مقالات

أبو نواس..صفحات مطوية من حياته د أحمد الزبيدي      –       الإمارات

د. أمد الزبيدي

قبل الحديث عن أبي نواس وكشف المستور من حياته،نذكر معنى كنيته التي شغلت الناس قبل أن يشغلهم شعره ولهوه وعبثه. قال صاحب “خزانة الأدب” “1 /347 ” : “وَإِنَّمَا قيل لَهُ ‌أَبُو ‌نواس لذؤابتين كَانَتَا لَهُ تنوسان على عاتقة، والذؤابة: الضفيرة من الشّعْر إِذا كَانَت غير ملوية فَإِن كَانَت ملوية فَهِيَ عقيصة، والذؤابة أَيْضًا طرف الْعِمَامَة وناس ينوس إِذا تدلى وتحرك والعاتق مَا بَين الْمنْكب والعنق وَهُوَ مَوضِع الرِّدَاء.

يعدُّ أبو نواس من فحول شعراء العربية بلا منازع ، وهو صورة مشرقة في سجل الشعر العربي القديم بلا مدافع، عاش ومات ملء السمع والبصر ، وجودة شعره وعلو مرتبته اتفق عليها المحبون والمبغضون جميعًا من النقاد والمحققين ذوي البصر؛ فشعره كله أو جله يدور بين الجد والهزل، وزهده ومجونه ظاهران في شعره!.سُئل البحتريُّ: أمسلم أشعر أم ‌أبو ‌نواس؟ فقال: بل ‌أبو ‌نواس، وعلل ذلك بقوله :”لأنه يتصرف في كل طريق، ويبرع في كل مذهب: إن شاء جد، وإن شاء هزل، وهذا ليس غريبًا، فقد عرف النقاد منه ذلك ، أما أنصاف متعلمي ومثقفي اليوم فلم يروا منه       “الحسن ابن هانيء” إلا في جانب اللهو والعبث،ولم يحفظوا من شعره إلا شعره في الخمريات، على أنني ليس من غايتي -في هذا المقال- تحقيق القول  في شاعرية أبي نواس، والكلام في جده وهزله، فهذا مما يعرفه سواد الناس،والكتب بحمد الله مطبوعة ومنشورة، لكن الذي يعنيني هنا هو إظهار ما خفي من شخصيته، فوراء شاعريته؛جد كثير وعلم كبير، وحسبك أن إمامين كبيرين كابن السكيت وابن جني تتلمذا عليه !

وابن السكيت إمام  لغوي كبير، وهو من أعلام الأدب، وصاحب الكتاب المشهور ” إصلاح المنطق – ” قال المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابًا أحسن منه، وله كتاب في “تفسير شعر أبي نواس” نحو ثمانمائة ورقة. أما ابن جني فيلسوف النحو، وعبقري اللغة، فحسبه أن منزلته من المتنبي منزلة التلميذ والصديق الشارح لديوانه، وكان المتنبي يقول: ابن جنّي أعرف بشعري. مني”.وقد أورد ذكر أبي نواس في عدد من كتبه : “المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها“، و”الخصائص”، و”سر صناعة الإعراب”، ولم أر له ذكرًا في كتب ابن السكيت ولا في كتب القراءات، فكأنما تحاشوه ذكره لإكثاره ذكر الخمر ومعاقرته لها.

كان أبو نواس عالمًا فقيهًا، متكلمًا جدلًا، راوية فحلًا، رقيق الطبع، ثابت الفهم، عارفًا بالأحكام ، بصيرًا بالاختلاف، صاحب حفظ ومعرفة بطرق الحديث، يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه، محكمه ومتشابهه، وقد تأدبّ بالبصرة، وهي يومئذٍ أكثر بلاد الله علمًا وفقهًا وأدبًا، وكان أحفظ لأشعار القدماء والمخضرمين وأوائل الإسلاميين والمحدثين. عن أبي نواس أنه قال: ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنكم بالرجال؟ قال ‌أبو ‌نواس: “أحفظ سبعمائة أرجوزة، وهي عزيزة في أيدي الناس”. ومن يصدق من شبابنا المهتمين بالقراءات أن أبا نواس قرأ القرآن الكريم على أحد أبرز القراء العشرة ” يعقوب بن إسحاق الحضرمي” وقد أجازه يعقوب وشهد له بأنه أقرأ أهل البصرة!. ومن يؤمن بأنه “النواسي” كتب الحديث عن جهابذة الحفاظ في علم الحديث مثل يحيى القطان. أما اللغة اللغة والغريب والأدب فقد درسها على شيخ سيبويه أبي زيد الأنصاري ، ونظر في كتاب سيبويه، وأخذ عن خلف الأحمر معاني الشعر، وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى أخبار العرب وأيام الناس، وحفظ وحصل كثيراً. وقد وصفه الجاحظ –”الحيوان 2/ 27 بالعالم الراوية، وحكى ابن المعتز في طبقات الشعراء ص 201، قال: «كان أبو نواس عالمًا فقيهاً، عارفاً بالأحكام والفتيا،.. “.وقال ابن منظور في “مختار الأغاني” 3/ 17: «كان أبو نواس متكلمًا جدلًا، راوية فحلاً، ..». قال البغدادي في “خزانة الأدب “1 / 348” :”قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: “‌أَبُو ‌نواس للمحَدثين مثل امْرِئ الْقَيْس للْمُتَقَدِّمين وشعره عشرَة أَنْوَاع، وَهُوَ مجيد فِي الْكل، وَمَا زَالَ الْعلمَاء والأشراف يروون شعره ويتفكهون بِهِ ويفضلونه على أشعار القدماء”، وَقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ:” لَوْلَا أَن أَبَا نواس أفسد بِهَذِهِ الأقذار يَعْنِي الْخُمُور لَا حتججنا بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُحكم القَوْل لَا يُخطئ”. وديوان شعره مُخْتَلف لاخْتِلَاف جامعيه فَإِنَّهُ أعتنى بجمعه جمَاعَة مِنْهُم أَبُو بكر الصولي وَهُوَ صَغِير وَمِنْهُم عَليّ بن حَمْزَة الْأَصْبَهَانِيّ وَهُوَ كَبِير جدا وَكِلَاهُمَا عِنْدِي وَللَّه الْحَمد على نعْمَة. قال عنه الجاحظ: ما رأيت رجلًا أعلم باللغة ولا أفصح لهجة من أبي نواس، وقال عنه الإمام الشافعي رضي الله عنه: لولا مجون أبي نواس لأخذت عنه العلم، توفي سنة 198هـ.

قال الرياشي: وجدت تحت الفراش الذي مات عليه ‌أبو ‌نواس رقعة مكتوب فيها هذه الأبيات:

يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة      فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن         فبمن يلوذ ويستجير المجرم

أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعا            فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم؟

مالي إليك وسيلة إلا الرجا           وجميل عفوك ثم أنّي مسلم

وقال أيضًا :

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل   خلوت، ولكن قل عليّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة            ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب

رحم الله أبا نواس،وكم في الناس مثله علم عظم عفو الله

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫10 تعليقات

  1. جزاك الله خيرا ….ابو نواس شاعر اشكالي راى المنكر فاتعظ وحسن علمه وظنه بالله .د.احمد الزبيدي دوما يطلعنا على ما خفي عنا فيفتح نوافذ العلم وابواب المعرفة .الله يعطيك العافية ايها النافذ في المستور .مع كامل محبتي واحترامي وتقديري.مهند الشريف

  2. حفظك دكتورنا الحبيب على مقالاتك النفيسة، المتنوعة بالادب وفنونه، والفلسفة بمناهجها والعقيدة ومفاهيمها، وكذلك مقالات الفقه واصوله، سلمت ودمت على اعمالك الموسوعية المتميزة التي تغني القراء الرجوع الى الكثير من المراجع وتوفر الجهد والوقت لطلاب العلم، واكثر ما تميزت به في مقالاتك، في ازالة الشبهات عن كثير من المفكرين والادباء والشعراء، والتي قام البعض من الكتاب بوسم هؤلاء العمالقة بشبهات بعيدة كل البعد عن حقيقتهم، امثال ابن رشد والغزالي والمتنبي وابو نواس ” الحسن بن هانيء” رحمه الله الذي عرف لدى انصاف الكتاب بمجونه، ولم يذكروا الجانب المضيء من تاريخه وثقفاته وعلمه الغزير وحفظه للقران الكريم وتميزه بصوته الجميل في تلاوة القران وتميزه على الكثير من علماء البصرة بالفقه واللغة والادب والنحو. حفظك الله دكتورنا الحبيب على كل ما تفضلت به علينا في مقالاتك التي اقرب ما تكون الى البحوث، جزاك الله الخير كله وفتح عليك ابواب علمه وخيره.

  3. رحم الله أبا نواس ورحم كل شعرائنا وأدبائنا وعلمائنا..
    ورحم الله هذه الأمة العظيمة وأخذ بأيديها إلى المجد والسؤدد
    و تحية إلى كاتب هذا المقال الذي كشف لنا جوانب وصفحات كانت مطوية ومخفية في حياة شاعر كبير..

    1. رحم الله أبا نواس شاعر رائع بمعنى الكلمة، وحفظ الله الدكتور احمد الزبيدي. فكلمات الثّناء لا توفيك حقك، تسلم يداك واناملك يا دكتور على هذا المقال الجميل.

  4. حقا أخي محمود من سلفيت/ فلسطين/ إن الدكتور أحمد- حفظه الله- يفتح كل مغلق، ويكشف كل مستور، وينشر كل قابع في ظلمات الجهل والنسيان، ويزيح الغبار ..لتخرج صور علمائنا وأدبائنا وشعرائنا في أبهى صورة، وأجمل تصوير…
    يفعل ذلك الدكتور أحمد ابن هذا التراث الأصيل في وقت يتطاول فيه كل الأقزام والزعانف على التراث وعلى قاماتنا العلمية والأدبية!!

  5. السلام عليكم,
    الحمدلله أنه يوجد من يحق الحق ويبطل الباطل
    لم أسمع في عصرنا هذا من أنصف الشاعر أبا نواس أو تكلم عنه بهذا الشكل
    لذلك شكرا لك يا دكتور على الأفاده وهذا ما عودتنا عليه دائما.

  6. أخي الفاضل د أحمد..
    بوركت على هذا المقال الرائع، غير أن عندي استفسارا أود أن أتقدم به إلى فضيلتكم.
    جاء في مقالكم الرائع أن أبا نواس كان من أشهر قراء البصرة وذلك بشهادة الحضرمي- أستاذه-فإذا صح ذلك فلم لا يذكر في كتب القراءات؟!

    1. أخي طالب العلم:
      ابتداء أشكر لك الله سبحانه أن جعلك من القراء ومن طلاب العلم الذي يقرؤون ويدققون ويحققون..في زمان ترك الناس فيها القراءة وانصرفوا عنها إلى بنيات الطريق، ومضلات السبيل، لذا أقول لك إذا عرفت فالزم..
      أما بالنسبة لسؤالك الجميل فالجواب هو الآتي:
      لا شك أن أبا نواس كان من عمالقة الفكر والثقافة في تراثنا العربي، وكان ذا رأي وعلم، غير أن القراء والمحدثين والمفسرين غيرة لكتاب الله وحمية لدينه كانوا يتحاشون إدراج” النواسي” ضمنهم وفي طائفتهم من غير نكران لفضله ولا نسيان لعلمه، ولا غمطا لحقه، وقد مر معك شهادة الشافعي له، وحسبك وحسبنا هذا.

  7. أباا نواس شاعر رائع 🌷🌷
    سلمت يمناك دكتور أحمد ودمت متألقاا كالعادة باانتقاائك مواضيعك الجذابة وسردك الممتع للمقال🙂🙂

  8. جميل مقالك أخي د. أحمد لأني أحب هذا الشاعر أولا ولأن بعض المساجد في الشام يذكّرون قبل أذان الفجر ب (مالي سواك وسيلة إلا الرجا) وغيره من زهدياته الأخيرة دون أن يعرفوا القائل
    ولروايته هذا الحديث شعرا:
    ولقد كنا روينا
    عن سعيدٍ عن قَتادهْ
    عن سعيد بن المسيب
    أن سعد بن عبادهْ
    قال من مات محباً
    فله أجرُ شهادهْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى