مقالات

“أليس الصبح بقريب” موضوعية وثقافة موسوعية د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

فطِنَ الشيخ الإمام الطاهر بن عاشور مبكراً لخطورة التعليم والثقافة وأهميتهما في نهضة الأمم وارتقائها، وسبقها وسباقها، وقد تنبه لذلك ولماّ يتجاوز عمره ْخَمْسَة وَعشْرين عامًا ؛ حين كان إمامًا وشيخًا لجامعة الزيتونة، والزيتونة- لمن لا يعرفها– من أقدم الجامعات التعليمية وأعرقها وأكثرها تأثيرًا في بلادنا العربية والإسلامية على حد سواء، فقد أنشأت عام (737م) إبان حكم الأمير ابن “الحبحاب” لتكون مركزًا للدراسات الشرعية واللغوية والأدبية. أما حال التعليم في ذلك الزمان، فقد كان مَرْثُوءًا مَوْثُوءًا –ضعيفاً-  ومتردياً ومتهالكاً، بلغ من الضعف أبلغه، ومن الجمود أكثره، مما انعكس على  الجامع نفسه؛ فقد بلغ حداً من الضعف والجمود والتأخر والركود؛ وحظا لا يحسد عليه ، فقد ناء عما كان يحمله للناس من مشاعل العلم والهداية، والنأي بهم عن طرق الغواية. وقد أُهمل شأنه،وذهب رأيه، واختل نظامه، وركد ماؤه، وأسن هواؤه؛ فلا هو جدَّد المناهج، ولا هو عدد البرامج، فالدراسة فيه غير مقرّرة، وطرائق التعليم فيه مكررة، أما المدرسون فلا يرقبون الله في أعمالهم،ولا يتقون الله في أقوالهم.فإذا رافقت هذا كله غفلة عن درجات التعليم، وإهمال للدروس التطبيقية والعملية والتنظيم، وتعطّلت فيه الملكات، ولحقت به المهلكات،وأمست المهارات اللسانية من العاطلات، وقَلَّ فيه التحصيل، وندر فيه التأهيل، وخبا فيه التأميل، وزاد في خطورة الوضع قصور الهمم، وتبدل القيم، فلا غرو أن صرنا في مؤخرة الأمم.

قال الشيخ –رحمه الله- في كتابه :””قد كان حدا بي حادي الآمال…من عام واحد وعشرين وثلاثمائة وألف، للتفكير في طرق إصلاح تعليمنا العربي والإسلامي، الذي أشعرتني مدة مزاولته، متعلماً ومعلماً، بوافر حاجته إلى الإصلاح الواسع النطاق، فعقدت الحزم على تحرير كتاب في الدعوة إلى ذلك، وبيان أسبابه، ولم أنشب أن أزجيت بقلمي في ابتداء التحرير، فإذا هو يسابقني كأنه من مطايا أبي العلاء القائل:

ولو أن المطيّ لها عقول … وجدّك لم نَشُدَّ لها رحالًا “

هكذا شمر الشيخ عن ‌ساقِ ‌الجدِّ في تركِ الهزل، وصدر في تدبيرِه عن الرأيِ الجزل، وعكف على تأليف كتابه المشهور-“أليس الصبح بقريب”– ووضع مُصنَّفه المعمور، فضمنه غرر آرائه، وأبكار أفكاره ، منطلقًا من رؤية حضارية، ونظرة تاريخية، وفكرة شمولية، تراقب التحولات العميقة،وتشاهد التقلبات الصفيقة، الَّتِي تعصف بالْمُجْتَمع الإسلامي والعالمي بشرورها الغديقة!

 ومن يطالع الكتاب مطالعة واعية متأنية،ويقرأ فيه قراءة متروية متأملة، يلفته فيه ثقافة الشيخ الموسوعية،ومعارفه الموضوعية في شتى فنون العلم والثقافة في عصره ومصره، وانفتاحه الواعي البصير، وعلمه الغزير على المناهج التربوية؛ العربية والغربية وواضعيها على حدٍّ سواء. كل ذلك  بمقلةٍ باصرة، وعين جاسرة ، ودراسة، فساعده تمكنه من اللُّغَة الفرنسية، وتضلعه في اللغة العربية، على ذلك مما يشعرك بأنك تقرأ لكبار الأئمة من المحققين أمثال الرازي، والزمخشري، وإمام الحرمين.

 فأول صنيعه درس أساليب التَّعْلِيم في “الزيتونة”، وقلب النظر في مناهجها ، ثم بَدَأَ الشَّيْخ – مع ثلة من أنصاره فِي وضع برنامج لمراحل الْإِصْلَاح وتطبيق النّظم الكفيلة بتحقيق هدف النجاح والفلاح، إقالة للجامعة من عثرتها، وإخراجها  من وهدتها. وقد تميز الشيخ بفصاحة المنطق، وبراعة البيان، وغزارة العلم، وقوة النظر، ودقة التدقيق،وبراعة التحقيق، وصفاء ذوق، وسعة اطلاع،وفساحة باع في اللغة العربية وعلومها وآدابها . وقد لفتت آراء الشيخ وأعماله الإصلاحية المقيم العام الفرنسي”1931″  فشرع في كتابة تقرير رسمي؛ أرسله إلى الوزارة الخارجية في باريس يقول فيه: “لا يمكن أن نسمح للزيتونة أن تتحول إلى معهد حديث، لأن هذا يمثل خطورة على السياسة التعليمية الفرنسية في تونس”. وقد انتهى إلى الشيخ خبر ذلك ، فلم يحرك ساكنا ، وما زاده إلا ثباتا وتسليما. وقد قيل : أن منهج الشيخ في كتابه “‌أليس ‌الصبح ‌بقريب” هو  منهج الشيخ محمد عبده ولكن من يقرأ المنهجين يجد ثمة فروقًا واضحة.  بدأ الشيخُ مشروعه الإصلاحي مدركا صعوبة المهمة،  وعضالة ‌الملمة، لا سيما وهو يرى البون الشاسع، والفرق الواسع، بَين وَاقعٍ  وواقع ، أين نحن والْأُمَم الغربية،        و امتلاكها لأَسبَاب النهضة الاقتصادية والحربية، ووسائل التمدن، ومظاهر الرقي والتزين، فلم يفت ذلك في عضده، ولم يهن من عزمه وعُدده، ومضى واثقًا لم يألُ جهدًا، ولم يدخر وسعًا فِي السّير فِي طريقه الصعب الطويل.

 والحديث عن آثار الشيخ وإنتاجه حديث ذو شجون، فهو صاحب إنتاج متنوع وفنون. نلمس ذلك فيما دوَّنه من متون؛ كالتفسير، والسيرة، والسُّنة وأصول الفقه، وفي العقيدة وعلم الكلام.ومقاصد الشريعة، والفقه، والفتوى في مسائل العبادات والمعاملات، وفي ما استجد من مسائل مختلفة تهم المسلم في حياته وآخرته. وختاماً، فأنا لم أرمِ بمقالي هذا إلى شرح الكتاب، وفك الخطاب، وبسط الجواب، ولكن أردت تقريبه وتحبيبه ليحلو في نظر القراء الكرام الأحباب، لعلهم يقبلون على مطالعته وقراءته أو اقتنائه من قريب، وأي أمر أتوه فقد فازوا فوزا لا يخيب!

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫15 تعليقات

  1. “أود أن أعبر عن إعجابي الشديد بالمقالة الرائعة التي كتبتها دكتور فقد تميزت بالمحتوى الثري والمعلومات القيمة والمفيدة التي تمكنت من إيصالها بطريقةٍ سلسةٍ وجذابةٍ للقارئ. كما أنني أثمن الجهد الذي بذلته في البحث والتحليل والتصوير الدقيق للموضوع، مما أضفى على المقالة العمق والجودة العالية. . استمر في الكتابة والتألق، وأتمنى لك المزيد من النجاح والتفوق.”

  2. يا صديقي د أحمد
    هأنت مرة أخرى تعود وتتحفنا من جديد بتعريفنا بقامة علمية أخرى، وتضيء لنا حقبة زمنية فارسها الشيخ الإمام ” ابن عاشور” صاحب التحرير والتنوير، أما كتابه الذي تحدثت عنه فلا أعلم لم ظل هذا الكتاب مجهولا على الرغم من أهميته، كذلك أريد أن أشكرك على أسلوب السجع الذي تمارسه في غير تكلف ولا تصنع، وهذا أسلوب مميز لا أعرف أحدا من الكتاب يسلكه غيرك…فقد ذكرتنا بالحريري والهمذاني وغيرهما من عشاق المقامات..
    بارك الله فيك وفي قلمك

    1. رد
      بارك الله فيك أخي وزميلي الدكتور أحمد فقد أفدت وأجدت
      وإذاكان كتاب “أليس الصبح بقريب” موجودا على الإنترنت فحبذا لو شرفتني بنسخة منه مشكورا

      عبد الله السالم المعلا الحسني

  3. دكتور أحمد الزبيدي الصديق العميق بفكره العقيق بخلقته.
    قرأت مقالك الذي سبحت فيه سباحة من أوله لآخره أجدف بين كلماتك المنسقة وكأنها شعر فوجدتني أبحر بمعاني وأوزان وتنسيق وموسيقى وعمق الكلام ما جعلني أصل لشطي الثاني دون عناء ولا تهب ولا ملل، فكانت قراءة أشبه بالإبحار لما فيه من موج الكلام وعذوبة الرحلة ومتعة الوصول .. قراءة مقالاتك هو بالنسبة في عالم آخر فيه كل جماليات اللغة وحروفها فضلآ عن الموضوع الشيق الرائع لما أثر فينا جامع الزيتونة وأثر التعليم في نهضة وارتقاء الأمم.. بوركت يمينك وبوركت

  4. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته د. احمد
    موضوع هام وحساس ما توقعت ان تتكرر في ذلك الوقت ايضا
    ونحن بحاجة لامثاله دائما
    جزاك الله كل خير

  5. رحم الله الشيخ محمد الطاهر بن عشور وخير الدين باشا ورواد الإصلاح في تلك الحقبة الزمنية من تاريخ تونس البهية ، وشكرا لسماحة الدكتور / أحمد زبيدي على هذا المقال الحسن السبك والديباجة

  6. سلمت يمناك دكتور أحمد بوركت جهوودك
    دائماا مميز بااختياراتك وانتقاءك لمقالاتك التي تسردها بطريقه جذابه ورائعة
    دمت بخير

  7. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
    جزاك الله خيرا دكتور
    دائما مقالاتك تتصف بالتميز
    باانتظار المزيد
    دمت بخير

  8. أشكر كل من مر وعلق وعبر عن لطيف إعجابه ورقيق ذوقه، وأخص د عبدالله بجواب عن سؤاله..
    نعم، لم أشأ أن أتوسع في ذكر الفروق الكثيرة بين الشيخين؛ محمد عبده والطاهر بن عاشور، لضيق المقام، وعدم مناسبته،المقال ولكن قد أذكر لك مسألتين:
    الأولى: اتجاه محمد عبده العقلي الصرف في تفسيره لبعض الآيات مثل تفسيره للطير الأبابيل، باأنها الطاعون، كذلك نظرته لكتب التراث وطعنه فيها وفي العلماء الكبار- كما ذكر محمود شاكر-.
    وهذا – بحسب علمي- لا تجده عند الشيخ الطاهر.

  9. تحيااتي دكتور احمد ولكل متابعيك من المثقفين نحن بحاجة ماسة لمجددين في العلوم شتى والمناهج والطرائق وخصوصا العلوم الشرعية من فقه وتفسير وفتاوى واجتهاد وقياس ودراسة متانية للحوادث التاريخية منطقيا وعلميا حياديا بعيدا عن التعصب والرؤى المغلقة .اجدت وابدعت دكتور احمد الزبيدي مع كل المحبة والاحترام والتقدير والى مزيد من العطاء معك الله دوما تحياتي .مهند الشريف

    1. فعلا أخي ” الشاعر” الجميل مهند، لا مندوحة من التجديد في كل العلوم، إذ لا نهضة للعلوم إلا بها، ولا سيما العلوم الشرعية والعربية🌷

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى