مقالات

تعليقًا على د. داود سليمان “إعجاز علمي أم دليل هداية” تغريد البشير *     –      الإمارات

في ما يخص الإعجاز العلمي في القرآن الكريم فبل أيام قرأت مقالا في صحيفة “البعد المفتوح” اإلكترونية للدكتور داود سليمان ؛ ينتقد ظاهرة (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) التي كانت متفشية قبل أعوام قليلة من الآن ؛ كان المقال مرتبًا ورصينًا وطرح أسئلة دقيقة ومهمة ؛ راقني جمال طرحه كثيرًا فعلّقت مع أحد أساتذتنا على بعض ما جاء فيه وقلت إنّ المقارنة وحدها لا تكفي لخلق أوصنع مجتمع تقدمي ومتحضر(فلابد من الإبتكار المستمر والاختلاق والتنظير وإن شئت سم ذلك الاستنباط والتوليد)

فعلى أهمية المقارنة وضرورتها إلا أنها وحدها لا تسمن وإن أغنت من جوع،  والإعجاز الحقيقي في القرآن الكريم في رأيي ليس في ما توافق منه  مع  النتاج العلمي المعاصر (فالنتائج العلمية تتغير والقرآن ثابت) وإنما في إعجاز الخطاب العلمي في حد ذاته فلو نتفكر في توجيه الخطاب القرآني في الآية الكريمة ” يا معشرالجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فأنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان”

نجد الخطاب هنا لم يقل يا أيها الذين آمنو بالله وبالرسل ؛ أو يا أيها المسلمون وإنما يا معشر الجن والإنس فالخطاب موجه لجميع البشر باختلاف ألوانهم وأشكالهم ومعتقداتهم  و الخطاب أيضا موجه لكائنات أخرى غير مرئية  خارج إطار حواسنا  وإدراكنا كم” الحركة على سطح القمر لإنعدام الجاذبية وأثر المياه على سطح المريخ وغيرها من الاكتشافات الحديثة”، ومع ذلك فالتحدي لم يكن  في النفاذ من أقطار السموات والأرض وإنّما كان في أنّه لن تنفذوا إلا؟ بسلطان؛ إذاً فالسر الأعظم يكمن في الاستثناء في الآية الكريمة ؛ والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا وبشدة ما هو السلطان الذي يعطي البشر قدرة النفاذ من أقطار السموات ؟ فالسلطان الذي أستطاع ارمسترونغ النفاذ به  من أقطار الأرض وأصبح بعده أمراً اعتيادياً هوسلطان العلم، إذن للعلم سلطان يمكّن البشر من فعل الخوارق وإيجاد الأشياء من العدم وبطبيعة الحال هنالك  سلطات أخرى لها أدوار أساسية وفعّالة في  تهيئة وتدعيم سلطان العلم وهنا تكمن أزمتنا الحقيقية ؛فنحن أمةٌ ترزح في التخلف العلمي منذ زمن بعيد، ولقد تعاملنا مع مجريات الأحداث والظواهر الكونية وتغيرات الطبيعة إمّا بسطحية وتعالٍ أو بانهزامية وانكسار وشعور بالدونية الأمر الذي قنن لتخلفنا.

أيضاً علو صوت جلد الذات عند بعض المستنيرين بدلاً من النقد المحفّز على الابتكار والإبداع،  يقابل ذلك تأليه المبدعين والعلماء من الأمم والشعوب الأخرى إضافة إلى فصل المجالات التطبيقية والعلوم التجريبية (البحتة) عن العلوم الدينية والإنسانية ؛ كل هذه الأمور زادت من وعكتنا وأدت إلى تجهيلنا فساءت الأحوال أكثر فأكثر وأصبح الشخص الذي يتحدث في إعجاز القران خصماً على ما يتحدث فيه، ومما قرأتُ في هذا المجال في كتاب بعنوان “الإعجاز العلمي في القرآن الكريم” أورد الكاتب دعاءً للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه “اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد” فراح المؤلف يفسّر الدعاء تفسيراً علميا كما يدّعي، فقال: إنّه يريد أن يثبت كيف توافق هذا الحديث مع الدراسات الحديثة، فشرع يصف الماء وصفاً علمياً ومم يتكون والروابط القطبية التي تربط بين ذرات الأكسجين والهيدروجين  ومن ثَمّ يقول فالماء ينظف كل شيء …الخ

