د. بسام بلان
لا توجد مفردة في لغة الضاد توازي قوة وتأثير وعمق مفردة “حب” إلا “سرّ”.. بل ربما تتفوق عليها في كل المجالات.
وكما أعجزت “حب” كل المتنطعين لتقديم تعريف جامع مانع لها، كذلك “سر”، فمن المستحيل أن تجد لها تعريفاً يفيها حقها.
في الشكل بين “حب” و “سر” مشتركات، ليس أقلها أن كليهما مؤلف من حرفين فقط، وكليهما من جنس المذكر لفظاً، وكليهما لايمكن تأنيثه لأن إضافة التاء المربوطة لأي من هاتين المفردتين ستغير معناهما مئة وثمانين ودرجة، فلا رابط البتة بين “حب” و “حبة” أو “سرّ” و”سرّة”!.
دعوني أعترف لكم بأن هاتين المفردتين كان لهما أكبر الأثر في حياتي؛ وتعرفت إليهما معنىً قبل أن تثيرا انتباهي ككلمات مجردة، فقد عرفت الحب منذ نعومة أظافري، ومارست السر قبل أن أعرف أن له اسمًا يدل عليه، وكان كلاهما بالنسبة إليّ قرين الآخر، ولا يكون أحدهما بلا الثاني.
عندما كنّا صغاراً كان الحب بالنسبة إلينا فعلاً نمارسه سراً، والسر غلافًا متينًا لحفظ الحب، وغير ذلك سيذهب الحب والمُحب والمحبوبة بخبر كان. عندما كبرنا قليلاً أخذ الأمر معنى آخر؛ فلا بأس في إخراج رأس حبك من غلاف السر، شريطة أن تحرص، بلا حدود، على سريّة ما يحيط به وبأجوائه وطقوسه وممارساته لأن غير ذلك “خيانة”. وبعد أن نضجنا، صرنا نجاهر بحبنا ومحبوبتنا، نخرج للناس يداً بيد لانخشى شيئاً ونحرص، طبعاً، على الطقوس أو طقوس الطقوس، وبعد النضوج، صار لزاماً علينا أن يصبح الحب سمة يومية لأنه بغير ذلك لا سبيل أمامنا سوى الوجع والفشل.. وباسم الحب كنا نقسو أو نلين ونتغير من دون أن نتلون.
وأخيراً رأينا أن الحب السري في حياة طيف واسع من البشر، هو الأكبر والأكثر تأثيراً، وصار للسر عندنا حدود أخرى، وعرفنا الكثير من الحقائق عنه.
لاشيء في الوجود بلا سر.. للحجر سر، وكذلك التراب والجبال والماء، والسماء، والبحار، والألوان، والطيور على أشكالها، والأحياء على أنواعها.
ولكل شخص على هذه البسيطة سر، وكلما كان سره أكبر كانت أهميته أكبر.
كان جدي رحمه الله إذا طلب أحد منه إعطاء رأي بشخص ما، يُجيب على الفور: “لا أعرف؛ فسرّه عند خالقه”. وبذلك يكون السر حالة دينية وأخرى دنيوية، كما هو حالة مجردة و أخرى ملموسة.
البشر بفطرتهم يعشقون الأسرار، و لا يكلّون أو يملّون من العمل لكشف أسرار الآخرين، فإن امتلكت سر أحدهم، امتلكته. لايعني الناس ما يرونه في الآخرين بقدر ما يثيرهم المُخبأ من أسرار فيهم، وأجزم بأن هذا الشغف كان المُحرّض الرئيس للاكتشافات الكبرى في حياتنا، بدءاً من ضرب الحجر بالحجر لإشعال النار، وليس انتهاء بالمشي على سطح القمر.
عندما أصبحث صحافياً، لم يشغلني يوماً أي حدث معلن، كنت أجتهد لأبحث عن السر خلف هذا الحدث مهما كان بسيطاً، نجحت في بعض الأحيان وفشلت في أكثرها. ما كان ولا يزال يتعبني، هو أنني دائماً ما أرى مفردة “سر” فعلاً أمراً بمعنى “إمشِ” أو “تابع سيرك دون توقف”. فمشيت كثيراً، ولا يزال المشوار طويلاً جداً.
عرفت أيضاً أن الأجهزة السرية، أينما وجدت، هي التي تُحرك كل شيء، وفي حياة الدول كما حياة الأفراد، الملفات السرّية هي الأساسية، والمكشوفة أو المرئية لا قيمة لها مهما تم تضخيمها أو تزيينها أو تسليط الأضواء عليها، بل أحياناً يتم تركيز كل الأضواء على شيء أو حدث أو فعل مُعلن لإبقاء المستور أو السري من أشياء وأحداث في ضيافة العتمة المُطلقة. عرفت أيضاً أن ما نراه وما نسمعه من أحداث، مرّ بسرداب طويل من سراديب السرية، فدورة حياة أيّ شيء تبدأ في العتمة وليس في النور.. في المجهول وليس في المعلوم، فلا سلاح يحسم حرباً، إلاّ السلاح السري، ولا خطة تصل لما يريد واضعها إن لم تكن في بداياتها والتحضير إليها سرّاً كبيراً،
ولا نجاح مؤكداً إن لم يتم العمل له سراً… وهكذا الى ما لانهاية.
أكذب البشر ذلك الذي يقدم نفسه للآخرين على أنه صفحة مفتوحة لا سرّ عنده، وإن وُجد مثل هذا الشحص في الواقع فإنه قبل الآخرين يدرك تماماً خفّة وزنه وهزالة قيمته،
فأيهما كان أولاَ: الحب أم السر؟
……..
الحب بكل ما فيه سرٌ كبير.
السر ليس بالضرورة حُباً أو قادراً على صناعة حب.
زر الذهاب إلى الأعلى