مقالات

  ماذا يريد القارئ ؟ ريما آل كلزلي      –      السعودية

ريما آل كلزلي

قد يخيب أملك كقارئ عندما تسمع عن كتاب أنّه رائع ، ثمّ تُفاجأ بأنّك لم تستطِع حتى إكمال ربعه.

الكاتب طمّاع بطبعه يودّ أنّ كتابه رغيف خبزٍ أبيضَ يتشاركه أكبر عدد ممكن من الجمهور، ومن المعلوم -بسبب الحمية -لن يفكّر البعض حتى في تذوّقه مهما كانت رائحته شهيّة، فهناك قارئ يبحث عن الإثارة السّريعة في الأحداث ينفّره كتابٌ بطيء الرّتم، ويفضّل قارئ أسلوبًا مختلفًا كالجملة غير المتوقعّة في المكان المناسب لها، أو التجديد بعيدًا عن الكلاسيكيّة الرتيبة، بينما البعض ما يزال يحبّ القراءة عن تأكيد القيَم التي لديهم.

إن الكتابة فن لايتقنه الأغبياء ، مع ذلك في النّهاية من السّهل جدًا أن يشعر الكاتب باليأس بينما الجمهور ينجذب نحو آخر برغم أنّهم لم يمنحوه فرصةً بعد.

إنّ من أهمّ الأسباب التي تدفع القارئ للتمسّك بالكتاب حتّى الصّفحة الأخيرة هو الاستغراق التّام، بحيث يختفي الأثاث والجدران حوله، ليجد نفسه وسط الحدث متأثرًا أو مؤثرًا ، وكأنه يرى من خلال نظارة 3D، فيأخذه الكتاب من ذاته ليصبح أهم شخصيّاته بالفعل.

قد يقول ناقد إنّ مزج فكرةً ما ضمن أجواء حدث وتحويل السبل الدراماتيكية، سواء أكانت معالجات فكريّة تنعكس على الواقع الحقيقي أم الخيال، وفق صيرورة مجرّدة ضمن أزمنة يمليها عليه الظرف، معتمدة على جمال الترميز، لإيصال تلك الفكرة وفق جماليّة اعتباريّة بمفاهيم حقيقية هو عين الصواب، وإن كان هذا صحيحا لما تميّز أولئك المبدعون الذين ولدوا بالفطرة ، لديهم أدوات الموهبة وعناصرها.

فالموهبة الحقيقيّة لا تخلط شخصية مثاليّة بحدث مادي يحوّل النّص إلى تزويق لغوي محض، إنمّا يوظّف الشخصية وفق الحدث الأنسب بوعيه، تحت سطوع الفكرة الأصل كي ينجو بالفكرة من الغرق قي متاهة العبارات.

 “الفن رسالة إنسانية، ووسيلة بشرية للافصاح عن حالة الوعي الانساني بتقديم الحلّ الرّائع للإيقاع الجمال وذلك بتحقيق الروعة الابداعية”(١) والإنسان بطبيعته يتحرّك بدافع الأفكار الّتي يؤمن بها ، وإن كانت خاطئة، لتُترجم على هيئة سلوك، ثمّ إلى نصّ، فالمعركة الأصليّة للكاتب الإبداعي أن يترجم بعضه إلى كلمات، في ظل الأزمات والدّمار الذي يشهده الواقع ليتواءم مع ضغوط اللحظة الرّاهنة، ولكن ما نزال أسرى العُقد الشخصية والمزاجية والأيدلوجيات المركبّة، فالمتديّن يمارس الاقصاء مع أغلب مايرى من المعالجات خارج منظومة التّديّن التي يفهمها، والعلماني المتحرّر أو ذلك الليبرالي المندفع نحو ممارسة دورًا مشوّها سيرى بمنظوره الضيق حتى لو كانت الأفكار المطروحة غير قابلة للنّقاش ، سيرفض في أسوأ المعايير. وهنا يتوجّب على القارئ أن يحسن الاختيار، ولأنّ الضبابيّة شعارٌ يتّخذه بعض الكتّاب فلا يكون لديهم موقفًا ثابتا أو ميولا واضحة، فالجميع يودّ أن يمارس دور الابداع والحرّية ، مع الأسف ليس كلّ مجتهد مُصيب، فبعض النصوص السرديّة تخرج مشوّهة لعدم معالجتها بالشّكل المناسب في فكر الكاتب، أو تكون مبتذلة، والبعض يودّ أن يُقحم بعض العبارات من أجل الشّهرة، واجتذاب عددًا أكبر من القرّاء، فترى النّص أصبح كقطعة أرض متصحّرة وسط الجوري والياسمين.

إن المعطيات التي تدفع بالكاتب ليمضي في طريقٍ ما سواء كانت إيجابية لإبرازها أو سلبية لنقدها، والبحث عن البديل وفق رؤية قيّمية جماليّة، من خلال صيغ يومية يعيشها الكاتب كونه قارئا في الأصل شفرّ الموضوعات حسب منظوره وفكره، ليحولها إلى إبداع ابن بيئته المحيطة، ليس وهمًا يلاحق الفراشات على طريقتهم.

و القارئ ماانفكّ يحتاج إلى أملٍ، وإن كان لايقرّ بذلك، يحتاج أن يرى نفسه مسطّرة على الورق بكلّ صدق وشفافيّة، من خلال نص ابداعي، فإن من أغراض الفن منح السكينة من خلال مايقدمه من جمال،

” الفن هو تنظيف أرواحنا من غبار الحياة اليوميّة” (٢)، كما قال بابلو بيكاسو، و ككلّ الأعمال التي عاشت في ذاكرة الأدب، لكتّاب عايشوا النّفس الانسانية وتحوّلاتها وطروفهم المحيطة أمثال ديستوفسكي ، كامو، عبد الرحمن منيف، نجيب محفوظ، أورهان باموق ، وصنعوا لحظات من التّفاهم بينهم وبين القارئ ليبوح لنفسه بأمان عن كل مخاوفه، وأن يتفوّه نيابة عنه بعبارات غير مقصودة( عفويّة) ولغة مفهومة، وإن ساءت الظنون حولها، على الكاتب أن يستوعب فوضويّة قارئه فيرتّبها داخل عقله، لتفضي إلى تنهيدات عميقة، فيفهم أحيانًا أنه على مشارف عاصفة من الدّموع، أو أن يخفي وجهه بين راحتيه ليبتسم ابتسامة ماكرة تَشي بالفوز في شيء ما.

القارئ ناقد أوّل من خلال انطباعاته عن النّص، و الانطباع أوّل النّقد، وإن كان لا يؤسّس نقدًا ؛ لاعتماده على الذّائقة الفرديّة التي لا تحتكم إلى المعايير النقديّة الصّارمة، غير أنه توطئة صادقة للقراءة النّقديّة المثمرة، مايجعل أحكامه ناجعة للجمهور لكونه يقوم على التّباين، وفي التّباين خلود العمل الأدبي، بسبب انفتاحه على قراءات لانهائية، أو مفتوحة كما يرى تودوروف، وما أخلّ بالنّصوص هو تلك الأحكام الظرفيّة التي تُمنح مجانا للبعض، غير أنّ النصوص الحقيقية هي من تقول نفسها دون مواربة أو تكلّف.

إنّ جرأة الكاتب لاتأتي من “الآيروتيك” والحديث حول رغبات الجسد بقدر مايوظف مشهد لصالح النص أو فكرة جليّة، بل في طرح ما قد يكون اغتراب لهُ مخالب وأسنان تقتلع الجذور، أو ضد وضع ما أو عُرف يخشى البعض من التفكير فيه حتى، فلا موسيقا باخ ولا السيجار الكوبي سترضيان قارئ ثوري، وذلك القارئ الذي يتلفّع الرومانسية والخيال لن يفكر في نظريات التنمية والتطور الرّأسمالي .

بعيدًا عن الجندرة والعنصريين لن يُفلح كاتب بإقناع البعض بقول نيتشه “أن المرأة فخّ نصبته الطبيعة”، ولا تلك التي تنادي بقلب موازين الفطرة على رأس الحياة ضد الرّجل، فالقارئ إنسان بالدرجة الأولى يعلم حقّ المعرفة في قرارة ذاته قدره، و دوره في الحياة .

وكل عمل فنّي مدروس يستهدف شريحة بعينها، فتؤول الأشياء إلى ماهي عليه، حيث من أسمى أهداف الأعمال الفنيّة كما قال أرسطو في كتاب فنّ الشّعر ( التّطهير)، وأُضيفُ صناعة المعنى ، لما لها من أهمية بالغة تضفي قيمة على العمل الفني، إلا أن أغلب الاتجاهات البنيوية في النقد كانت تميل إلى عد النص المالك الشرعي للمعنى، بعيدًا عن سلطتي المؤلف والقارئ، فكان ظهور سلطة القراءة(القارئ) في مقام رد فعل ضد لسلطة المؤلف، وعندما أعلن رولان بارت عن مفهوم «موت المؤلف» أشار إلى أن موت المؤلف يعني ميلاد سلطة القارئ: «إن ميلاد القارئ رهين إعلان موت المؤلف»(٣).

محاولا بذلك التأكيد بذلك على أهمية المعنى وأنّ الموقف عرضةً للتنازع من قبل ثلاث سلطات هي: سلطة المؤلف، وسلطة النص، وسلطة القارئ. وكل من هذه السلطات تزعم أنها صاحبة الحق الشرعي في امتلاكه والحديث باسمه. «إن المعنى ليس له معطىً في بداية النص، ولا في نهايته، وإنما يتم الإمساك به من خلال النص كله.(٤)

لتظلّ العلاقة بين الكاتب والقارئ جوهريّة ، تتشكل وفق مساحات من الرؤى المشتركة، و المجتمع هو الرّافد الرئيسي الذي يمدّ الكاتب بأعماله إضافة إلى رافد الخيال والابداع بشكل مباشر أو غير مباشر ، فينعكس أثرها من خلال الكاتب كلّما اقترب من قارئه ويظل القارئ أصل الحكاية ومتلقّيها الأوّل في كلّ نصّ ابداعي.

الهوامش

١- د مصطفى عبده: مدخل إلى فلسفة الجمال

محاورة نقدية تحليلية وتأصيلية،

القاهرة: الناشر مكتبة محمد مدبولي،١٩٩٩، ص٨.

٢-اليزابيث ألفارادو، مجموعة أقوال بابلو بيكاسو في معنى الحياة والفن.

٣- رولان بارت، النقد والحقيقة: ترجمة د.منذر عياشي، دمشق : 2019 ص87.

٤- سيميولوجيا الشخصيات الروائية، فيليب هامون، ص88

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى