مقالات

 “قصيدة المعنى”  ريما آل كلزلي      –      السعودية

في مقالٍ سابق حول “قصيدة النّثر”، بغض النظر عن الخلاف على مسمّى قصيدة النثر، تكلّمنا على إرساء ملامحها كنوع فني تبلور بقطعة شعريّة تُعنى بوصف حالة شعورية من خلال صور جمالية يُشترط فيها التكثيف، والانزياحات ضمن إيقاع داخلي دون أن تلتزم بنظم العروض، وبينّا ملامح بداياتها، كما طالبنا بتأطيرها لحفظ تاريخ نشأتها، أما الآن فنحن نواكب الأفكار التي تدعو إلى تطويرها، من خلال دعوة مطروحة، من “قصيدة النثر” إلى مُسمّى “قصيدة المعنى”.

وبما أنّ الأدب ليس نهائيًا، نأخذ بعين الاعتبار أن الشّعر العربي مرّ بمراحل تطوّر كثيرة، طالت جانب الشّكل ابتداءً من القصيدة الكلاسيكية العموديّة وأشكال أخرى مثل الموشّح، وصولًا إلى قصيدة التفعيلة والأسباب الدّاعية لحضورها على مسرح الشعر العربي، حسب نازك الملائكة، ذكرت في كتابها قضايا الشّعر المعاصر أنّ هذا أحد أهم أسباب التغيير، حيث كانت الشاعرة تودّ وصف حالة الكوليرا التي تفشّت في مصر آنذاك، فوجدت أن قصيدة التفعيلة أكثر مناسَبة من القصيدة الكلاسيكية، والتي جاء فيها:

سكَنَ اللّيل/اصغِ إلى وقع صدى الأنّاتِ/في عمقِ الظلمة تحتَ الصّمتِ على الأمواتِ/صرخاتٌ تعلو تضطرب/حزنٌ يتدفّق يلتهب/يتعثّر فيه صدى الآهات/ في كلّ فؤادٍ غليان/في الكوخِ الساكنِ أحزانُ/ في كلّ مكانٍ روحٌ تصرخُ/ في كل مكان يبكي صوت/ هذا ما قد مزّقهُ الموت/ الموت الموت الموت.

حيث وظّفت الشاعرة نازك مرض الكوليرا في قصيدتها موضوعيّا بعيدًا عن القوالب الجاهزة، ثم تابعت قصيدة التفعيلة تطوّرها حتى توقفّت عند مسمّى “قصيدة النّثر”، التي انفجرت كثورة حداثية لتبقى كل أشكال الشعر إلى يومنا هذا تعمل على ركائزه الثّلاث الأساسية (اللّغة الشعرية، والجانب الصوري، والجانب الإيقاعي).

وبما أن اللّغة الشعرية كركيزة ليست موضوع مقالنا، فإننا سنبحث في الركيزة الثانية وهي التصوير، حيث طرح الدكتور ضياء الثامري أستاذ النقد الأدبي ونظرية الأدب في جامعة البصرة، عندما ألقى محاضرته عبر مركز “مذار” الثقافي، التي عبّر فيها عن فكرته كملاحظات أوّليّة، من خلال سؤال، فيما لو استُنفدت أشكال التغيير وجيء بشكلٍ جديد لقصيدة النثر، ماذا سيكون مضمون التغيير فيها؟

بمعنى آخر، أن الشّعر الحديث ملتزم بقضايا العصر، وينتمي إلى الحداثة، وما بعد الحداثة، فهل سيكون المعنى هو العنصر الرئيس الذي يحمل صفات التغيير حسب ما أراد الدكتور الثامري؟ وإذا ماتغيّر المعنى كيف سيتحوّل؟

إنّ الشكل المبهر الغني بالصور الجمالية ومتغيراته البنائية والمفارقات والانزياحات والترميز والظلال، الذي تُحدثه “قصيدة النثر” هي مبتغى الشّعراء وليس المعنى فقط، وذلك لا يتم إلا من خلال المتلقي وفق نظرية التّلقي، لينتج نصًا له القدرة على أن يتلوّن ويتكيّف وفق التطور الحداثي، وقد يختلف المعنى من حيث الصفات في المجاز والانزياحات، لذلك نفهم المعاني التي قصدها المتنبي مثلًا برغم المسافة الزمنية بيننا، وإن كان المعنى متخفّيًا ومتواريًا سيظل معنى، ولن يتحوّل إلى اللاّمعنى، فالشّعر بكل صوره بداية يحرّكه الشّعور، دون أن يغادره المعنى.

و طرح المحاور الدكتور نجم الشتّالي سؤالًا جوهرياً مفاده: ما المبرر لتطوير المعنى في “قصيدة النثر” ومنحها اسمًا جديدًا لتصبح “قصيدة المعنى”؟

جاء الرد من د الثامري أولًا:

-باعتبار أن المعنى جوهر التغيير في قصيدة التفعيلة، فإن احتمالية انبثاق حداثة جديدة لقصيدة النثر سيكون كذلك من خلال المعنى، وحيث شكل القصيدة ثابت، فإن الأهميّة تكمن في البحث عن المعنى كما قال غولدمان بخصوص السرد: ” الأشكال الجديدة هي عملية بحث عن مضمون جديد، لأن المضامين تستدعي أشكالها”.

فالتغيير في المعنى الذي يقدّم الحداثة وفق أسس منهجيّة، ليكون جوهر كينونة القصيدة الحديثة هو المعنى وإن لم نتفق على التسمية، فالمعنى، “دائما يحتاج إلى إعادات النظر في ضوء الحاضر” حسب أدونيس، ليواكب مضمون النثر في الواقع المعاصر.

-والسبب الآخر هو استغراق شاعر “قصيدة النثر” بالذاتيّة في الأغلب، أي الشاعر يكتب لنفسه، عن نفسه، وإلى نفسه، فأصبح الصوت صوت الشاعر نفسه، وهذا يعود لأسباب عصريّة تواكب الواقع، حيث لم يعد الشعر يؤثر في نبض الشارع كما أيام الجواهري، و غيره من كبار عصره، والحديث مازال للدكتور الثامري، ما دعانا إلى استحداث جنس أدبي جديد تحت اسم ” قصيدة المعنى” ، يعيد الشعر إلى الصدارة، قد يكون أشبه بحداثة أبي نواس في العصر العبّاسي، عندما أزاح الطّلل، وأحلّ الخمر محله، الذي لم يكن غرضًا في ما سبقه، و كذلك أبو تمّام الذي اشتغل على القضايا التعبيرية والمعنى، وكيف قدّم المعنى بشكل جديد؛ لأن الشعر عاملٌ مهمّ في تطوير اللغة دلاليّا، وهذا الأمر من حيث الاتّساع الدلالي معنيّ بإضافة معانٍ جديدة للّفظة ذاتها، فالشعر يقدم معاني ليست موجودة في المفردات الخاصّة بالتأمل والتخيّل، الذي يحدث في ذهن الشاعر من خلال اللّغة الشعريّة.

قد يكون د. ضياء الثامري هو المؤسس لهذا النوع، وقد يضيف فعلّا تصنيفًا جديدًا يأخذ بُعدًا آخر داخل مملكة الشعر، وقد تكون مجرد ملاحظات أوّليّة كما ذكر من خلال سؤاله الأوّل.

سنعلّق بشكلٍ لا يخلو من الجِدّة، بما أن النّص هو خطاب، فإن المرسل إليه وهو المتلقي هو ذاته صانع معنى هذا الخطاب، مهما افترضَت القصيدة ذلك المعنى، فإنه لن يتحقق بدون ناقد أو قارئ، و”قصيدة النّثر” بحدّ ذاتها هي تغيير حداثي، يحاكي روح العصر، فهي الآن لم تعد بحاجة إلى تقديم الحكمة والنّصح من خلال المعنى، هي عارية لوحدها لا تهدف للمعنى فقط. وبما أن حدود اللغة هي حدود الثقافة، و الّلغة كائن حي تعتريه عوامل التغيير، فإن اللغة التي تتحكم بالقصيدة مازالت تسير وفق وتيرة منحدرة غلبت عليها العاميّة، لذلك فإن الموضوع الذي يتحكم بنمطيّة القصيدة، لا بدّ أن يتناسب مع المحتوى، ومحتوى المعنى دائمًا يتبع الحداثة الفكريّة، والاجتماعيّة، والثّقافيّة، بحسب التواصل والميديا والثقافة السائدة الآن، لتنتج قصيدة تواكب اللّغة بواقعيتها ليست بالضرورة قصيدة معنى.

وحيث إن “المعاني مطروحة في الطريق” (الجاحظ) فنجد أن القصيدة الحديثة تطرّقت إلى كثير من المعاني التي لم تكن معنيّة بها أغراض الشعر الأصيلة، وبما أن لا شيء يقدّم بلا معنى، و كذلك الشّعر ليس مطالبًا بقول الحقائق أو نشر المعرفة، وإن انحازت إلى الذّات قصيدة النّثر على حساب الموضوع، لكنه يكتفي بأن يقدّم نفسه بصوره الجمالية وإيقاعاته المتناغمة، كما تفعل الموسيقى، وإن ابتعدت عن هذا القصيدة المعاصرة، لتغوص في الغموض غير المبرر، نؤكد أنه ليس هناك تطوّر للمعاني، إنما الدّلالة هي التي تتطوّر في وعي الشّاعر الذي يُحيل هذا المعنى الواحد إلى أشياء جديدة، وحسب “هوسرل” حينما يمنح الوعي الأولويّة بالمقارنة مع الأفعال القصديّة، يكون الإدراك بالتخلي عن جدليّة أصليّة للمعنى والحضور، ويتم توضيحه بأنه استشراف وحدة المعنى التي تسمح بتدفق مظاهر الشيء بمغادرة أفلاطونية المعنى المعقول، لتمّخض بسجالها مع النزعة النفسيّة والإحالة إلى التعالي، فتعددية المعنى يتكون بتعددية القراءات، واستقبال الموضوع، ليظل الصراع الأفلاطوني الأرسطي قائمًا: مَن يحققّ مَن؟

أخيرًا علينا أن نعترف بأنّ التغيير في القصيدة له قوانينه حسب العصر، وتطوّراته الثّقافية والاقتصاديّة، وإنّ “قصيدة النّثر” تطوّرت؛ أولًا، لأن الشاعر بدأ ينظر إلى وظيفة القصيدة نظرة جديدة حيث لم تعُد في نظره مجرّد أغراض، وثانيًا لأنّ الشاعر اعتمد على حسّه الذّاتي في الأشياء، بل أحالها إلى إحساسه البكر، بينما الشاعر في الأصل متلقٍّ، شفّر الموضوعات، وحوّلها إلى خطاب، يحقق معانيه القارئ، لذا مهما اختلفت الأسماء والمسمّيات يظل الفن مرآة المجتمعات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. كل الاحترام والحب والتقدير لما قدمته استاذة ربما من احاطة فنية غنية لموضوع قصيدة المعنى فالمعنى لم يعد في قلب الشاعر إنما في عقول وقلوب المتلقيين يصيغونه كبفما شاؤوا ويكونون عوالمهم الخاصة بهم ڤي قصيدة الشاعر اي اصبح للقصيدة اكثر من مستوى وبعد جمالي .. كل الشكر على معلوماتك القيمة والثرية مع الحب والتحية . مهند الشريف

    1. كل الشكر والتقدير لحضرتكم، أتفق معكم وتماما هو الحال كما ذكرت..
      امتناني لهذا التعليق الجميل.

  2. احب طرح الاستاذة ريما كلزلي ،والذي يجيء واسما النص الذي تتحدث عنه بالجمال ، لعلها تعرف ان الشاعر ترك شيئا من وجده وأنفاسه وهو يكتب..
    لذلك فانني اجدها في كل مرة تفحص النص بتلك السماعة التي تسمع نبض القلب, واعتقد ايضا انها تعتقد ان كل نص قلب!!
    نحن بحاجة الى مثل قلمها ونبضها كي نمسح غبار الأوجاع الممتدة التي تركتها الكورونا وصويحباتها.
    سميحة التميمي

  3. لإسمك أيتها الفاضلة الأثر الكبير في صنع المعاني القيمة والنبيلة ..
    حيث هذا الوصف حملني مسؤولية أكبر في نقل الكلمة وتفحصها جيدًا..
    ف الشاعرُ الذي ليس في داخله جبل ،لا يمكنُ أن يتفاعل لغوياً مع جبال هذا الكون العظيم وبقية الأكوان الأخرى.
    ((أن كانط نفسه يبيّن في (نقد المحاكمة) أن وحدة التخيّل والإدراك ووحدة الأشخاص موجودة (قبل الغرض) وأنه في تجربة الشئ الجميل.مثلاً ،أني أجرّب التوفيق ما بين المحسوس والمفهوم،التوفيق بين نفسي وغيري)) .
    شكرًا لجمال التعليق ودفء المعاني.

  4. الشاعرُ الذي ليس في داخله جبل ،لا يمكنُ أن يتفاعل لغوياً مع جبال هذا الكون العظيم وبقية الأكوان الأخرى.
    ((أن كانط نفسه يبيّن في (نقد المحاكمة) أن وحدة التخيّل والإدراك ووحدة الأشخاص موجودة (قبل الغرض) وأنه في تجربة الشئ الجميل.مثلاً ،أني أجرّب التوفيق ما بين المحسوس والمفهوم،التوفيق بين نفسي وغيري)) .
    أشكر هذا الحضور الدافئ والتعليق الوارف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى