مقالات

ملامح من التجربة الشعرية لدى عائشة العولقي عُباد الوطحي      –      اليمن

 

عباد الوضحي

 

خاص بمجلة “البعد المفتوح”

تتداخل الأبعاد في خاطر الشاعر وهو يضع عتبة ديوانه من وحي فكرهِ ومواقفه ومحتوى نصوصِهِ، فما دلالة العنوان “بلا فواصل”؟!

 للفواصلِ دلالة تتسع إلى دلالَةٍ زمنيةٍ في مسيرة تطور الشعر عبر العصور، وهناك الفواصل بالمعنى العروضي والإيقاعي ويعني الوقوف ، “التداخل الإيقاعي في أوزان الشعر العربي”، فكثيرًا ما ينتهي الشطر ولم تنتهِ الجملة فتقع الفاصلة في الشطر التالي.

 وهناك جدل يحتدم حول فواصل تطور القصيدة، وحتى استعمال علامات الترقيم في القصيدة الحديثة.

 ويضيق المعنى إلى ما يتصل بالإملاء، لكن الفاصلة وجمعها فواصِل مؤنث الفاصِل: خرزة أقل نفاسة تفصل بين خرزتين نفيستين في العقد، كناية عن نفيس نتاج الشاعرة وتواصل مسيرتها الأدبية بدون كلل و”بلا فواصل”.

والعنوان باعتباره عتبة الديوان يوحي بلا شكّ بأكثر  من المعنى المعجمي ..

 حق للشاعرة  أن تسمي باكورة نتاجها الشعري “بلا فواصل”

إذا ما استجلينا دلالات العنوان من قصيدة تحمل العنوان ذاته وتعدُّ تبيانًا لمسيرة الذات الشاعرة وتجربتها مع القصيد عقب انطلاقتها، بلا فواصل ولا استراحة:

كسنبلةٍ حباها الحقلُ ريّا

فظنتْ كلَّ أرضِ اللهِ حقلا

وفاصلُةٌ تقولُ ليَ استريحي!

فأصرخُ من حشا الإصرارِ: كلّا

أبوحُ إلى القصيدَةِ كُلَّ شجوي

وما زالَ الحديثُ يرومُ وصلا

حوى ديوانها 60 نصًا كلها أتتْ على أوزان أبحُر الخليل، وكان أوفرها حظًا هو بحر الوافر ب 25 قصيدة.

هذه الباكورة تبشرُ بنبوغها وإجادتها اللسان العربي ، جزالة وبلاغة ونظمًا، تتقنُ قواعده ..

 قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه:

النحو يصلحُ من لسانِ الألكنِ

والمـرءُ تعظمُهُ إذا لـم يلحِـنِ

فإذا طلبتَ منِ العلومِ أجلَّها

فـأجلُّهـا منها مقيـم الألسُنِ

فإن كان هناك من أسباب لنجلّ هذه الشاعرة الفتيّةِ، فلفصاحتها وموضعها الريادي في كسرِ احتكارِ الشعراء الرجال لنظم القصيدة الخليلية في الساحة الأدبية الجنوبية ؛ إذْ لا نكاد نقرأ لهنَّ إلّا السرد والقصيدة النثرية في أحسن الأحوال..

ولقِصَرِ نَفَسِها الشعري، فهي تميلُ للقصيدةِ الوامضة وتشعرُ بسيطرتها علي مقاليد النص من البداية إلى النهاية من دون أن يفلتَ الزِّمامُ ولا تتبعثر الفكرةُ أو يختلّ السياق..

ففي قصيدَةِ “انطلاق”:

هلْ خانَكَ التعبيرُ ذاتَ بليَّةٍ

حتى الكلام إذا جمعتَ تبعثرا

فأنا ابتليتُ بكُلِّ ذاكَ وذقتُهُ

ورأيتُ من شِيَمِ الكِرامِ تَصبُّرا

ثمَّ انطلقتُ كأن شيئًا لمْ يكنْ

كيما أغيظَ العابثينَ وأؤجرا

مفرداتها جَزِلَة وقاموسها واضح وينتمي للغة الشعر التقليدي ولا تغرق في الأبعاد أو الخيال المحلِّق أو الانزياح المستحدث، ويتسم خطابها بالحذر، وأسلوبها يميل للعرض الذي يهدف للإقناع والإبانة، وأحيانًا أقرب للوعظِ والإرشاد ، ولكن شاعريتها غنية بفكر القصيد، ويدلُّ على ذلك تنوع أغراضها وموضوعاتها .

عناوين قصائدها بسيطة التركيب وفي كثير منها  من كلمة واحدة ك “الصمت” و “الثقة” و “نضج” و “الصداقة” و “أمل” و “غياب” و “مطر” و “شموخ” و “عيد” و “حيرة “… وغيرها ،  ورغمُ أن الكلمات المفردة أقل قدرة على  التعبير الشعري وعلى نقل الشعور وصنع الدهشة في الشعر، إلَّا إن كانت ضربًا من الرمز أو المجاز، لكنها أولت أهتمامًا لتشكيل مجموعتها بطيف واسع من الموضوعات والعناوين، وتحتاج عائشة كما نحن إلى مزيدٍ من العناية بصوغ عناوين النصوص الشعرية بطريقة تجعلها أكثر شاعرية، كما كان لها  في اختيار عنوان المجموعة “بلا فواصل”

وفي العودة لأسلوبها الإنشائي الطاغي في محتوى قصائدها:

قفْ شامخًا مثلَ الجبالِ ولا تهنْ

ولتصحبِ العزمَ المتينَ طويلا

لا تصغينَّ إلى العدى ولزعمهم

صار الدعاةُ المخلصونَ قليلا

كُنْ كالمآذنِ صادِحًا بالحقِّ في

أُذنِ الـزمـان تـردِّدُ الـتـهـلـيـلا

 وبما للأمر والنهي البلاغيين من معانٍ تتصل بشعورِ قائلها، وتذهب في التأثير على وجدان المتلقي أبعد من المعنى اللغوي، وتراوح الشاعرة بين الإنشاء الطلبي وغير الطلبي من الأمر والنهي على وجه الاستعلاء إلى الرجاء والدعاء والتمنِّي والالتماس والاستفهام الاستنكاري وغير ذلك من أغراض الإنشاء:

يارَبُّ مسألَةً في القلبِ تؤْرقُني

ألحَحْتُ في ذِكرِها إذْ قُلتَ فادعوني

ولستُ منكَ ومِن رحماكَ في يأسٍ

أرجوكَ يارَبُّ قلْ في حقِّها: كوني

وأزعمُ أن أسلوبَها يعودُ لشخصيتها الجادَّة المكابرة الواثقة :

ولم أَشْكُ الحياةَ ولا دروبي

 ومثلي لا يليقُ بهِ التشكِّي

ألومُ الواقفينَ وقوفَ عجزٍ

فما نفْعُ الوقوفِ على المحكِّ

فهي تعرفُ قدرَ نفْسِها .

والثقة نصٌ شعريٌّ في متن مجموعتها :

وما أسفتُ على أمرٍ وارَّقَني

إلّا على ثقةٍ خانتْ مواضِعَها

قد كنتُ أحسبهم أهلَ الوِدادِ وهم

كالطفلِ إنْ تعطْهُ الأشياءَ ضيَّعَها

بقدرٍ من الشكيمَة والشدَّة ، لولا اختتامها للنص بمسحَة من لِين العاطفة :

حتى انسللتُ ولا ألوي على أحدٍ

كدمعَةٍ هجرَتٔ – في البوح- موقعَها

وهذا هو ما يليق بها كشاعرة ..

وفي قصيدَةِ “نُضْج” :

وأدركتُ أنّ الهدوءَ احترِاف

ولـــولاهُ قد مُـتُّ مـــع آفـتـي

هجرتُ العقولَ الضعافَ الخفاف

كسبتُ بهجرانِهم راحتي

فماذا يفيدون أهلُ الجفاف؟

وماذا يضيفُون في قامتي؟

فما عُدْتُ مِن فقدِ شيءٍ أخاف

عــلامَ أبـدِّدُهــا طـاقـتـي؟

  وتعرضُ بعض ملامح فكرها بأسلوب تربوي إرشادي ناصح وواضح، ولا تلجأ كثيرًا للتخفّي والرسم  والقِناعُ والمعادلُ الموضوعي والترميز الذي يحتاجه الشاعر لتفادِ الحرج أو لتجنب الاصطدام بفكر أو قوى تهيمن على واقعِهِ ومحيطِهِ الحيوي ..

وفي “رحلة كفاح”

وتــروي كلّ مجدبـــــةٍ حنانًــا

إليـــها كلُّ منكســـرٍ يسافــــر!

تعيشُ لأجلِ أسرتـــها وتحيـا

وتفتــــقدُ المؤازر والمناصــــر

وتخفي عنـــهمُ الأناتِ صبـــرًا

تـــراها- رغم دمعتِــها- تكابـــــر

أفتّشُ في القصائــــدِ لا أراها

وأين نصيبُها بين الجواهــــر؟!

وقدرُكِ لن تُبلَّغــــهُ القوافــــي

ولن تكفي المحابــرُ والدفاتـــر

ولست أعدُّها تطالب بحقوق المرأة بالمفهوم الواسع حتى وهي تكرِّسُها لتقديرها من وجهة نظر مختلفة وخاصَّة، وهي التي نقرأ لها نصًّا آخر يمجِّد الحِجابَ ويثني على من ترتديه..

في قصيدة بعنوان “ثبات”:

وإذا عبرْنَ على المسالكِ أزهرتْ

مثل الغَمامَةِ في اللِباسِ الأسودِ

أما أنا فلا أرى أن هذه ظاهرة تستدعي الكفاح، في مجتمع أقلُّ ما نقول عنه أنّه محافظ ، إذْ إن الأمر لدينا يحتاج لإشراك المرأة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي المسألة الأجدر بالتوعية حيالها.

ولا نكاد نلحظ في شعرها  التبرم ولعلها متصالحة مع  واقعها وعادات مجتمعها.

 نرحب بعائشة وبإصدارِها الأول وحضورِها يشكِّلُ إضافة ضافية وبشارة تشي بحضور أدبي واعد للشاعرة مع زميلات لها في مجالات أدبية مختلفة ..

وطالما شكَّلَ الحضور الإبداعي والأدبي للمرأة -على وجه الخصوص- موشرًا على بدء تعافي المجتمعات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى