مقالات

“الهروب الأبيض” لظافر الجبيري تضفي على الهروب لون السكينة قراءة : ريما آل كلزلي      –      السعودية

مجموعة قصصية  امتازت بسلاستها ولغتها السردية

ظافر الجبيري

لدينا الميل دائمًا للتفكير بأن هذا العالم يقف ضدّنا، وهذه منطقة راحة يسهُل علينا الذهاب إليها كلّما جُرحنا لسببٍ ما،ومنحنا الوقت ما لا نريد، نتيجة عادات معينة، أو أعراف باتت لا تناسب روح العصر الذي يضمنا، ما يرسم صورة لواقع مؤلم نحكم عليه مسبقًا بأننا لا نستطيع التعامل معه، أواحتمال مآسيه، وبعدها لن يفيدنا أيّ موقف ضده، بعضنا غالبًا يفكّر بهذه الطريقة، لذلك يفضّل الهروب، وليس لأنهم الأضعف، لكن ربما هو الألم وطريقة التعامل معه، فيكون الهروب بلونٍ أبيضَ، أو أسودَ، أو بلا ألوان، حتّى في تخصيص اللون الأبيض للهروب سيجعل منه فعلًا أقل ضعفًا.

في مجموعة “الهروب الأبيض” للقاص السعودي ظافر الجبيري التي اتّخذت البياض لونًا، لتضفي على الهروب المتخبط بعض الصفاء والسكينة، سنتعرف إلى عشرين قصّة بين القصيرة والمتوسطة عرض الكاتب شخصياته فيها بواقعية، فهو لم يعزلهم في برجٍ عاجيّ، ولم يلبسهم أردية المثاليّة وكأنه يودّ أن يخبرنا؛ أن الإنسان مهما كانت ثقافته فهو عُرضة لتقلّبات الزمان، وللحالات النفسيّة التي تعتريه، فتحكم تصرّفاته، وإن عارضها بعض من التاس ، وإن كانت الإشارة في البداية إلى المعنية “أمل” هي الروح ذاتها التي اختارها الرحيل، هل كان سيخفف ذلك من وقع الألم ؟

دعونا نعرج على الغلاف الأنيق الذي تلوّن بالأبيض واتّشح بدرجات لونية مقاربة له، دليل عدم الاستقرار، كذلك توسط الصورة طائر ليؤكد صفة الهروب بالطيران، فليس من السهولة اعتقال طائر وهو الأشد حاجة لفضاء رحب، وإذا ما غصنا في عمق كلمة الهروب لغويًّا، سنجد أن كلمة (الهروب) جاءت عرضًا في المعجم الكبير الذي ألغي في العام 1956، وذلك في مادة أبق، وقال الأزهري: الأبق: هروب العبد من سيّده، والنص في لسان العرب، والمعجم الوسيط كذلك، فذكر الهرب والهروب والهربان مجتمعات، أما هرب يهرب هروبًا فهي بمعنى فرّ، وهو الظن بكون الفارّ عاجزًا ضعيفًا، سواء كان مذعورًا كما في القصة الأولى أم لا.

                                                          *صاحبي*

في القصة الأولى التي جاءت بعنوان “صاحبي” هو ذلك الطالب المجهول الذي أضافه إلى نفسه بضمير المتكلم، دليل الود والتعاطف من الراوي، يصفه بالمنعزل المتفوق تارة، والخجول صاحب الأنا الخافتة، ويحدثنا عن لحظة خروج الطلبة بدقة ويصبغها بصبغة الواقعية، و ذات مرة، أثناء خروجهم من المدرسة، سأل صاحبه عن سكنه فضلله بالإجابة، ليكتشف في النهاية أن حافلة الرعاية الاجتماعية تنتظره في الشارع الخلفي.

إن صعوبة الموقف في هذه القصّة تمثلت في صعوبة الكلمة، وصعوبة الاعتراف، ولو كانت المشاكل التي تعترينا تُحل بالهروب لهربنا جميعًا، و لهُجر كوكب الأرض.

                                               *نزهة أو فارس أحلام*

القصة الثانية كانت على لسان فتاة مراهقة أو فوق سن المراهقة بقليل لكنها في عمر الزهور النديّة، ومن خلال لغة شعرية رائعة أجاد الكاتب الوصف البليغ وخاصة عوالم الجسد الذي شبهه بالطبيعة في مواطن كثيرة، وتحدث عن جموع المشاعر في هذه الفتاة التي حاولت اقتناص يومًا من عمر الزمان، لتكون فيه وحيدة في المنزل بعد خروج عائلتها للنزهة، وتمارس حريّتها في ممارسة أبسط حقوقها، الرقص وحريّة الحركة، حيث ارتحلت عبر رحلة مشوقة جدًا في عوالم الجسد، للخوض في معتركه، ثم حاولت أن تتعرف إلى الفرس الصاهل في دمها برغم ما قيل لها: إن الفرس لا تصهل، فيتسع الفضاء والزمان لقفزها، لتكتشف أن صدمة الواقع عن فارس الأحلام لا تشبه ذلك الخيال الذي لونته بفكرها، ليبقى فارس الأحلام حروفًا لا تجيء، ربما لاستعجالها، أو لاستحالته.

                                                      *جدي والجبل*

هذه القصة الثالثة التي نالت إعجابي الشخصي، بكل ما فيها من وصوف ساحرة للطبيعة الأخاذة ليبقى الكاتب ابن بيئته مهما ابتعد عنها فهي منقوشة في وجدانه نقوشًا أبدية، بدءًا من جبل عكران والقرية التي تتربع بشموخها على سفوحه، نزولًا إلى سهل تنومة البديع، فأرسل أشعته الذهبية المضيئة إلى أكثر من زاوية تتوضح رؤيتها كما أراد الكاتب من خلال قلبه هذه المرة، ويشوقنا لرؤية كل هذا الجمال، كان يصف كل التفاصيل المحيطة، حتى حظيرة البط كانت ركن قد ألِفه، والصخور الملساء كذلك تحمل صفة خاصة بالمكان، فتكلم عن ثلاث شقيقات حرّكن أشواق والدتهن للذهاب إلى قريتها منعاء مسقط رأسها، واصفة إحداهن مسار الرحلة وبقايا جمال الجدة الشاهد على روعة المكان، حتى ما بعد الوصول والمبيت كان هناك ماهو أجمل من الطبيعة، في نظرها وهو مكان خلوة الجد الرجل السبعيني الذي تشبه بعظمة الجبل الذي جاوره طيلة عمره، الذي تعلم منه القوة والشموخ والصمت، فباتت تشاركه جلسة الصمت مرة في الصباح ومرة عند المساء، جلسة صمت كما يروق للفتاة أن تسميها، وهي مازالت حتى عمر معين تحتفظ بهذه الذكريات الغالية، بصورة عن بساطة الماضي المتمثل بقيمه العالية التي نشأت من خلالها تلك الأجيال، وكيف ينظرون للحداثة بما فيها نحن، تمثل في جملة الجد العميقة جدًا: ” زمن الدكاكين التي تبيع كل شيء” وواقعنا الذي يغمرنا في تطوره، فكانت الفتاة تسأل وتسأل حدها كمن يريد أن يطمئن على المستقبل في الحصول على إجابة ولاّدة بسبب نمو السؤال، إلى أن رماها بسؤاله الحارق كما وصفته وأراد إسكاتها، ” ماودك تسكتين؟”

في القصة إشارات كثيرة لايمكن إغفالها، منها البيئة التي شكلت الجبال والسهول وكأن هذا الفراغ حوله يمتلئ دلالات، نفترض أن هذه المعطيات جميعها تتصل بعناصر الطبيعة الإيجابية الجبل والسهل، فالأشجار للعطاء والأمطار للخصب، وأسباب أخرى منها الظروف التي مازالت تحكم كل شيء، ليس أولها زيارة الأهل في القرى وكأنه مشقّة بسبب الأعمال أو وعورة الطرقات ، كذلك الأب المشغول الذي ترك فرجة كبيرة في حياة بناته ربما لجنسهن وصرامة بعض الآباء كموروث في التعامل مع الفتيات، وربما لانشغاله الصادق، ما دعا الفتاة الفضولية لأن تخبئ الكثير الكثير من الأسئلة في جعبتها لتسألها دفعة واحدة لجدها الذي طلب منها السكوت بعد أن أجاب عن معظمها بمحبة وود وهدوء .

القصة وصفت البيئة بشكل متقن جدًا، لنشهد جانب من الجنوب الخلاب في المملكة مما يثري النص بالجماليات اللغوية والبيئية،ولكن لم يتمثل الهروب هنا في هذه القصة إلا أبيضا عبر هذه الفتاة الذكيّة.

                                                         *غريبة*

في القصة التي تليها (الرابعة) شاهد على عظمة الإنسانية في العائلة التي اتجهت نحو المدينة المجاورة ليس هربًا إنما رغبة بذلك، وكأن الطريق هو قائد الرحلة الذي يوجه السيارة، وشكل الكاتب ثنائيات اللون والصورة بين بياض السيّارة وسواد الليل، والأطفال يرددون أجمل الأناشيد وأصدقها التي تماشت مع زمن قناة “سبيس تون” كرمز لبساطة الحياة السابقة وصفائها، نيابة عن الشتات الذي يحصل الآن في بعض الأُسر، وهناك غريبة معهم كانت بين الأمتعة في آخر السيارة، تعبر عن مشاعرها بدموع لا تحتاج إلى لغة لتفسيرها، كالضحك والموسيقا والألوان. قصة مؤثرة رغم بساطة كلماتها، وإن كانت بحاجة لدلالة أقوى أو خاتمة أكثر جذبًا.

أنتقل بكم إلى القصة الأكثر أهمية ربما، ذلك لأن الكاتب أولاها تلك الأهمية بمنحها عنوان المجموعة.

                                                  *الهروب البيض*

بدأ قصته (الخامسة) بمجموعة أفعال جعلت القصة تتركز على قوّة أدبية تميّز القصة،(لم يعرف أيهما، سبقَ، سبقتهما الغيمة، أرسلت مطرًا، زرعت، دفعت) لم تكن تلك الأفعال اعتباطية، ثم أتبعها الكاتب بكلمات مثل (الفرار، الوحدة، الاختباء) كأسلوب تشويق لافت، تم بعد لقاء غريبين هاربين، في ما يقارب سبع صفحات لم يوجز الكاتب في وصف مشاعر ذلك الهارب وموقفه نحو الفتاة الهاربة كذلك، ليرسم لنا صورة المكان بحرفية عالية ذلك الكهف داخل المغارة  بقايا العظام، غموض المكان الذي لم يكن أقل من غموض الهاربين الدخيلان على أمن المكان، وحشة الليل، وحشة المستقبل والمصير، من يكشف أوراقه أولاً المكان أم مرتاديه؟

مع مرور الوقت وتناسل الأيام، كسر الصمت، ورسم لنا الألفة التي تأتي بالرضا، حتى التفاعل مع المكان، وتطويعه برمزية لإرادة الانسان، وحمية الرجل الشرقي وربما إشارة للبيئة المحليّة التي تبدت في محاولته النبيلة في حماية امرأة غريبة، كواجب انساني يعزز فكرة الرجل والأنثى والدور الذي يجب أن يكون كما أراده لنا خالقنا، ومن ثم تأصيل طباع الرجل الشريف، في الدفاع عن امرأة هربت من مصير محتوم بزواجها من رجل مسن بينما هي في ريعان الشباب. كان الهروب هنا أبيضا أنيقًا، يتمثل بجمال اللون وصفاته الناصعة.

في جملة (تهربين من رجل ليرميكِ القدر بين يدي رجل آخر) لا تعلم عنه شيئًا دليل الضعف الذي دفع بها للهروب، الهروب من طرح الأسئلة الحَيرى، حتى صارت خبرًا لا تود سماعه، الماضي يجاور المستقبل بانعدام الأزمنة، ليخبرنا أن الهروب رغم كونه حالتين مختلفتين لكليهما، مع ذلك قرّرا أن لا يداويا جراح الهروب بجرح قيد قادم، هربت المرأة من زواجها البغيض الذي أجبرت عليه فصارت طليقة، بينما باتت قيدًا لهذا الغريب يرسفْ فيه، وهرب هو مانعًا الأخت من قيد فالتفّ القيد حول رقبته، رجل ينزف عمره رحيلًا، ويبقى السؤال الأكبر كيف تمارس الروح هروبها في هذا الهروب الجسدي..؟

 في نهاية القصة أود أن أسلط الضوء على سؤال الكاتب الأهم: هل تعتبر الأسئلة شكلًا من أشكال التحول؟ وهل تتمزّق الأفكار بين روحٍ عالية وجسدٍ مُنهك، مثقل بالتفكير؟ هل استطاع الكاتب من خلال هذه القصة المتكاملة العناصر، والمكتوبة بأدوات سردية واثقة من وصف هذا الهروب الأبيض؟ هل كان التنقل بين أبطال القصص هروبًا من نوع آخر؟

بلغت القصة في هذا الكتاب درجة عالية من النضج، حيث امتازت المجموعة بسلاستها ولغتها السردية المتمكنة التي تأطرت بأمكنة وأزمنة محددة، ومن رسالتها التي توضحت في ترك انطباع كبيرواحد، وتأثير الحدث في طرح السؤال برغم عدم تمثله في شخصية واحدة، أو مكان واحد، وفكرة واحدة، وترك مجال للقارئ كي يجيب عنه حسب ربطه وفهمه لكل الأحداث.المجموعة القصصية عمل موفق نرجو له النجاح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. سلسلة قصص سلسلة تخفي دروسًا وعبر …. تكون ذات تأثير عظيم على القارئ. بل قد ننذهل حقًا ممّا يمكن لقصّة أن تتركه في النفس من تواصل . قصة بسيطة وتبقى على الدوام قويّة مؤثرة

  2. في الحقيقة، يحار القاريء في أيهما يصب عجبه وإعجابه..ودهشته واندهاشه…ثم لا يلبث أن تزداد حيرته ويقع رهين ظنه إذا ما قرر الكتابة والتعليق…أعن القصة يكتب أم عن القارئة والناقدة الأستاذة ” ريما آل كلزلي”؟!
    أستاذة ريما: لك مني كل الاحترام والتقدير، ولك خالص دعائي بالنجاح والتوفيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى