية منى بنحدو عبد العزيز الطوالي*  – المغرب

عبدالعزيز الطوالي
منى بنحدو

                  نبش عاشقٌ في همس شعري متفلت المعنى

 

ما أعذب الشعر لما تصدح به حناجر القطا العاشقة، أو تهمس به!”همس الحروف” ديوان شعري ثر  للشاعرة المتفردة المتمردة بحروف شعرية تنبض بمعنى الحب والحياة كما يحلم بها الجميع، إنها الشاعرة المغربية العصامية الفذة منى بنحدو. “همس الحروف” أضمومة شعرية زهرية تصدح بمقتضاها الذات الشعرية المبدعة عشقًا حد الوله حينا، وتثور ضد مرارة الواقع ومآسيه حينًا آخر. تلك الذات الهامسة المنفلتة من كهف الماضي القريب الحالك بدجاه، الملقي بظلاله السوداء على الحاضر بكل ثقله وصداه، والمستشرفة مستقبلًا مشرقًا بهيجًا يلوح لها في الأفق حاملًا ضياء القمر عندما يكون بدرًا مكتملًا، مستقبل محمل بالأمنيات الجميلة المغرية التي بلورتها الذات منذ كانت طفلة يانعة تجول في الحقول ولا تعرف إلا الابتهاج والنور، مفعمة بالحيوية والحياة شعارها الطموح والتحدي، لا تعرف ولا تعترف بالمستحيل.

بعد إصدار الشاعرة منى بنحدو باكورتها الشعرية الأولى السنة الماضية(2021) – بعد اختفاء عن الساحة الشعرية لا يهمنا سببه وظروفه- والتي وسمتها بعنوان”هديل يمامة القصر الكبير”، حيث يبوح هذا العنوان بعشق جامح للحرية يملأ قلبها، ويطبع تجربتها الشعرية، لذا شكل ديوانها الأول ودونما شك صرخة ونداء في الآن نفسه لفتت من خلاله الشاعرة أنظار المتلقي المفترض النبيه إلى كونها لم تنقطع عن الكتابة الشعرية يومًا، بل هي مستمرة في السجع والهديل باعتبارها واحدة من يمامات القصر الكبير اللائي بصمن الساحة الشعرية المغربية بإبداعهن الشعري الخلاق، وطبعن قصيدة النثر العربية بطابع خاص يعكس فرادتهن الشعرية، ويثبت وجودهن الإبداعي عمومًا.

وفي هذا الديوان الثاني “همس الحروف” تواصل الشاعرة هديلها الشعري بلا انقطاع في شكل همس شعري وبوح شاعري أخاذ لا تخطئه بصيرة القارئ العاشق للقصيد المطروز بلسان أنثى لا تقبل العبث والإهمال، وتعشق الحرية والمطلق حد الجنون. إنه “همس الحروف” التي شكلت بها الشاعرة كلماتها الوهاجة وعباراتها الشعرية المحكمة مبنى، الكثيفة معنى.  إنه لهمس حلو تنفعل به الذات تارة بهدوء، وبعصف مأكول قوي تارة أخرى لتعبر بكل صدق عن مكنوناتها الداخلية، وتكشف عن رؤاها بمفهوم لوسيان غولدمان للعالم والحياة، مرسلة رسائلها المشفرة بسنن لغة الشعر، ومواقفها المتأرجحة بين الرفض والثورة ضد كل ما يتصل بمنظومة الفكر التقليدي الذكوري المتكلس المتغطرس الممتد في أوصال مجتمع يكرس ظلم المرأة، والنظرة الدونية لها، ويعدم صوتها، وبذلك يلغي كينونتها ككل، وبين التحرر من قيود هذا الفكر بإعلاء صوت المرأة ومناصرة قضاياها، وإثبات وجودها باعتبارها كائنًا بشريًا عاقلًا حرًا يجب أن يتمتع باستقلاليته وحقوقه كاملة في علاقة تكاملية مع الرجل، لا علاقة صراع وهيمنة وتبعية.

يحوي هذا الديوان اثنتين وثلاثين قصيدة، يهيمن على عتباتها التركيب الاسمي الإضافي، والجمل الفعلية، كما وظفت الشاعرة شكل الكلمة الواحدة النكرة في بعض العتبات، والمركب الوصفي المتكون من موصوف وصفة نكرتين.

يهيمن التركيب الإضافي على ثلث عتبات قصائد الديوان، وهذه الإضافة الحاضرة بقوة في العتبات مردها إلى كون الإضافة علاقة تجمع بين اسمين مترابطين، كل واحد منهما في حاجة للآخر، وبدون أحدهما لن تتحقق هذه العلاقة/ العناق الدلالي، وفي هذا السياق نرى أن هذا التلازم بين المضاف والمضاف إليه المهيمن على عتبات الديوان نجد له صدى داخل المتن الشعري، حيث يمكنا القول أن الشاعرة قد نجحت كثيرًا بفضل خيالها الواسع في صنع بطل معشوق يتصف بالسمات التي كانت وظلت تحلم بها، بطل نادر لم يجد به الواقع الموجع، ثم عملت على أسطرته لتجعل منه مخاطبًا قريبًا تهمس له بمشاعرها وأحلامها وما يخالجها من شكوى وأوجاع وأشواق حينا، وتثور في وجهه، تتحداه وتتجاهله، تنتظره، وتغار عليه أحيانا أخرى.

وتعد الوحدة خيار حياة لا محيد عنه، إذا لم تجد الذات ذلك الأنيس الذي يذيب جليد الوحدة، ويزرع بذور الألفة بدل بذور الهجر، فينعشها بحضوره بدل امتعاضها من وجوده. ولعل هذا ما همست به شاعرتنا العصامية التي لا ترضى بغير أنيس بهي- كما تتصور- يزين بهاؤه المكان، وينير وجوده أركان الوجدان، وينسي تجليه آهات الزمان، فتنتعش الذات ويغمرها الأمان. ولذا فلما لم يظهر في الأفق، جعلت منه ذلك البطل الأسطوري كما أسلفنا قبل الذي ترسم صورته، وتدرك تفاصيله، منتظرة إياه في حالة شعورية تطبعها القساوة والمكابدة، وتفصح عن ضياع وفقدان للبوصلة الهادية الموجهة نحو المراد، ولعل هذا ما جعلها تعيش في مسار لولبي دائري ينم عن دوامة من الفراغ القاتل الذي تتخبط داخله الذات، وتقاوم في صمود وانتظار طويل. تقول الشاعرة في مقطع من قصيدة بعنوان” نداءات الانتظار”:

وأنا أمشي وحيدة كعادتي/ في مساري اللولبي/ يلوح لي انعكاساتك/ انحناءاتك

وملاذك البوهيمي/ همستك/ ضحكتك البريئة

وتناجي الشاعرة المطلق في شكل دعوات/ نداءات كي تلفت انتباه ذلك البطل الأسطوري/ الأنيس المفترض إلى كونها تنتظره دون تعب سلاحها صبر كصبر النبي أيوب، فهو يمثل عندها السكينة والأمل والمنى والحلول والساعد الذي يشد عضدها لمواجهة قساوة الحياة ومآسيها الجمة، كي يعملا سويًا على تضميد الجراح، ودفع الألم بالعشق والتآلف الصلب، ويعملا معا على إيقاف حركة النبض الحزين، تقول الشاعرة في النص ذاته:

أخذك لي بعيدًا/ عن مرمى/ النظر/ الشجر / الحجر/ نستكين هنيـهة/ ونسابق الأمل/ (…) نخطف الأمنيات من وراء الممكن/ ونكسر المستحيل/ ونداءات الانتظار/ من نوافذ هواك/ نسابق ظلنا/ نعانق ما تبقى من ذكرى/ نتشبث بكل ما هو ممكن/ وكأن كل شيء يتلاشى معك وبين يديك/ ألم السنين والنبض الحزين

هذا البوح ذاته تهمس به الشاعرة في مقطع آخر من قصيدة “لحاف القمر” إذ تغرد هامسة:

أن الآتي هو تحقيق الأمنيات/ (…) هو شعاع ناري/ (…) يذيب جليد المعاني ويداوي جراح/ نجمة تائهة وسط العصيان/ مللت من وثنية طقوس الحب/ مللت من ترتيل العذر/ إن شئت تحداني/ وسترى مصير فقداني/ (…) أنت تحاكي سرب الخذلان

فالشاعرة تدير ظهرها للماضي القريب وما يحمل من تجارب مؤلمة، وعينها على المستقبل فقط لتحقيق الأمنيات المؤجلة زمنًا طويلًا، وتتحدث عن البطل الأسطوري بضمير الغائب لأنه لا زال متواريًا في الأفق، إلا أن إشراقته الدالة على وجوده لا تخفى على قلبها التواق لرؤيته ودعمه، فحضوره دواء للجراح العميقة الناجمة عن التيه وفقدان البوصلة، والملل من طقوس حب روتينية ميتة مضت وانقضت، لذا قد انتفضت متحدية تعلن انتصارها بكل ثقة على كل ما يرمز في ماضيها إلى الخذلان والخداع، وهذا ما تؤكده ثائرة في همسة أخرى عند كل ذكرى أليمة معلنة مرة أخرى في قصيدة” فتنة النظر” أن النصر ضد من يمثل/يمثلون قيم الشر والكيد والهيمنة والتغول حليفا لها لا له/ لهم، إذ تقول بلغة كبرياء الأنثى التي لا تُكسر، وعنفوان المرأة الأبية التي لا تُأسر:

أحيانا وليس كل الأوقات/ أقطف من حنيني/ بعض آهات/ (…) نعلب لعبة القدر ونرى من الخاسر الأكبر/ عن نفسي لن أخسر/ لأن إمكانياتي تفوق توقعات كل مغامر/ وأنا كل الكون في دمي يسري/ فهل أنت ند للقدر؟/ كل الأوقات وجلها أنا من تنتصر

وعموما، نستطيع القول جازمين إن الشاعرة منى بنحدو واحدة من الشواعر الشابات اللائي لمعت أسماؤهن في سماء الشعر العربي عامة، والشعر المغربي المعاصر بصفة خاصة، فهي شاعرة اختارت الكتابة في اتجاه يزاوج بين البساطة والغموض، وإن كانت في مواضع كثيرة من الديوان تجنح نحو الغموض أكثر، لكنه غموض غير  موغل في الإبهام، حيث سرعان ما تصبغه بكلمات وعبارات شعرية بسيطة تحاول من خلالها إنارة الطريق للمتلقي وهو يحاول اقتحام عالمها الشعري محاولًا القبض على المعنى الذي وجدنا أنه معنى متفلت عصي لا يقبض على تلابيبه إلا القارئ الفطن المتمكن المتسلح بالأدوات العلمية اللازمة لقراءة الشعر باعتباره خطابا يعتمد الكثافة الدلالية ركيزة أساسية في بنائه وتكوينه، كما نسجل أيضًا في هذا المقام، أننا رصدنا في الديوان عددا من الخصائص الأسلوبية والمعجمية والدلالية نجملها في:

  1. هيمنة الجمل الفعلية وخاصة في زمن المضارع يعكس نزوع الشاعرة نحو الحركة والتطلع إلى التغيير على المستوى الذات والواقع، كما يعكس استشرافها مستقبلًا أكثر استقرارًا وطمأنينة وجذلًا وتحقيقًا للذات واقعيًا وإبداعيًا؛

  2. هيمنة المعجم الذي يمتح من الطبيعة وعناصرها، مما يجعل الشاعرة الواقعية ذات نزوع رومانسي اضطراري محوره الحب المأمول، والاغتراب والوحدة؛

  3. هيمنة المعجم الوجداني كالعشق والحب والشوق وما يدخل في هذا المعنى؛

  4. حضور ضمير المتكلم- بقوة- الجمع(نحن) والمفرد (أنا) في المتن الشعري، وكذلك ضمير المخاطب المفرد المذكر (أنتَ) الظاهر والمستتر، مما يدل على الحاجة للأنيس بمواصفات خاصة صنعتها الذات، كما يدل أيضًا على وجود جدال وتفاعل مع هذا الطرف الآخر الذي سعى أو يسعى لإلغاء الذات المبدعة التي تمثل الحرية أكسجينها الذي يبقيها على قيد الحياة، وهذا جعلها تنتفض لأن القضية قضية وجود واستقلالية لا تقبل المساومة، بل تستلزم الصمود والمقاومة.

  5. حضور التناص الديني والأسطوري بقوة في بعض النصوص يعكس الثقافة الواسعة للشاعرة وشغفها الدائم بالقراءة وعيا منها بما تكتسيه من أهمية في الإبداع الأدبي.

إن هذه الخصائص التي يتميز بها هذا المتن الشعري-الذي تشرفنا بالتقديم له- تشكل شعرية النص الشعري الــمُــنَــويِّ، ويستمد منها جماليته وعمقه الدلالي، وبما أن المقام هنا لا يتسع للتفصيل فيها، سنقتصر على الوقوف بإيجاز عند الخاصية الأخيرة، وذلك لما يحققه التناص من غنى للنص الشعري يتمثل في خفة الإشارة، وكثافة العبارة، وبهذا فهو يغني المبدع عن قول أشياء كثيرة، ويرغم المتلقي على النبش في مراجع الإشارات، والبحث عن دِلالات الرموز .

توظف الشاعرة التناص بمختلف أنواعه وبنسب متفاوتة، فكما ترى جوليا كريستيفا التي تعد أول من نظر لقضية التناص أن النص الإبداعي الجديد لا يولد من فراغ بل هو فسيفساء من النصوص السابقة عنه، فإن الشاعرة تستحضر ما تكتنزه ذاكرتها من نصوص قرأتها أو احتكت بها من قبل، إذ وظفت التناص الديني مستلهمة بعض الآيات القرآنية التي تتناسب والسياق الشعري، وذلك بشكل جزئي عن طريق استعارة المعجم القرآني. تقول الشاعرة، على سبيل المثال، متناصة معجميا وتركيبيا مع القرآن الكريم في سياق تعبيرها عن موقف عاطفي سلبي تمثل في زيف الحب في الواقع المعاش الذي خبرته الشاعرة واكتوت بناره، حيث تقول في مقطع شعري حواري جميل  من قصيدة “رياح الشوق”:

قال: تعالي (…) أحدثك عن سيرة العشاق/ (…) قلت: ما الحب إلا كذبة بيضاء/ تتوسل دموع القمر/ (…) تسترق السمع من إخوة يوسف/ لتخبرني أن الغدر آت ../ توجست خيفه ../ لا تخافي .. لا تخافي/ استكيني .. ولو بعد حين/ فالقرار مكين

ضمنت الشاعرة في هذا المقطع تناصًا إشاريًا، حيث أشارت إلى قصة النبي يوسف التي وردت مجتمعة في سورة يوسف( تسترق السمع من إخوة يوسف) لتؤكد على استفحال الخداع، وزيف الحب الذي يدعي مخاطبها أنه يكنه لها، مثلما كذب إخوة يوسف وزيفوا الحقيقة ليخدعوا أباهم.

وهناك تناص قرآني جزئي آخر في هذا المقطع استحضرت فيه الشاعرة في قولها(توجست خيفه) المعجم والنسق القرآني ذاته الذي ورد بسورة طه، الآية 66، يقول تعالى: }فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى{، وفي سورة الذاريات، الآية 28، قوله تعالى: }فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ{، وفي سورة هود الآية 69، قوله تعالى: }فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ{. كما استدعت الشاعرة أيضا في قولها(فالقرار مكين) قول الله تعالى بالآية 13 من سورة المؤمنون: }ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ{، وقوله تعالى بالآية 21 من سورة المرسلات }فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ{، فاستحضارها لهذا النسق والمعجم القرآني مرده لخوفها من الغدر، ولأملها في النجاة منه، ولرغبتها في الاستقرار  والحماية ولو بعد حين.

كما لجأت الشاعرة إلى توظيف التناص الأسطوري مستحضرة الرموز الأسطورية باعتبارها أقنعة تمرر من خلالها مواقفها ورسائلها، وتعبر بلسانها عن أوجاعها وآمالها، حيث جعلت الآلهة “إيزيس” كرمز للحماية والمساعدة والتوجيه( آلهة في الديانة المصرية القديمة/أسطورة أوزيريس)عنوانًا لأحد نصوصها، وفي النص ذاته تستدعي  الآلهة “إنليل/ إليل” من الأسطورة السومرية (إله الرياح والعواصف والأرض والهواء) موجهة من خلاله نداء لمخاطبها تلتمس منه أن يترك الناي يتضرع لإنليل كي يرسل لهما فرحة العمر. تقول الشاعرة:

لست وحدك مثقلًا بالهم/ وبالألم/ فكلنا ذاك آدم وحواء/ فدع الناي يسكب نغماته/ يتضرع لإليل/ ليبعث الريح والرعد/ ويحمل كل التجاعيد بعيدًا بعيد/ وتأتي فرحة العمر في حلة العيد/ (…) يتدفق الدم/ (…)فاستكن يا ابن آدم

في الأخير أؤكد لك أيها القارئ أن الشاعرة المغربية القصرية الفذة منى بنحدو في أضمومتها الشعرية الهامسة هاته، قد جمعت بين متعة القراءة ولذتها، وعمق الإفادة اللتين تجدهما مدسوستين بين ثنايا كلماتها المشحونة بالعاطفة والهمس والصخب.

*أستاذ جامعي وباحث

                                                                

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى