مقالات

قراءة نقديّة.. “حفل الطوفان” ديوان ريما آل كلّزلي إياد خزعل*      –      سورية

د. إياد خزعل

ريما آل كلّزلي

 لم تحظَ القصيدةُ النسويّةُ عبرَ التاريخ الأدبيّ بالاهتمامِ الكافي لدى النقّاد العرب، إلاّ أنّ العصرَ الحديث أفرز معطياتٍ جعلت هذه القصيدةَ حاضرةً، وأخذ بعضُها يرسّخ نتاجاً يجعلها صامدةً في وجه القصيدة الذكوريّةِ – إن صحّ التعبير – بل يطغى عليها أحياناً، مع أنّ النقدَ الأدبيّ يجب أن يصبَّ اهتمامه على النتاجِ الأدبيّ وليس على مُنتِجِه.

وفي العصرِ الحديثِ نجدُ أنّ قصيدة النثر النسويّة صارت ظاهرةً واضحةً من ظواهر تحولات الشعريّة العربيّة نتيجة تحوّلاتٍ كبرى شهدها هذا العصر على الصّعُدِ كافّةً، مع أنّ هذه الظاهرة لها جذورٌ عميقةٌ بدأت مطلَع القرن العشرين، وتبلورت في العقدين الأخيرين منه، ليأتي القرنُ الحادي والعشرون فيجعلَها ظاهرةً طاغيةً صاعدةً، تتّجهُ فيها المرأةُ العربيّة إلى محاولةِ تحقيق الذاتِ في شكلٍ شعريٍّ جديدٍ يعبّر عن التحوّلات الكبرى التي شهدها المجتمع العربيّ؛ من حيثُ التحرّر من القيودِ التي ظلّت مهيمنةً لفتراتٍ طويلة، وبخاصّة القيود الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة وغيرها، فاتّجهت قصيدةُ النثرِ النسويّة إلى آفاقَ أكثرَ اتّساعاً تبتكرُ صيغاً تعبيريّةً وخطاباً جديداً يغلب عليه السّردُ، ويتحرّرُ من القيودِ اللغويّة والإيقاعيّة، ولا يهتمّ كثيراً بالصور الشعريّة البلاغيّة، وهذا ما جعلَ المجالَ الشعريَّ مفتوحاً أمامَ الكثيراتِ؛ حيثُ لا يحتاجُ إلى الغوصِ في الإرثِ الشعريِّ الذي يحكمُ القصيدةَ العربيّة الإيقاعيّة، سواءٌ أكانت قصيدةً عموديّةً أم قصيدة تفعيلة، هذا الإرثُ الذي كانَ قيداً ثقيلاً يصدّ الأبوابَ أمامَ الخارجينَ عنه.

إلاّ أنّ هذا الحكمَ لا يعني أنّ التجاربَ الشعريّةَ النسويّةَ كلّها ذاتُ سويّةٍ واحدةٍ، فبعضُ التجاربِ ارتقت إلى مستوىً شعريّ عالٍ، واتّجهت إلى أماكنَ كانت محرّمةً، أو حكراً على الذّكورِ، ومنها التعبيرُ عن العلاقةِ بالآخر، مع أنّ التراثَ العربيّ حافلٌ بأصواتٍ نسويّةٍ عبّرت عن ذواتِ صاحباتها بشكلٍ يضاهي التعبير الذكوريّ أحياناً.

من هنا يمكن الدخول في قراءة المجموعة الشعريّة (حفل الطوفان) للشاعرة ريما آل كلّزلي، هذه المجموعة التي تضمّ ثلاثين نصّاً، كانت في مجملها خطاباً للآخر باستثناء ثلاثة نصوصٍ هي: (جميلة – جواهر – عشتروت) توجّهت فيها إلى الأنثى، بالرّغمِ من أنّ الأنثى عبرَ التاريخ الإنسانيّ كانت – في الغالبِ – الملهِمَةَ التي يتوّجه الخطابُ الشعريُّ إليها.

في أغلبِ النصوصِ يطغى صوتُ الشاعرةِ وهي تتساءلُ عن هذا الآخر الذي سمّته في (الإهداء) (معجم حروفي الخالدة)، هذا المعجمُ يظهرُ في ألفاظٍ تكرّرت في النصوصِ (لغتي – حروف – حبر – تقرؤني – أكتبك – أترجمك… الخ)، والتساؤل أو الاعتراف أو البوح ينصبّ على الحبّ بوصفه علاقةً ساميةً تتوقُ إليها المرأةُ في ثنائيّة التكاملِ والبعد عن التنافر، لذلك تقول في التمهيدِ للمجموعةِ: “خذ النايَ مع بعضِ روحي وأشعلِ السماءَ ألحانًا أبدية”.

 تقولُ الشاعرةُ في النصّ الأوّل (مَن تكون؟):

تَتعدّد الوجوهُ، وأنت وحدك بلا شبيهٍ

مَنْ أنت؟

مرةً أراكَ أسطورةً.. مرةً عاشقًا

يقطع بحاري في سفُن المُحال..

***

لم أكنْ حظًا عاثرًا، يوم تعثّرتَ بي

كنتَ تقرؤني غيمةً غيمةً

تَتسلل إلى جسدي

وأكتب إليكَ بحبرِ الرّوح

يبدأ النصّ بجملةٍ خبريّة تقريريّة ليأتي السؤالُ (مَن أنتَ؟)، تليها إجاباتٌ تعلو بالمخاطَبِ إلى مستوى الأسطورةِ والعشقِ، وكأنّ الأنثى بحرٌ – وهي كذلك – وعلى العاشقِ أن يغوصَ في هذا البحرِ ليتسلّل إليها، فتكتبُ إليه بـ(حبرِ الرّوح).

وفي نصٍّ آخرَ نجدُ الشّاعرةَ تقول:

لَسْتُ في زمنٍ  يناسبك

فكيف أكتبكَ؟

يا قاعدةً لا تشبه سواها

أنت طاقة ربيعٍ تنتحلُ صفاتِ الخريف

المزاوجةُ بينَ الخبرِ والإنشاءِ يعطي النصَّ طاقتَه العاليةَ، ليأتي التضادُّ صادماً، فهو(ربيعٌ ينتحلُ صفاتِ الخريف، فالربيعُ هادئٌ لطيفٌ، والخريفُ عاصفٌ يقتلعُ الأوراقَ ويعرّي الشجارَ، والرّبيعُ دافئٌ بينما الخريفُ يتخلّله البردُ الذي يشتدُّ أحياناً.

وهكذا تمضي النصوصُ في خطابِ الآخرِ، حاملةً طاقاتِها الخفيّة في لغةٍ شاعريّةٍ عاليةٍ، تبدو موسيقاها الداخليّةُ عنصراً فعّالاً في جذبِ المتلقّي والأخذِ بيدهِ ليدخلَ عالمَ الأنوثةِ وهي تقتحمُ عالمَ الذّكورةِ بعنفٍ لطيفٍ يحرّكه تلكَ البحارَ السّاكنةَ، ويهزّ الأرواحَ المتنافرةَ لعلّها تلتقي في ثنائيّةٍ متناغمةٍ.

ففي نصّ (لحنٌ ملتهب) تقول:

 أريدُ الحبَّ أدعيةً أتلوها.. كالصلوات

أريدُ مصابيحَهُ يقظة.. أبدًا

أريدُ الليل حقيبةَ همسٍ

كلّما حدّثتني عيناك بعينيك..

يا أيها المَعنَى

تحرّك بين حروفي

واكتب سيرة الماء والورق

قداسةُ الحبِّ وصفاؤه تجعلُ الشاعرةَ تنشُدُ أن يكونَ (كالصلواتِ)، كزوارقِ الورقِ تخوضُ غِمارَ الماءِ هادئةً، ربّما تحملُ رسالةَ البحثِ عن حبٍّ صافٍ هادئٍ، يروقُ لها أن تجعله مثلاً أعلى تتوقُ غليه بروحها، وهذا سرّ الشاعريّةِ والدّهشةِ في نصوصِ المجموعة.

ويمكن أن نجد مثلَ هذا المعنى في نصوصٍ أخرى؛ حيثُ يتكرّر بوصفه (الثيمة) التي تشكّلُ محيطاً  تصبُّ فيه بحارُ الموضوعات، أو (علامةً كبرى)، تدورُ حولَها (العلاماتُ الرّديفة)، كقولها في نصّ (شال الحرير):

دعْ بروقكَ تُزينُ حقولي مثل عاصفةٍ

تعبُرني.. فأُزهِر

وسلامًا على موت الرقيب

فهذه المقولةُ تؤكّد ما جاء في أوّل هذه الدراسةِ، وهو محاولة الانفلاتِ من القيود، مع الحِفاظِ على الخَفَرِ الأنثويّ الذي لا يعبّرُ بشكلٍ مباشرٍ أو مبتذلٍ عن الرّغباتِ.

وإذا انتقلنا إلى القصائد الموجّهة إلى الأنثى نجدُ الشاعرةَ تنتقلُ إلى لغةٍ مغايرةٍ تماماً، فهي أوّلاً تريدُ الأنثى صانعةً لذاتها، تفرضُ هذه الذاتَ على قوانين الهوى، قويّةً لا ينالُ منها العابثونَ، تريدها مقدّسةً كآلهة الجمالِ (أفروديت)، بعيدةً عن الحزنِ والشّعورِ بالخيبةِ، فتقول في نصّ (جميلة) الذي تهديه إلى صديقة:

كوني

أنتِ كما تشائين

ليركع لك دستور

الهوى والقوانين

***

كوني

في كتاب العشق

قدّيسة، نبيلة

كأفروديت

أو إعصارًا مُثقلًا بالحب والحنين

***

لا تحزني يا صديقتي

مهما عصف بك الزمان

فهذه الأرض صحراءٌ

يتساوى عليها الجوري

والشيح والياسَمين

أمّا في نصّ (جواهر)، فتظهرُ الذاتيّةُ في اعلى مستوياتها واقفةً بخشوعٍ أمام الحقيقةِ التي لا مفرّ منها (الموت) ذلك الرّهيبُ الذي خطفَ من الشّاعرةِ ابنتها في عمرِ الورودِ، تلك الطفلةُ التي قاومتِ السّرطانَ بشجاعةٍ لكنّ الوسائلَ البشريّة أو البشر خذلوها لترقدَ بسلامٍ في عالمٍ آخرَ غيرِ عالمنا، فتجعلُ الشاعرةُ الطبيعةَ مشاركاً حقيقيّاً في الحزنِ – وهذا من خصائص الرّثاء – فالرّبيعُ ينعى والمرايا والفراشاتُ تبكي، وحتّى برامجُ الأطفالِ (فلّة – بياض الثّلج) تبكي أيضاً في رمزيّة عاليةٍ تدلّ على براءة (جواهر) وطفولتها التي غادرت مسرعةً، فلم تهنأ بها، ولم تهنأ الأمّ الثّكلى بقربِ تلك الطفلةِ الملاك، فتقول:

نعاكِ الربيعُ

وفاضتْ لروحكِ

المدامع والأشواق

لطهر روحكِ ينساب الحنين

الدّمعُ فاضحٌ همّال جارح

والأحبّةُ إلى طيب

ذكرِكِ مشفقون..

بكتْكِ المرايا والحكايات

والطُهر والفراشات

فُلة، بياض الثلج

وعطر الياسمين

لتأتي قصيدة (عشتروت) تتويجاً للخطابِ الأنثويّ، فكأنّ ربّاتِ الجمالِ يباركنَ هذه المجموعة الشعريّة، وما الشّاعرةُ إلاّ توقٌ خفيّ لأن تكونَ في مصافهنِّ راغبةً في أن يكونَ الآخرُ ندّاً مضاهياً لا عدوّاً نافراً، فتقول مخاطبةً (أنثى):

كوني عطرًا أنيقًا يليق بالقصيدة

حلّقي..

فالفضاء واسع..  تمردي على الثبات

***

ثمّ تقول في مقطعٍ آخرَ:

إن كانَ عشقكِ روايةً اقطفيها ثمرًا

وازرعي من كلِّ غرسة حديقة

اخترقي اللغة

مثل ندى الزهور

واسقيها كلّما هدّدكِ الجفاف

أنتِ قاموس، كلما هَزمته الأيّامُ يزداد أبجدية..

وأنا قافيتكِ

احضنيني بكلّ اللغات..

ربيعُ عينيكِ يَشي بروحك العطشى للنصر

أنا لكِ.. والياسمين

فقط كوني لي قصيدة أحفظُها في زوايا الروح للأبد

ولا تنسَيْ أن ترتشفي قهوتَنا

فأنا لا أفضّلها باردة

فربّما كانت (الأنثى) المُخاطَبة صديقةً أو ربّما هي الشّاعرةُ نفسُها في خطابِها مع الذّاتِ، وفي النصّ نلمسُ صدى المعاني الواردة في نصّ (جميلة)، وهو ما يؤكّدُ المقولةَ الأولى، فالشاعرةُ تريدُ التخلّصَ من القيودِ والارتقاءَ إلى عالمٍ أبهى، لا ترفضُ الآخرَ لكنّها تريده رفيقاً يسيرُ إلى جانبها بروحٍ وشغف، ويكونُ حرّاً مليئاً بالعطاءِ والإلهام.

أخيراً:

هذه المجموعة تحمل بصماتٍ شاعريّةً عالية، وفيها ما يؤكّد أنّ القصيدةَ النثريّة النسويّة قادرةٌ على تركِ هذه البصماتِ على صفحاتِ الأدبِ بمهارةٍ وامتياز.

—————————————————–

*أستاذ في جامعة “البعث” السورية وشاعر صدرت له 8 دواوين

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شكرًا وارفة للأستاذ وائل الجشي متمثلاً برئاسة تحرير البعد المفتوح.
    والشكر لن يفي أستاذي الشاعر ( الاستاذ إياد خزعل) حقه ..
    لتصغر الكلمات أمام عظمة المعلم، فهو معلّمي الأول في مراحل الدراسة الاعدادية ، وهو رفيق فكر ونبراس عطاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى