إبداعات

قصة قصيرة  “بطلة نزقة”    ريما آل كلزلي      –      السعودية

ريما آل كلزلي

 مذاق القهوة الكثيفة عالقٌ بفمي منذ التقيتُكَ في مقهى “كوستا”.. كنتَ مضطربًا ولا تستطيع تمويه انفعالاتكَ.. معظم الوقت كنت تنظر بعمق في اتجاهٍ واحدٍ فقط، بعينين ساهمتين، يرتعش فمكَ أحيانًا.. تحاول استرداد تماسكك وأنتَ تطبق على السيجارة بأصابع تظهر عليها الرّجفة. لم أجد منفذًا لأسألك عمّا حلّ بك لأنكَ بادرت النّادل الذي تسمّر قرب الطاولة المستديرة ينظر إلينا، وهو يمطّ فمه بابتسامةٍ ما على شفتيه المزمومين.. طلبتَ قهوة “إكسبريسو” لكلينا!

الأمر لم يفاجئني، فقد اعتدت صرعاتك، ومحاولات التنمّر التي تحاصرني بها عندما تريد استنطاقي بأسئلتك، فقد مضت أشهر عديدة منذ التقيتكَ في تلك الظّهيرة الشّتوية الباردة، التي أنقذتكَ فيها كملاك حارس من قيود زوجتك وهي تحاصرك، وتضيق عليك الحياة كلّما شعرَت بوجود أنثى جميلة سواها في حياتك.. أطبقتُ بأصابعي على كوب القهوة السّاخن وأنا أنظر إليك.. لم تغادرك روح الشباب، وهو الأمر الذي يشعركَ بالانزعاج أحيانًا، متى يكفون عن النظر إلى البياض الذي بات ينفر من ذقنك؟ أنت لا تحبّ الأصباغ والزيف، مع ذلك ليس لديك مزاج لتزيل الشعر المزعج كلّ صباح، نزِقٌ أنت ولا يمكن لأي أحد أن يقنعكً بما لا تريد.

-ولكنك رجلٌ ناضجٌ

لم يفهم ما أقصد،

# ولكن لا يمكن لأحد الإيقاع بك ، أنت لست فريسة حتّى لأوهامك..

أجاب وهو ينفث دخان كثيف في وجهي

– كيف سأستقرّ وأنتِ هنا، في حين يجب أن تكوني في مكتبتكِ التي تكتظ بكتب الفلسفة، امرأة ارستقراطية ذات مكانة في المجتمع، لديها توجّه ديني تنويري ، وتحاول عابثة ربط الأفكار بالخطاب الذي يحركه السّاسة نحو عجلة التقدم.

# قرأتُ مسودات روايتك، ورأيتكَ متحررًا، كمفكر، نصف ملحد، ونصف شيطان، برغم كونك فنانًا مبدعًا، ينقصك الكثير من الجرأة لتضع النهاية…

وهو يسحب كتاب من جيب حقيبته السّوداء، قال:

-لا يشغلني سواكِ الآن.

حاولتُ ان ألتقط الكيمياء التي تعتري هيكله لأفهم سرّ نظراته تلك، قلتُ:

# ماذا بك؟

-لا شيء.

 # ما رأيكَ بجولة على الكورنيش؟ تبدو مرهقًا، وأنا أعرف تمامًا أنكَ سلختَ جانبًا من شخصيّتك لتلصقه بي، لأصبح أكثر امرأة عبثية في روايتك، أعرف ذلك، ولم يعد الأمر يفاجئني لكن الملل يطبق علي فأنا لستُ أنتَ، رغم إيماني العميق بفلسفة كامو، وكلّما تسلقت القمة في رحلة الصعود المضنية تريد منّي أن أعود إلى نقطة البداية.

ضحك كمراهق حينما ألقيت على الطاولة بحزمة أوراق مخطوطة من روايته

-أنت هالك، اقرأ

ها هو أخيرًا ينوء بإخفاقاته العديدة، فالأكاذيب القديمة لن تنقذه الآن، وهو يرددّ لنفسه، إن السنين المقبلة ستضمد جراحه وسيتعافى، لكنه اكتشف أنه يحاول ترميم شرنقة خديعة النسيان، لتمويه ذكرياته المريرة التي خلّفتها الحروب الطويلة التي عاصرها كجندي، مازال الشبح يجول في خريطة ذاكرته، حتى لم يعد هناك سواه.

ينظر إليّ وهو يتقوّض مثقل بذكرياته، كلعنة تطارده، وهو يتخبط في محنته، فيستسلم للوهم، وتشتعل قيامته وأوجاعه التي لا تنتهي.

دنوت منه برقة، أتحسس أنفاسه المضطربة، وزفيره المتلاحق، حتى نظر في عيني، وتحسس بسبابته شفاهي الطريّتين، أخبرته بحبّ قائلة

-لن أعاتبك، أعرف أنك تكره ذلك الشخص الذي أنت عليه، فأنت لم تنل مراهقة حماسيّة كباقي الشبّان الذين في عمرك، ما أن خطّ شاربك حتى وجدت نفسكَ مسؤولًا عن ذنوب لم تكن أنت فاعلها وانخرطت في متاهات البسالة والدفاع عن عقائد لا تمثلك، قضيت معظم شبابك في الأحراج والخنادق، تحمل همومًا حتى الوطن ذاته لم يطق حملها بعد، لكن كل هذا سينتهي يومًا، وإن كنتَ محاربًا مهزومًا، لم يعد هناك لعنات، سأحرر لك النهاية وأجيب عن كل ما تريد، ولن أعاقبك بالهروب منك مرّة أخرى، فأنا أحبك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى