مقالات

تأملات  (3)            د. داود سليمان      –      النمسا

د. داود سليمان

لماذا تعددت الآيات في الحديث عن الإنسان، كمثال لخَلق الكائنات الحَيَّة، كما أوردناها في الحلقة السابقة؟

ذكرنا في الحلقة السابقة المراحل التي مّرَ بها خليط المُرَكَّبات الكيميائية التي نشأت في جوف الغيوم الركامية نتيجة تعرض مجموعة الغازات البركانية لتأثير موجات البرق، وجلبتها الأمطار المنهمرة من تلك الغيوم على سطح الأرض. لقد تمثلت تلك المراحل، بمرحلة التراب، التي تلتها مرحلة الطين، فمرحلة الطين اللازب، فمرحلة الحمأ المسنون، وانتهاء بمرحلة الصلصال الذي كالفخار، وللتذكير مرة أخرى فإن مرحلة التراب ذكرت في ثلاث آيات؛ ومرحلة الطين ذكرت في ست آيات، ثم جاء تفصيل هذه المرحلة على النحو التالي:-

* مرحلة الطين اللازب التي جاء ذكرها في آية واحدة ؛

** مرحلة الحمأ المسنون التي جاء ذكرها في آيتين

* مرحلة الصلصال، التي جاء ذكرها في آيتين (٢)

وتجدر الملاحظة إلى أن الآية: “وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِءَادَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبْلِيسَ قَالَ: ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا” (الإسراء: ٦١)”، رغم أنها تشير إلى أن عملية خلق الكائنات الحية في مرحلة “الخلق من طين” إلا أن صياغتها ” ….. لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا”، قد جاءت بصورة فريدة عن صياغة الآيات الأخرى. فإلى ماذا تشير، أو بماذا توحي هذه الصياغة؟

الإجابة على هذه التساؤلات تقودنا إلى استحضار الآيات التي ذُكرت فيها معجزات الخلق التي أجراها الله سبحانه وتعالى على يد نبيه ورسوله عيسى بن مريم، عليهما السلام:-

إ”ِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا، وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي، وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي، وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي، وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ” (المائدة: ١١٠).

ماذا نستنتج من هذه الآية الكريمة، في ما يتصل بعملية الخلق؟

إن نبي الله عيسى عليه السلام، لم يبدأ عملية الخلق من العناصر الأولية الابتدائية البسيطة، بل إنه استخدم قطعة من الطين كممثل للجسم المادي مكتمل المكونات البنائية للكائن، ولم يَقُم سيدنا عيسى عليه السلام بعملية تجميع العناصر البنائية تلك من مختلف أنواع الطين الموجودة على سطح كوكب الأرض، بل إنه تناول قطعة من الطين من منطقة الأرض الطينية بقربه، التي كانت في متناول يديه؛ في تلك القطعة من الطين التي أخذها سيدنا عيسى عليه السلام، أوجد الله سبحانه وتعالى كافة أجهزة جسم الكائن المادي الذي نفخ فيه الله الروح، فحوله لكائن حي.

ونُذَكِّر كذلك بالآيات التي استجاب الله سبحانه وتعالى بها، لطلب نبيه ورسوله الكريم سيدنا إبراهيم الخليل، عليه السلام لسؤاله الله ربه، أن يريه كيف يحي الموتى:-

“وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ، قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن، قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (البقرة: ٢٦٠). فالأجزاء التي قُطِّعت إليها الطيور، كانت عبارة عن أجسام مكتملة البناء المادي الذي بإمكانه الاستجابة لتلبية دعوة سيدنا إبراهيم الخليل، إذ يدعوها للعودة للحياة بإرادة الله ووفق مشيئته.

نستنتج من هاتين الآيتين (المائدة: ١١٠)، و (البقرة: ٢٦٠) أن بناء الجسم المادي الذي يستجيب لأمر الله، الخالق سبحانه وتعالى، يجب أن يحتوي كافة المركبات الكيميائية الحيوية التي تمكنه من الاستجابة لمتطلبات البقاء حياً، وذلك بأداء أعضائه لكافة العمليات الحيوية المطلوبة منها.

هنا يجب على المرء معرفة أن أدوات/ أجهزة الأجسام المادية المطالبة بأداء العمليات الحيوية للكائنات الحية، للإبقاء على الجسم المادي حياً، وقادراً على ممارسة العمليات الحيوية، ليست متماثلة في كافة الأحياء. هذه الحقيقة تقودنا إلى فهم حقيقة وجود مملكة نباتية متعددة الأنواع، بعضها يعيش في بيئة التجمعات المائية، والآخر يعيش في بيئة الأجواء المعتدلة، والمناطق الثلجية، وكذلك الأمر بالنسبة للمملكة الحيوانية، والطيور متعددة الأنواع؛ ولكل فئة من فئات الأحياء على سطح كوكب الأرض بناء جسدي مادي يمكنها من التَّكَيُّف مع الظروف البيئية الموجود في وسطها. على أن أبسط الكائنات الحية بناءً/تركيباً مادياً، هي الكائنات وحيدة الخلية، والبكتيريا، والفيروسات، والطفيليات. وموضوعياً فالمُتَوَقَّع أن تكون تلك الكائنات بسيطة البناء الجسماني هي أول (أو بداية) ما ظهر من الأحياء على ظهر كوكب الأرض.

وهنا يجب على المرء المتأمل في ما توجه إليه وترشد به الآيات القرآنية إدراك: لماذا ذُكرت عملية الخلق من الطين في خمس آيات، جرى تفصيلها في الحالات التي أشرنا إليها سابقاً؟

إن تكرار عملية الخلق من الطين بحالاته المتعددة لم ينتبه لأهمية هذا التعدد لحالات وجود الطين التي جاءت كأوساط لعملية خلق الإنسان كمثال لخلق الكائنات الحية، العديد من مفسري آيات الذكر الحكيم؛ ولذلك فإن الإجابة العلمية الموضوعية على هذا التساؤل لا يجدها المرء في العديد من التفاسير المتاحة، سواءً أكانت لعلماء أفاضل من الأجيال السابقة، أم من الحاليين؛ وهذا ما سنحاول الإجابة عليه بإذن الله. إن أهمية تَوَجُّه المرء للتَّفَكُّر في ما يرُشد إليه، ويُوجه به تكرار عملية الخلق من حالات الطين (الطين الابتدائي الذي ينتج عن امتزاج التراب بالماء) في خمس آيات؛ تقوده بدايةً إلى طرح السؤال: لماذا لم يقتصر ذكر (عملية الخلق من الطين) على آية أو آيتين؟ ليستنتج أن في ذلك يكمن أمرٌ مهمٌ عن مجريات عملية الخلق، فما هو ذلك الأمر؟

للإجابة على هذا السؤال، وأسئلة أخرى قد يطرحها المرء بهذا الشأن، لا بد من القول بداية إن هناك أحياء قد جَرَت عملية خَلقها من الطين أثناء حالة وجوده البسيطة؛ وهناك أحياءٌ جَرَت عملية خَلقها من الطين أثناء حالة وجوده كطين لازب؛ وهناك أحياءٌ جَرَت عملية خَلقها من طين أثناء حالة وجوده كالحمأ المسنون، وأحياءٌ أخرى جَرَت عملية خَلقها من طين أثناء حالة وجوده كالصلصال الذي كالفخار. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى ما يعنيه تسلسل حالات الطين بالنسبة لمحتواه المائي الذي يؤثر في نوعية بناء المركبات الكيميائية بجوف كل حالة منها، باتجاه تجهيزها لبناء الأجسام المادية للكائنات:-

فمرحلة الطين العادي، يتم أثناءها تجميع المركبات الكيميائية البسيطة التي سوف تتفاعل مع بعضها الآخر في المراحل المتعاقبة لحالات الطين لإنتاج مركبات أكثر تعقيداً، باتجاه إيجاد المواد اللازمة لتكوين الأجسام المادية لبعض أنواع الأحياء؛ ونعتقد بأن الأحياء بسيطة التركيب المادي الجسماني قد نشأت أثناء هذه المرحلة. أما مرحلة الطين اللازب، فتنشأ نتيجة فقدان الطين العادي لكمية معقولة من محتواه المائي، الأمر الذي تحتاجه عملية التفاعل بين محتوياته من المواد التي لا تتطلب ظروف تفاعل قاسية، وأثناء هذه المرحلة لا بد من أن بعض الأنواع البدائية من الأحياء ذات البناء المادي الجسماني المعقد نوعاً ما قد خلقت؛ وتلي ذلك مرحلة الحمأ المسنون التي تنشأ نتيجة استمرار فقدان المحتوى المائي للطين لتهيئة الظروف لنشأة أحياء أكثر تعقيداً جسمانياً من تلك الأحياء التي نشأت في مرحلة الطين اللازب، وصولاً إلى مرحلة الصلصال الذي كالفخار، حيث يصل المحتوى المائي للطين إلى أقل كمية ممكنة، التي يتطلبها إحداث أعقد التفاعلات الكيميائية لبناء أكثر المواد تعقيداً اللازمة لبناء الأجسام المادية للكائنات التي ستشكل أعلى مرتبة في تسلسل عملية الخلق. ولذلك، في اعتقادنا أن كل مرحلة من مراحل حالة الطين تُعَبِّر عن بداية استجابة الأجسام المادية التي نشأت من تجمع المكونات الكيميائية العضوية الحيوية بداخلها، في إطار ما يُعرف بالخلايا الحيوية الأولية، لنفخ الروح فيها من الله الخالق سبحانه وتعالى، ووفق مشيئته، أثناء اختبائها في جوف الفجوات البنائية لمادة الطين، التي يمكن اعتبارها بمثابة حاضنات للخلايا أو النُّطف التي ستنفخ فيها الروح من الله الخالق سبحانه وتعالى، لتتحول تلك النُّطَف البدائية، في ما بعد، أحياءً بإمكانها ممارسة العمليات الحيوية التي تُمكنها من التفاعل بإيجابية للمؤثرات البيئية التي تتعرض لها في الأوساط البيئية المختلفة.

في اعتقادنا أن الفجوات البنائية لمادة الطين في حالات وجوده المختلفة، المشار إليها في الآيات السابقة، قد كانت بمثابة المكان الآمن لنُطَف الخلايا الأولية للكائنات الحيوية التي ستتحول في ما بعد خروجها إلى المحيط المائي، نُطفاً لكافة الأحياء على سطح كوكب الأرض، عندما يَنْفُخُ فيها خالقها، الله سبحانه وتعالى، الروح من أمره؛ وداخل المحيط المائي لتلك النُّطَف يتم حمايتها من تأثير الأشعة فوق البنفسجية في طيف الأشعه الشمسية، الأمر الذي يؤدي بنا إلى اعتبار الوسط المائي لتلك النُّطَف بمثابة الرَّحم لها الذي يهيئ لها إمكانية الوقاية من الآثار الخارجية الضارة، ويتيح لها الحصول على احتياجاتها من الغذاء؛ تماماً كما رَحْم الأم الذي يحتضن الجنين بداخله، ليقيه من العوامل الخارجية التي قد تضر به، ويهيئ له سبل الحصول على احتياجاته من الغذاء وعوامل الحياة الأخرى. وبهذا التصور لحماية النُّطَف الكيميائية الحيوية للكائنات، إلى أن تُنفخ فيها الروح من أمر الله، يمكننا فهم دلالة توجيهات الآية القرآنية الكريمة: “مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ، وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ، وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ” (طه: ٥٥)”، وإرشاداتها ذات الصلة بعملية الخَلق من الأرض.

وفي هذا السياق، فإن عبارة “القَرَار المَكِين” الذي وردت في الآية (١٣) في سياق الآيات (١٢ إلى ١٤) من سورة المؤمنون:-

* وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (المؤمنون: ١٢)؛

** ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (المؤمنون: ١٣)؛

* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا، فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون: ١٤)”؛ تلك الفقرة تُعَبِّر أصدق تعبير عن الأماكن التي اختبأت فيها نطفة خلق الإنسان، باعتباره مثالاً للكائنات الحية التي تضمها المملكة الحيوانية، ومملكة الطيور؛ وليس كما فهمها مفسروا آيات الذكر الحكيم الأقدمون والحديثون على أنها رحم الأم البشرية.

وتجدر الإشارة، في هذا السياق أيضاً، إلى أهمية التأمل في ما توجه إليه وترشد به الفقرة: ” ….. ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ …..  (الآية: ١٤) من سورة “المؤمنون” فبماذا توجه، وبماذا ترشد هذه الفقرة من الآية الكريمة، بالنسبة لعملية خلق الكائنات الحية على سطح كوكب الأرض؟ هذا ما سنحاول استشرافه في الحلقة القادمة بإذن الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. موضوع شيق وبحث جديد في نشاة الحياة الإنسانية والحيوانية والكائنات جديد واطروحة علمية وسبق في علم الأحياء والوجود ارجو ان يقدم لكبريات الجامعات لانه بحث جديد ومهم واساس وبالتأكيد فان العلماء في العالم سيشنكون اذانهم له وياخذوه بمثابة نظرية أساس في علوم الأحياء والله يا دكتور على ما اقول شهيد .جزاك الله كل الخير والتوفيق والسداد فيما تذهب اليه د.داود وكل المحبة والاحترام والتقدير والشكر لك تحياتي .مهند الشريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى