د. أحمد الزبيدي
من العبارات التي دبت – قديمًا- دَبِيب النَّار فِي الهشيم، وسرت سري النَّغَل فِي الأديم عبارة :”وراء كل شاعرٍ عبقريٍّ شيطان يُلهمه”.ومنذ ذلك الحين، والعبارة تلوكها الألسنة، وتنضح بها الأقلام ، والعربُ تنسب كل عجيب إلى وادي الجن والهُيام، ويكنّون عنه بِعَبْقَرَ! ولما غُلبت قريش أمام بلاغة القرآن فزعوا إلى قولهم إنما تنزَّلت به الشياطين ، ولهذا تحداهم و الشياطين!. وقد استعمل الوحي لفظة “عبقري” في قوله :” مُتَّكِـِٔينَ عَلَىٰ رَفرَفٍ خُضر وَعَبقَرِيٍّ حِسَان” ٧٦ [الرحمن: 76] والعَبْقَرِيّ: الطنافس الثِخان واحدها عبقرية. وقال الراغب: عَبْقَرٌ : هو موضعٌ للجنّ، ينسب إليه كلّ نادر من إنسان، وحيوان، وثوب. وفِي الحديث : “فَلَمْ أرَ عَبْقَرِياً يَفْرِي فَرِيَّه”. قَالَ الْأَصْمَعِي: سَأَلتُ أَبَا عَمْرو بْن الْعَلَاء عَن العبقري، فَقَالَ : “هَذَا عبقري قوم، كَقَوْلِك: هَذَا سيد قوم وَكَبِيرهمْ. وعن ابن عباس :”: إنّ الجنيّ إذا كفر وظلم وتعدّى وأفسد، قيل شيطان؛ وإن قوي على البنيان والحمل الثقيل، وعلى استراق السمع قيل مارد، فإن زاد فهو عفريت، فإن زاد فهو عبقريّ.
وفي الشعر العربي القديم قول طرفة:
مَن عائِدي اللَّيلَةَ أم مَن نَصيحْ … بِتُّ بِنَصْبٍ، فَفُؤادي قَريحْ
عالَينَ رَقماً، فاخراً لَونُهُ … منْ عَبْقَرِيٍّ، كَنَجيعِ الذّبيحْ
وفي “اللسان” :” هُوَ أَبْردُ مِنْ عَبَقُرٍّ، ويَرْوِيهِ أبو عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ أَبرد مِنْ عَبِّ قُرٍ؛ والعَبُّ اسْمٌ للبَرَد الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ المُزْن، وَهُوَ حَبُّ الغَمام، فَالْعَيْنُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْحَاءِ. والقُرُّ: البَردُ؛ وأَنشد:
كأَنَّ فَاهَا عَبُّ قُرٍ باردٌ، … أَو ريحُ مِسْكٍ مَسَّه تَنْضاحُ رِكْ
ولقد حدَّثنا الرواة عن شياطين الشعراء، بل إن الشعراء أنفسهم قد حدثونا عن أسماء شياطينهم، “فلاحظ بن لاحظ” شيطان امرئ القيس ، و”أبو مسحل” شيطان الأعشى، و”هبيد” شيطان عبيد بن الأبرص، “وهارد” شيطان النابغة. أما حسان بن ثابت رضي الله عنه فشيطانه من بني الشيصبان وهي قبيلة من الجن.
قال حسان –رحمه الله- :
ولي صاحب من بني الشَّيْصَبان
فطوراً أقول وطوراً هُوَه
واستُظْرِفَ قول أبي المنجم الرجاز :
إني وكل شاعر من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
ويتساءل المرء عن السبب الذي يحمل الشاعر على الظن بأن منزلته لا تعلو ولا تعظم إلا إذا زعم أن الجن توحي إليه! لذا تراه يزور - عبقر- كي يستمع إليهم. قال الأعشى في قرينه (مسحل).
وما كنت شحذوذا ولكن حسبتني
إذا مسحل يسدي لي القول أعلق
شريكان في ما بيننا من هوادة
صفيان، إنسي وجن موفق
وكتب الأدب مشحونة بمثل هذا، وأكثر ما يظهر في أشعار العرب، ومن ذلك ما زعمه ابن المرزوي- “جمهرة أشعار العرب” ص 47 – عن أبيه أنه مر على جماعة ظباء في سفح جبل، فرأى شبحاً ذا منظر غريب فارتاع منه، فقال له: اذكر الله ولا تخف، ثم سأله: أتروي من أشعار العرب شيئاً؟ فقال المرزوي: نعم وأخذ يروي له شعر عَبيد بن الأبرص!؟ فسأله الشيخ من قائل هذا الشعر؟؟ فقال: عبيد، فتهافت وقال: ومن عبيد، لولا صاحبه هَبيد!
وسرعان ما شاعت هذه الخرافات، فصور كل شاعر شيطانه بنفسه.ولم تقتصر خرافة الجن على موضوع الأدب، بل تعدته إلى الحماسة والشجاعة والقتال!فهذا تأبط شراً، وكان يزعم مفتخرا أنه لقي الغول، قال:
ونار تنورتها موهناً … فبت لها مدبراً مقبلا
فأصبحت والغول لي جارة … فيا جارتا لك ما أغولا
فطالبتها بضعها فانثنت … بوجهٍ تلون فاستغولا
ابن الأعرابيّ: إنّما سمّي تأبّط شرّا لأنّه لقي الغول التي تزعم العرب، فقتلها وقطع رأسها ورجع إلى أهله متأبّطا بذلك.
وقد ظل الناس يتمرغون في أوحال الخرافة والأساطير حتى جاء الإسلام ونزل النور المبين، فبدد تلك الشبهات، وكَنس تلك التُّرَّهاتُ، وأنار البصر في الشدائد المدلهمات ،فوهب المسلم عقلا ثاقبا وأخبرنا عن سلح الجن في الوسوسة وتزيين الباطل. قال تعالى : “مِن شَرِّ ٱلوَسوَاسِ ٱلخَنَّاسِ، ٱلَّذِي يُوَسوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ ، مِنَ ٱلجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ” ٦ ، وقال “إِنَّهُۥ يَرَىٰكُم هُوَ وَقَبِيلُهُۥ مِن حَيثُ لَا تَرَونَهُم”. عن الربيع بن سليمان سمعت الشَّافِعِي رحمه الله يقول:” من زعم – من أهل العدالة – أنه يرى
الجن، أبطلتُ شهادته، لأن اللَّه – عز وجل يقول :
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ..” الآية، إلا أن يكون نبياً “
وقد جاء على لسان الشيطان نفسه، وَقَالَ ٱلشَّيطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمرُ “إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُم وَعدَ ٱلحَقِّ وَوَعَدتُّكُم فَأَخلَفتُكُم وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُم مِّن سُلطَٰنٍ إِلَّا أَن دَعَوتُكُم فَٱستَجَبتُم لِي” إبراهيم /258 .” قَالَ رَبِّ بِمَا أَغوَيتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُم فِي ٱلأَرضِ وَلَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ ٣٩ إِلَّا عِبَادَكَ مِنهُمُ ٱلمُخلَصِينَ” ٤٠ ﵞ الأعراف / 20
فليس للجن مع الإنسان شيء وراء الدعوة والوعد الوعيد، والوسوسة والإغراء والتزيين والتأكيد!وقد جاء القرآن بكل ما ذكرنا، أما الذين يتأثرون بوسوسة الجن وإغوائهم إنما هم فقط “ضِعاف العقول والإيمان”و أما أقوياؤهم فهم بعيدون عن ذلك كله، وقد استثناهم الحق سبحانه وتعالى بقوله:“إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلغَاوِينَ” ٤٢ الحجر / 42 .
زر الذهاب إلى الأعلى
مبدع يا دكتور سلمت يداك
تحياتي وحبي واحترامي د احمد موضوع جميل والتكنولوجيا اليوم وما شات جي بي تي الأ جن من عبقر (بالطبع على سبيل المداعبة ) اما هو علميا في كل النواحي فيقدم شيئا متطورا عن العقل الانساني وفي هذا السياق نضعه ضمن اطار الابداع وكل تميز هو تطور وتقدم ينسب لعالم اخر مع كل المحبة والاحترام تحياتي. مهند الشريف
صديقي الدكتور أحمد
ما يميز مقالاتك؛ أنها جولة ترفيهية ممتعة في رياض الأدب والشعر والسحر، وفيها ما هو معجب ومفيد من الدرر اللغوية والأدبية والفقهية والتفسيرية، وفوق ذلك تصحيح مفاهيم خاطئة، كل ذلك بأسلوب جميل سلس، وكأني بك تريد الفائدة للقاريء فقط، وعندكم في فلسطين الحبيبة:” كُلْ العنب ولا تقاتل الناطور” لأن المقصد هو العنب والعنب فقط..
فأنت يستغرقك المقال أياما تفتش وتنقب وتبحث في عشرات الكتب لتتحفنا بكل ما قيل فيه ونقطف الثمر في دقائق فلله درك ولله در قلمك، وبارك الله في علمك وأدبك وكثر الله من أمثالك، فكثير مما يكتب اليوم لا يستحق وقت قراءته!!
نشكر لك ما تناولته من مواضيع وكالعادة تضعنا في بداية الطريق
فأنا شخصيا ما سمعت سابقا عن وادي عبقر
وما رويته كان عبقريا 🙂
وكذلك ما تناولته عن موضوع عدم اختلاط عالم الانس والجن
فهذا الجدل القديم الجديد المستمر عبارة عن مستنقع يغرق به الجهلة وضعفاء النفوس
فبارك الله فيك علي التوضيح والتبيان
أخي الدكتور أحمد كنت أحب أعبر عن حبي واعجابي بمقالاتك لكن يمكن ليس عندي قدرة الكتاب مثل الاخ د عبدالله من الامارات، ولاختصار الذي أريد أن أكتبه هو الذي تفضل به د عبدالله
وشكرا الك وربي يعطيك الصحة والعافية
ماشاء لله .. تسلم يداك دكتور أحمد .
اللهم اعز الاسلام والمسلمين ..
لعلّ بعضنا يودّ لو كان عبقريّاً أو يحسد العباقرة على صحبتهم الجنّ، غير أنّ للشّاعر المجلّي أحمد الصّافي النّجفيّ رأياً آخر إذ يقول:
يهنّئني بالعبقريّة صاحبي
ولو كان عزّاني لكان مصيبا
فما العبقريُّ الفذُّ لو يفهمونه
سوى عائشٍ طول الحياة غريبا
اختيار موفّق. سلم يراعك د. أحمد.
الأخ الحبيب د. أحمد
إبداع عبقري إلى إبداعاتك الفريدة
من يقرأ المقال يشعر حقيقة أنه يتجول في وادي عبقر، وقد يمر بأولئك القوم ليقضي معهم وقتاً ظريفا ًوطريفاً ثم يستيقظ في نهاية المشوار بتلاوة آيات الواحد القهار
لا يزال الكثيرون مخلفين في وادي عبقر
دعهم وما يوسوسون
نعوذ بالله من الوسواس الخناس
تحياتي
والله أنك لرائع حقا، فعلى الرغم من عملي عشرين عامآ في الإعلام لكني والله والله لم أقرأ بمثل بلاغتك واستحضارك للكلمة الأنسب معنىً ونطقآ وحروفآ وسجعآ.
بوركت من مفكر وأديب وكاتب وناقد وصحفي ودكتور❤️❤️❤️
كل المودة من أحد تلاميذك المحبيين
يسعد اوقاتك دكتور
سلمك يداك وعيناك مقاال أكثر من رائع
شكراا لك
الأخ الحبيب د. أحمد
إبداع عبقري إلى إبداعاتك الفريدة
من يقرأ المقال يشعر حقيقة أنه يتجول في وادي عبقر، وقد يمر بأولئك القوم ليقضي معهم وقتاً ظريفا ًوطريفاً ثم يستقيظ في نهاية المشوار بتلاوة آيات الواحد القهار
لا يزال الكثيرون مخلفين في وادي عبقر
دعهم وما يوسوسون
نعوذ بالله من الوسواس الخناس
تحياتي