ثمة خطابات سرديّة تنبش في الذّات الانسانيّة، تصقل المعاني المنسيّة، تجعلك تقف طويلًا لتتأمّل، تسأل بشكل جّدي، وتفكّر كثيرًا.
عبر الفكر الإنساني الخلّاق، والمعرفة الإنسانية الثّابتة تتشكل أعظم الحضارات، لا لتتصارع إنّما لترحل تاركة بعدها حصيلة ما جمعت من فكر ومعانٍ.
الروائي بهمن شكوهي قدَّمَ بانوراما واسعة ومتشعّبة من الشّخوص والأماكن والمرجعيّات التّاريخيّة والأسطوريّة والثقافيّة في عالم سردي وفكري من خلال تفصيل رحلة الإمام المعرفيّة للفقيه أبو حامد الغزالي، وكان هو الّراوي نفسه، منذ بدأت رحلته في “طوس” أقصى الشمال الشّرقي لإيران منذ الطفولة مبكّرة.. لم تقف عند رحيل والده المرير، بل استمرّت بدافع الشغف لتلّقي المعرفة في جرجان ونيسابور وحواضر العالم الإسلامي الشّرقي، ما كوّن شخصيّة الطّالب المُجدّ الذي حباه الله ميزة من عناوين الفراسة وهي قراءة أفكار الآخرين من خلال أعينهم.
في هذه الرّواية التاريخيّة توضّحت علاقة الإمام بالشّخصيّة المهمّة “نظام الملك” وابنه علي، وسفارته بين ملك شاه وخليفة المسلمين “المقتدي بالله” في بغداد، وتمّ طرح مناظرات حول معنى الحياة جرى معظمها مع الأستاذ الذي يحبّه الغزالي عمر الخيّام، فمن المؤكّد أنّ فهم التّاريخ لا يمكن اكتسابه من خال المنطق والعلم فقط، إنما قد تصنع المعتقدات والعاطفة أدورًا توازيه بالأهمية.
إنّ قيمة الإنسان تتكوّن من خلال الأسئلة التّي يطرحها، وليس بمعرفة كلّ الإجابات، فالأسئلة ناطقة أمام خرَس الأجوبة، والحريّة تمنح الكاتب مساحة من إيمانه والدّفاع عنه لإعادة تأهيل الإنسان ودعم المعاني وتطويرها من خلال تجارب الآخرين، فأعظم مهام الكاتب ليس سرد المعلومات وتسليط الضوء على تجارب الآخرين، بقدر ما هو نبش الجمال الذي في داخلك بينما أنت غافل عنه.
وبخبرة روائي عززّ الكاتب أعظم نتيجة لمفهوم الجدل، قال الغزالي: ” كنت سلطان المجادلات، وقد وصلت في هذا الفنّ إلى مكان خشي فيه الجميع مناقشتي، كنت سيّد ميادين المناظرات بلا منازع، لكنّ هذه الشهرة التي جلبت اسمًا ورزقًا وجاهًا، هي في الحقيقة حجاب أقيمُهُ حول قلبي، وآفة تنهش روحي من الدّاخل وتدمّرني من دون أن أعلم، الجدل هو أضعف لغات التّواصل البشري، وأفضل طريقة لإيذاء الآخرين”، وقد بين أن تمرّسه الجدل أقصى الآخرين بعيدًا عنه مدى الحياة، وقد وصل بحكمته بعد التجارب المريرة إلى أن “الحياة هي من أجل العثور على الأشخاص والصّداقة مع الخلائق، لا من أجل طردهم بأداة النّقاش والجدال”.
حتّى تحدّث عن الجدال مع الحكيم عمر الخيّام بأنّه أمر عبثيّ لا طائل منه، بينما ألحق به الهزيمة، لكنّه تعلّم في الوقت ذاته أن لا يؤذي سعادة الآخرين من خلال قول عمر له: “… والآن يا أبا حامد أنت ستشرب من عصير العنب، وأنا سأشرب من خمر العنب، احتسائي الخمر لن يضرّك، وشربك العصير لا يعدّ انتهاكًا لحرمتي، يجب أن لا تؤذي سعادتي الآخرين”.
إنّ القارئ لن يُدهش عندما يرى الكاتب كيف مرّ على رسائل الإمام معظمها، وطرح نتاجاته الفكرية بأسلوب التساؤلات الّتي تفتح الآفاق أمام مجالات أخرى عالجت ما يتعلّق بالنّفس الانسانيّة (المطالبة بمهر البنت قبل الطلاق، الصّلاة مع لبس الجزمة، عقد الزواج المقترن بالوعد، الغناء، الرّقص) على سبيل المثال لا الحصر، وكذلك طرح الرّأي الآخر في كتبه الأهم ( تهافت الفلاسفة، المنقذ من الضّلال، فضائح الباطنيّة، إحياء علوم الدّين، وملخّصه في رسالة كيمياء السّعادة، سوانح العشّاق) ومن أسباب وجود المُبدع في الأصل هو وجود بيئة مناسبة له، وهي المدارس النظاميّة في زمانه، كذلك المناظرة التي عُدّ هنا الخيام خالق بيئتها معه ومناظرًا شرسًا له.
في الرواية معانٍ عظيمة، وكأن الكاتب أودع الدرر في النّص، ليزعم القارئ أنّه مكتشف هذه الجواهر، فيصبح مالكها الحقيقي. إنّ التأويل الذي يمنحه القارئ لكل جملة أو عبارة وردت هنا، هو فعل اكتشاف حقيقي لما وراء النّص السردي، فعلاقة علي بك ابن “:نظام الملك” بالشيخ الغزالي كشفت له جانبًا عظيمًا من تبادل الأدوار بين الآباء والأبناء، فكل سلوك غير مقبول للابن يصدر من الأب بمرور الزمن، وبعدم اشتغاله على تطوير مهاراته الفكريّة سيجد الابن نفسه مكررًّا سلوك والده ومتقمّصًا لشخصيته برغم انتقاده هذا في السّابق، وتوضَّحَ هذا الأمر عندما رأينا الخيبة في عين الابن من كون والده رضي تحكّم السلطة به، ليجد علي بك نفسه بعد مرور الزّمن، خاتمًا في إصبع “توركان خاتون” زوجة الملك، لا إرادة له أمام رغباتها.
ومفارقة أخرى تم طرحها بمنتهى الموضوعيّة وهي شخصيّة أخيه أحمد المثاليّة، التي تطوّرت عبر أمثلة من قبيل (رعاية العصفور وتفقيس بيضة الحمامة تحت رعايته، وإطعام الكلبة وجرائها جزءًا من طعامه القليل في الأصل، وعنايته بسُعدى، وعدم الالتفات نحو المنصب والسلطة والبلاط، وصولا إلى تصوّفه) مقابل شخصيّة الشيخ محمد أبو حامد الغزالي العقلانيّة ورحلة بحثه عن المعرفة والحقيقة وأنها أوسع مما يرتبط باعتقاداته وأطره الدّينيّة، من خلال وصوله إلى قناعة أن لا يوجد حقيقة لا يمكن أن يُشكّ بها، ما دعاه إلى الشعور بالثقل أمام أستاذه ومناظره الحكيم عمر الخيّام عندما قال له:” يا أبا حامد، …كلّ الأحكام والآراء وفتاويك، لا تستند إلى العقل والحقيقة، إن أفكار كل شخص لا تنحصر بالعقل المحض…، وأن الحياة ما تزال لغزًا، يوم الراحة فيها هو الملل من عدم إثارة التعلّم، فليس الجهل هو الذي يسبب المعاناة، إنّما وهم المعرفة لدى البعض الذي يضلّ النّاس،… وكل ما صنعناه في هذا العالم هو كالسّلاسل والأغلال والقيود في أيدينا، وبهذا زدنا من أحمالنا وأثقالنا، فلا يجب أن نعمل للهروب من العقاب والخطيئة، بينما يجب أن نعمل لنحقق الخير ونتبّع الفضائل”.
برغم الإطالة نوعًا ما عن أحداث القرن الخامس الهجري التي قد تورث الملل لقارئ اليوم الّذي اعتاد نمط الحياة الحديثة السّريعة، لم تتخلل السّرد رتابة، فكانت الحبكة تتصاعد مع الأحداث، فقد بدأت الرّواية بمقتل والده نفسه شنقًا، وقد شهد الإمام ذلك كطفل بحرقة وألم؛ ولم يعرف السبب في حينها، لكن الأمر طرح سؤالًا كبيرًا جدّا، تبيّنت له إجابته عندما جهّز كفنه الأبيض ورقد على سرير الموت، لحظة وصوله إلى السّلام الرّوحي، هو ما يحتاجه “فقد القدرة على تحمّل الدّنيا وما فيها من حلال وحرام، ووعود وأمنيات وأحلام ورؤى”، فلا يموت إنسان قبل أن تهدأ روحه، ولكن الحياة تستحق أن نحبّها بشغف، ونعيشها بحب “بدلًا من محاولة فهم شيء ما”.
ليخلد هذا الإمام بفكره وكتبه، فالعشق يصقل روح الإنسان، ويهدّئ فوضاها، وأعظم العشق ما كان لله.