ثم شرح الثلج قائلاً: إنّه الماء المتجمد أي الماء في درجة الصفر، وأنّ الثلج يمكنه تنظيف أشياء ملتصقة لا يقدر الماء العادي على تنظيفها، وشبّه الماء المتجمد بحلقة البنزين ولم يزد في ذلك شيئًا وهنا أعتقد أنّه أربك القارئ أكثر مما أفاده؛ فالقارئ العادي الذي لم يدرس الكيمياء العضوية لا يعرف حلقة البنزين ولا الذرات المكوّنة منها ولا أنواع الروابط التي تربط بينها، فعادةً عندما نمثل شيئًا لا نعرفه نقرّبه بشيءٍ نعرفه وليس العكس .

كثيرٌ من أمثال هذا المؤلف يعتقدون أنّهم يدافعون عن القرآن والسنة، وهم يدفعون بها أو بالمقصد الصحيح للآيات في غير محمدة، وعلى أهمية الدراسات البينية بين كافة العلوم فإنه لا غنى عن الاستنباط والفهم ووضع الفرضيات والنظريات بناءً على ما استنبط  مع مراعاة أن يُبتدئ من حيث انتهى الآخرون، ويجب أن لا يُسلَّم للنتائج العلمية تسليماً كاملًا فهنالك دائماً طريقة أخرى و اكتشافٌ كامنٌ ينتظر من يستخرجه.

وأجد نفسي ميالةً إلى الرأي الذي يقول به البعض، وهو أن توضع آيات القران الكريم كدليل وهداية في كل المجالات ؛فمثلا الآيات التي تخبرعن أننا ما نزالُ في خلقٍ جديد “بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍۢ مِّنْ خَلْقٍۢ جَدِيدٍ” يجب أن تكون من الأسس النظرية الثابتة في المختبرات البيولوجية، وقد تجد المؤمن بالقرآن إيماناً راسخاً يتساءل عن الأسباب التي منعت علماء العرب المسلمين في معامل الأحياء الدقيقة من تصنيع مضاد للكوفيد وهم يعلمون أنّه في كل وقت هنالك خلق جديد؟ وهذا التساؤل على بدائيته تساؤل مشروع.

في ما يخص التفاخر بالسبق العلمي هنا لدي رأي قد يتوسط الآراء المطروحة في الساحة النقدية هذه الأيام :

أولاً: يجب أن نحتفظ لأنفسنا بحق الاعتزاز والافتخار بما أنتجته حضارتنا أو بالأصح حضاراتنا حتى نحفّز أنفسنا على إمكانية خلق حضارة متجددة أكثر استيعاباً للإنسان واحتياجاته وللطبيعة وتغيراتها والتكنولوجيا الحديثة، وكما رأينا قبل أيام كيف افتخر حو بايدن الرئيس الأمريكي بالصورة الفضائية التي التقطها التلسكوب جيمس ويب وقال:” نفتخر ونعتز بهذا الإنجاز وسيأتي يوم يقال فيه إنّ أمريكا استطاعت أن تنجز هذا”، ووعد بإنجازات أخرى إذ أنّ ذكر الإنجاز دائما يحفّزعلى إنجاز المزيد، لذا يحق لنا من حين لآخر أن نفتخر ونفرح بتلك الإنجازات مثل قولنا إنّ أول من اخترع الحقنة هو بن سينا ، وأنّ أول من اكتشف خيوط الجراحة هو الرازي وأنّ أول من اكتشف الفلزات وماء الذهب هو جابر بن حيان وأنّ إنجازات البيروني في الفلك ما تزال تفيد البشرية، فعندما نذكر إبداعات بني موسى الثلاثة في الميكانيكا وعبقرية الحسن بن الهيثم واكتشافه انكسار وانعكاس الضوء وكيفية الرؤية علاوة على وضعه أسس صناعة الكاميرا (يجب أن نزهو ونسمو بذلك) وأنه لولا ابن خلدون لما عرفت البشرية طريقاً لفلسفة التاريخ ولما كان علم الاجتماع، وهذا إضافة إلى عظمة الخوارزمي وتأسيسه علم الجبر علاوةً على افتراضه للصفر وابتكاره “اللوغريثمات” التي لولها لما كان الحاسوب، هذا غير سبق ابن رشد في نقله وترجمته للعلوم حتى تفيد منها البشرية من دون تمييز؛ ولعمري إنّ هذا وحده لنبل يُعتزُ به.

 وبالتأكيد فإنّ الوقت لن يسعفنا لذكر منجزات علمائنا، ولكن لابد من أن نشير إلى أنّ أغلب هذه الإنجازات جاء من أجل توفيق أوضاع اجتماعية سواء أكانت وراثية أم غيرها مع التشريع الإسلامي، فعندما آمنوا بأنهم ليسوا بمعجزين في الأرض تأمّلوا وأبدعوا وأكّدوا أنّ العقل يستطيع أن يأتي بما لم نُحِط به خُبرا .

ثانيا : يجب أن نتذكر أنّ العلوم وحضارات الشعوب هي إنجازاتٌ مشتركةٌ ومتوارثة بين الشعوب، فعندما تأسّس “بيت الحكمة” في بغداد وازدهرت حضارة العرب والمسلمين كان للترجمات التي ترجمت عن فلسفة اليونان وعلومهم أثرها الكبير في الاختراعات العلمية والفلسفية في ما بعد وما نزال إلى يومنا هذا نعترف بهذا الفضل ونحتفي به بل ونذهب إلى أبعد من ذلك، فنجد  أنّ المسرح اليوناني حاضر في ثقافتنا وما تزال أقوال أرسطو وأفلاطون وسقراط تشكل حيزاً كبيراً في كتابتنا  فنصيغها دليلًا وننشدها أغنية وحباً وحكمة، وندعم بها آراءنا النقدية في الشعر والقصة وغيرهما في النقد الأدبي والاجتماعي؛ وبعضنا يقدسها ويبجلها.

وربما كان أحد أهم أسباب التباهي بماضي الأجداد هو قساوة حكم بعض العلماء والمؤرخين الأوربيين على العرب والمسلمين، فهذا ماسيو هنري يقول في كتابه “تاريخ فرنسا الشعبي” : “إنّ النشاط الذي يحفز الناس على التقدم ليس مما تجده في عبقرية المسلمين” ويرى أن “أوربا والدنيا كانتا ستخسران مستقبلهما إذا استمرت القيادة بيد العرب والمسلمين”، وهذا لعمري حكم قاسٍ وجائر؛ و لكن ما يميّز أوروبا والغرب أنه بقدر ما فيهم من متعصبين مولعين بحميّة الجاهلية الانتمائية ، فيهم مستنيرون عدول يثبتون الفضل لأهل الفضل، وإذا حكموا يقولون ما على الآخر وما له، ومنهم الكاتب الأمريكي جوناثان ليونز الذي ألف مؤلفاً عن “بيت الحكمة” بعنوان جانبي “كيف أسس العرب لحضارة الغرب” تحدث فيه حديثًا عقلانيًا ومقبولًا إلى حد كبير؛ وأثبت أن العلوم الغربية  الحديثة قامت على أسس العلوم العربية كما سماها، وكذلك الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون الذي ألف المجلد الضخم “حضارة العرب” وأنصف فيه العرب وتصدى لكثير من الظلم التاريخي الذي وقع عليهم، وكتب عن العمارة العربية وعن سماحة الدين الإسلامي و…….الخ

والحديث في هذا يطول ؛ فبالعودة إلى ما بدأنا به من أمر نقدنا وجلدنا لذواتنا نقول أنّ الأمل يظل معقوداً، ورغم ما يحدث لنا فهنالك مشاعل ضوء في بعض أنحاء الوطن العربي، وهنالك دائمًا من يضيء للآخرين طريقهم مثل دولة الإمارات العربية المتحدة التي أطلقت “مسبار الأمل”،  واستطاعت ان تكون في مصاف الدول الكبرى،  فيجب على بقية دول المنطقة أن تحذو حذوها وتستفيد من تجربتها وتقوم بإعادة النظر في المنهج الذي يدرّس لطلاب كليات القرآن والشريعة، على أن يكون من ضمن متطلبات هذه الكليات دراسة الفيزياء والكيمياء والأحياء الدقيقة، وتكون هنالك معامل للعلوم الأساسية والتكنولوجية بقدر يجعل الطالب قادرًا على الابتكار فيها، وعلى أدنى الفروض أن تكون هنالك مواد حضورها إجباري وامتحانها اختياري حتى يكون بالإمكان خلق جسورعلمية  متينة وبذلك نضمن عدم إنفصام المجتمع  مابين ماهو علمي في مجالات العلوم التجريبية وبين العلوم الإنسانية والدينية.

وبذات القدر تكون هنالك مواد إختيارية من اللغة العربية والفلسفة الدينية لكليات المساق العلمي، وذلك يمكِّن من فتح الأبواب على مصاريعها أمام الأبداع، ويكون الدارس قادرًا على الفك والربط بين العلوم ولا يحمّل علمًا او آية من آيات الذكر الحكيم أو إشارة من الحديث النبوي الشريف ما لا يحتمل، وبالتالي يحصل الخلق والارتقاء والإبداع، فنحن البشر أعداء لما جهلنا.. هذه غريزة ولكن يمكننا ترويض هذه الغريزة ببث التعلم والتثقف بين أفراد المجتمع وتشجيع ثقافة التأمل ومحاولة ردم الهوة بين العلماء والأدباء والناس العاديين والتعرف إلى ما تنتجه الحضارة البشرية الحديثة ؛ وأكثر ما نحتاجه قادة راشدون  يقدّرون العلم وأهله، ويحمون العلماء ونظرياتهم ويقدّرون قيمة السلام وحياة وكرامة الإنسان.

*مهندسة وباحثة في التصوف الإسلامي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. روعة استاذة تغريد مقالك قيم جدا ويعطي دفعة قوية للمجتمع إلى الأمام, مقالك رافعة ترفع الهمم وتحفز العقل .الاهتمام بالعقل هذا ما نحتاجه فمعظم ايات القران والاحاديث تحفز على العقل والمنطق والخير ونفع المجتمعات والانسان خاصة وعامة .ان الفارق الذي ميز الله بها الانسان هي التفكير والمحاكمة والتجريب أي اليات العقل .مع الحب والتحية والاحترام .مهند الشريف

  2. أشكر الأخت تغريد البشير على تعليقها الرائع الذي يمكن أن يندرج تحت العنوان العريض: نحو فهم أفضل لتوجيهات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وإرشاداتها. إن الهدف الذي أسعى للوصول إليه يتحقق بمثل تغريدة الأخت تغريد، فليس المطلوب من المهتمين بنشر الوعي القويم برسالة الإسلام، بين أفراد أمة الإسلام والعالم أجمع، هو القعود عن طلب التميز والإبداع في شتى مجالات المعرفة العلمية، وبين أيديهم أعظم كنز للمعرفة، إن هم أحسنوا الاستفادة من توجيهات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وإرشاداتها، وذلك بتخطيط مشروعات البحوث العلمية التطبيقية وتنفيذها بمنهجية علمية موضوعية قويمة، والإنفاق على تنفيذها بأيدي وعقول العلماء المسلمين من الدائرة العربية، والإسلامية. إن القعود دون ذلك، وانتظار ما تقذف به مختبرات ومراكز البحوث العالمية من نتائج مبهرة، ثم النظر في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة لاكتشاف أنها قد أشارت تلميحاً أو تصريحاً إلى تلك النتائج، ليس هو ما يمكن اعتباره إعجازاً علمياً نفتخر به. بل الإعجاز العلمي الذي يستحق أن نفخر به، هو ما تأتي به أعمالنا عندما يتخذ المسلمون قرآنهم وأحاديث نبيهم دليل هداية للإبداع في بحوثهم في كافة مجالات المعرفة الإنسانية. القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة المؤثرة كلها إعجاز لو استطعنا العيش من خلال توجيهاتها وإرشاداتها. وهذا ما أحاول تأكيده من خلال ما أقدمه من مقالات، وأدعو الأخوة إلى المشاركة الفاعلة في هذا السياق.

    1. أوافق الرأي استاذ داوود.. الإعجاز العلمي. عندما يعجز الإنسان.. ولكن الله. مبدع بمعجزاته… واعجازه.
      وجميل من الأستاذه تغريد ان تسلط الضوء على هذا الموضوع ليتسنى للقارئ أن تتضح الرؤية أمامه.. َ

      موضوع جميل يستحق النقاش.

  3. نعيم رضوان ..
    تحية للدكتور داوود على طرحه هذه المواضيع المفيدة التي تجعلنا نتذكرما قام به اسلافنا وأثروا منهاجنا من الغلوم كافة وكان لتعليق الأخت تغريد الإسهامات الكثيرة في تسليط الضوء على ما قدمه علماؤنا في شتى المجالات لخدمة البشرية كافة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى