مقالات

على هامش الترجمة عامر السامرائي       –       ألمانيا

عامر السامرائي

تُعدُّ الترجمة من الأنشطة الإنسانية المهمة، فهي حلقة الوصل بين الثقافات والحضارات، وهي جسور معرفية مفيدة تربط بين القبائل والشعوب، ومن دونها لا يتم التواصل والتعارف ومن ثم التآلف بين الشعوب. وقد يظن بعض أنصاف المثقفين أن الترجمة إزجاء وقت أو ملء فراغ، وقد تتعدى ذلك لتكون ترفًا فكريًا أو في أحسن الحال متعة عقلية، ولكن ‌الترجمة الصحيحة عبء ثقيل مضنٍ يقتضي كثيرً ا من الجهد والتضحية، ينوء بحمله العُتُل من الرجال، فالترجمة تتطلب من المترجم علمًا وأدبًا، وإقصاء شديدًا للذات، وأن يكون أسيرًا طائعًا للمؤلف الذي يترجمه، ولكن هيهات..هيهات من يصبر على مثل هذا! وحريٌّ بالمترجم أن يكون ملمًا –أيضًا- بالعلم الذي ينقل عنه عاقلًا لمصطلحاته.

 ومهما يكن من تفريط عند المترجم، فإن مبدأ المحافظة على روح النص الأصلية من المهمات، والإبقاء على المعاني الحقيقية يجب أن يظل نصب عين المترجم على طول الترجمة، وحديثنا هذا عن ترجمة كتب النثر ، أما ترجمة الشعر فهي تستعصي على أفذاذ الرجال،لأن أقصى ما يستطيعه المترجم هو ترجمه المعنى الذي حواه الشعر ونقل ما فيه من تصوير وخيال لأن ‌الترجمة لا ترينا ما للشاعر من قدرة فنية على اختيار الألفاظ والأساليب، وأقصى ما يستطيعه المترجم أن يكون  أمينًا وبارعًا إذا هو نجح في نقل ذلك، أما طريقة الشاعر فلا يمكن ترجمتها. نعم، إن بعض الشعراء كأمثال أحمد رامي قد قرأ “الخيام”شعرًا، وفعلًا كانت له قدرة فنية على صوغها شعراً ، ولكن من وحي قراءته وفهمه، وقد يعزف مع الأول نغمًا واحدًا فيشاركه عذوبته ، ويقاسمه سلاسته، ويزاحمه شاعريته ولكن لن يكون عمله ترجمة على الإطلاق! وقد أكد على ما أسلفتا الإمام الكبير أبو عثمان الجاحظ حيث يرى  أن الترجمة تذهب بحسن الشعر وجماله ، لعجزها عن نقل عناصره الأسلوبية من وزن ، وقافية ، وجرس موسيقي ، وغير ذلك ، لذا فإن  ترجمة الشعر غير ممكنة0 أما مجالات الثقافة الأخرى  من فلسفة ، وهندسة ، وطب 00إلخ  ، فمن الممكن ترجمتها على الرغم من صعوبة النقل الكامل لخصائص النص الأصلي لعدم قدرة أي مترجم على بلوغ الكمال في عمله ، وعلى استيفاء الشروط الصعبة المتعددة المطلوبة في المترجم.

وقد يطيب لبعض الباحثين حينما يتكلمون عن الترجمة أن يبدءوا بالحديث عن حركة الترجمة العربية للتراث اليوناني ، وهذا جيد، والأجود منه أن نعرف هذه الحقيقة.. حقيقة أن الشرق كله حينما كان يسبح بنور العلم في بغداد والقاهرة ،كان الغرب كله يغرق في غياهب الجهل والتخلف، وكان حظه من الثقافة نزرً يسيرً، اقتصر على بعض المخطوطات الحبيسة في أدراج مظلمة في قلاع حصينة لا يطلع عليها إلا قلة من أصحابها الأمراء، أوشيء يردده الأحبار والرهبان يستطيلون به على العوام مخالف في أكثر للعلم والمنطق!

وتَقَضَّت السنون على ذلك، حتى أشرقت شمس الإسلام في إسبانيا، فأنارت حواضرهم، وأشعلت نواديهم، فلما تحقق القوم من نهضة بغداد والقاهرة وحواضر الإسلام الأخرى، وأمست قبلة النور ومنبع الحضارة استيقظ العلم في نفوسهم، وخفق في قلوبهم، فاستجابوا لدواعي ذلك كله، فشمروا عن ساق الجد، وجدوا واجتهدوا  في طلب العلم،  وضربوا أكباد الإبل بحثًا عنه، فما لبثوا أن وجدوه عند العرب والمسلمين فبادر  الأسقف “ريموند” في إنشاء أول مدرسة للترجمة في طليطلة سنة 1130م وأشرف عليها بنفسه، فنقل نفائس الأسفار وأعلاق الكتب العربية إلى اللاتينية،فَوَلَّدتْ حركةُ الترجمة تلك في أوروبا الخامدة شعورًا عنيفًا وروحًا جسورًا،تحرك لها المياه الراكدة، والأفكار السائدة.. واستمرت حركة الترجمة دائبة وقوية طوال القرون؛ الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر فأسفرت عن “ثلاثمائة كتاب” بحسب كتاب تاريخ الطب العربي” للدكتور “لكلارك”. وقد تركزت الترجمة على كتب النخبة من العلماء البارزين ك”الرازي” و”الزهراوي” “وابن رشد”” وابن سينا” وما نقل إلى العربية من كتب جالينوس وأبقراط وأفلاطون وأرسطو واقليدس… الخ.  وظلت كتب القوم منهاجًا لهم يتعلمون منها، وينهلون من معينها، وبقيت مِدراسَهم للتعليم في جامعات أوربا أكثر من خمسة قرون ، أما كتب ابن سينا في الطب فجعلوها محور دراستهم حتى القرن التاسع عشر ، وكان ابن رشد هو الفيلسوف الأول في جامعات فرنسا وإيطاليا منذ القرن الثالث عشر، وذكروا أن  لويس الحادي عشر فرض كتب ابن رشد وأرسطو الفلسفية في نظامهم التعليمي سنة 1473م. قال المؤرخ الإنجليزي “جورج ملر” في كتابه:” فلسفة التاريخ”: “إن مدارس العرب في إسبانيا كانت هي مصادر العلوم، وكان الطلاب الأوربيون يهرعون إليها من كل قطر يتلقون فيها العلوم الطبيعية والرياضية وما وراء الطبيعة”.

وكلام المؤرخ ملر على درجة عالية من الصحة ، فلولا ترجمة علوم العرب في الأندلس وصقلية والبندقية لما تسنى للأوروبيين أن يظفروا بكتاب من كتب اليونان ولا أثارة من علومهم أو علوم العرب.

يقول الفيلسوف رينان :” إن لجراند عالة في علمه على ابن سينا، وسان توما مدين بفلسفته لابن رشد”. أما شاعر إيطاليا الشهير”بترارك” فيقول :””ماذا! ماذا! أبعد ديموستين يستطيع شيشرون أن يكون خطيبًا، وبعد هوميروس يستطيع فرجيل أن يكون شاعرًا، وبعد العرب لا يستطع أحد أن يكتب”؟ وفي قوله هذا نعيٌ شديد على قومه، وحنق على تخلفهم في مضمار العلم وتأخرهم عن العرب في السباق الحضاري. وملر هذا من أعلام القرن الرابع عشر فشهادته هذه مكانها من الاستشهاد في المقام الأول.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. موضوع شيق وبحث ممتع ومقال مفيد جدا ومهم يحرك الماء الراكدة وفيه من الاشارات الكثير ومن النقاط الكثيرة التي أضاء عليها عامر السامرائي مغيبة عن عقولنا وعن كتاباتنا مع كامل الحب والتحية والاحترام لصفحات البعد المفتوح التي تضيء علما وادبا وثفافة ومعرفة وللكاتب الذكي عامر صاحب المقال المهم .هكذا هي الصحافة بحق .تحياتي .مهند الشريف

  2. تعليق على مقال الأخ عامر السامرائي: على هامش الترجمة
    أشكر للأخ عامر تناوله لهذه القضية، وتوضيح الدور الذي لعبته الترجمة في جعل التراث العلمي والأدبي والثقافي للشعوب المختلفة في متناول الآخر لينهل كل منها ما استطاع إليه سبيلا، ويثريه بما يجود به من عنده من إسهامات، للارتقاء بمستوى الأداء الفكري لبني البشر عامة. لقد أوضح الأخ عامر، مشكوراً، كيف استفاد العرب إبان نهضتهم العلمية والثقافية من إنتاج الفلاسفة والمفكرين الآخرين، وبالمقابل كيف أثرت إسهاماتهم العلمية في كافة مناحي المعرفة للارتقاء بالحصيلة المعرفية والفكرية للشعوب الأخرى. لقد أكد الأخ عامر على حقيقة أن الترجمة ليست ترفاً فكرياً أو متعةً عقلية؛ وهذا الأمر للأسف ما يجده المرء في إنتاج المترجمين العرب الحاليين، وبخاصة ترجمة الكتب العلمية، حتى أتت ترجماتهم مليئة بالأخطاء العلمية نتيجة لعدم تحري الدقة والموضوعية. لقد أتيحت الفرصة لي شخصياً للإطلاع على العديد من الكتب المترجمة في مجال علم الكيمياء، ولم أجد أن المترجمين لتلك الكتب قد تحروا الدقة في نقل المحتوى العلمي عن وعي بموضوعية ما ترجموه، فجاءت ترجماتهم مسيئة للعلم واللغة على حدٍ سواء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى