ريما آل كلزلي

زهران القاسمي

سرد متقن تخللته دهشة أخاذة وتشويق للحدث الأهم

الحياة صراع أبدي للخير والشر يتنافس فبها الأقوياء

بين بريق الأسطورة وارتكازات الأنثروبولوجيا الشّعبية على المجتمعات البدائية، و تحت ظروف بيئية قاهرة لا سلطة للبشر عليها، تتحول من نعيم الحياة بوجود الماء إلى جحيم الجفاف والقحط حال غيابه، وبين إرادة الحياة وقوة الموت كتب الروائي العماني زهران القاسمي روايته “تغريبة القافر”  وتأتي تغريبته كعلاقة ديالكتيكية بين الطبيعة والماء يحمل سرّا من أسرار الحياة، ومن جانب آخر بين أهل القرية العمانية، التي يظن القارئ للوهلة الأولى أنها مقتطعة من أسطورة سردية يخاتلها الواقع بقسوته.

 في البدء نشير إلى معنى كلمة “تغريبة” في معجم المعاني: وهي حمله على الغربة، ثم إن دلالة الفعل المتعدي “غرّبَ” لا تتفق مع دلالة نظيره اللازم غربَهُ: أي جعله غريبًا، وإبعاده عن سياق الحياة الواقعية لقريته، وإن كان ذلك الدفع للقافر معنويّا يتضمن نفيه الحسّي وليس بالإبعاد الجسدي.

أمّا “القافر” فهو من منح قدرة على تتبع الأثر، فالكلمة من “القَفْر” وهو الاستقصاء المقصود به الماء هنا، وهنا تكون عتبة الرواية دالة على تلازم التغريب والاستهداء كمتضادين للجمع بين شخوص الرواية وتفرُّق أهوائهم، ومصافحة منه لملامسة أعماق نفوسهم من خلال سرد الكثير عن عاداتهم وطقوسهم وأهوائهم، وطريقة معيشتهم ولباسهم وحتى نمط غذائهم وصولًا إلى المواويل و”الرزفة” كفن تقليدي يجمع بين الأداء والشعر، فيمنح المؤدين له شعورًا بأصالة الهويّة والفخر.

بدأ الروائي زهران القاسمي من خلال سرد متقن تخلتله دهشة أخاذة وتشويق للحدث الأهم الذي تتصاعد فيه الأسئلة، وتناسلت منه كل خيوط الحكاية وارتبطت به ارتباطًا وثيقًا، وهو ولادة القافر( سالم بن عبد الله) إثر غرق الأم (مريم) الحامل الممسوسة بالحسد الذي يتحول إلى مسّ شيطاني بمرور الوقت أو (عين جنيّة كما هو معروف لدى الرُّقاة)، بعد أن كانت تسمع أصواتًا في رأسها وتشعر بطنين وآلام نيرانية، ولا شيء سوى الماء يجعلها تهدأ، فكانت تضع رأسها في جردل الماء، وبعد تفاقم الآلام لم تكن تكتفي بالنزول في الفلج، حتى هامت على وجهها في الوديان ووصلت نحو بئر عميقة لتقضي فيها، بدون وعي منها، وبعد غرق الأم اختلف أهل القرية مع رجل الدين لنيل حكم منه بإخراج الجنين، والذي أُخرِج رغم عدم فتواه بحجة أن الحياة أقوى من الموت، ومن ثم تربى الطفل يعاني نظرة الشؤم التي تلاحقه مع عمة الغريقة العانس ( كاذية بنت غانم العمة الأم التي لم تكن إلا أمه)، والتي كان قدرها عدم الزواج بمن اهتوت (الوعري بن عامور) الذي عاش وحيدًا، لأنه متّهم بالغرابة هو أيضًا لاعتقاد أمه أن الجن استبدلوه في صغره في محاولة لتأكيد ذلك، وعند قدوم أبيه من سفره البعيد تسبب في مقتل الأم بعد محاولة تخليص ابنه من محاولتها طرده، فأكّد بفعله ظنون الأم وعاش “الوعري” في مزرعته البعيدة هناك على التل لكن التقاليد والسنّ حرمهما من فرحة اللقاء الزوجي ليكون شبيه “القافر” في الاغتراب والنكران، ثم تكتشف العمة أن في الولد “سالم” المسّ نفسه الذي كان يصاحب أمّه، تتوالى الأحداث لنعرف أن الطفل الذي غدا شابًا قويًا يساعد والده في الزراعة، وكان يستطيع بشكل غير مألوف أن يسمع صوت خرير الماء في عمق الأرض، واستثمر الأمر بشكل إيجابي ليكشف لقريته والقرى المجاورة لها عن أمهات الأفلاج التي اختفت بمرور الوقت وطمرها القحل، وسط ثناء أهل القرية إن هو أصاب ونقمتهم إن هو خالفهم، فلم يكونوا ليرضوا أبدًا، وظلّوا يبالغون في القسوة عليه، “أليس هو الممسوس ود الجن الذي لزمته لعنة الماء”، فاستبدله الجن أثناء غرق أمه.

عبر الرواية الأيكولوجية تدفّق الوصف بلغة انسيابية كالماء، أحيانًا يهدر بقوة عجائبيّته، ويهدأ في أحايين أخرى يسيل هادئًا بواقعيتّه، حيث اتخذ سياقات متناغمة مع كون الماء والفلج هما خيط حياة وموت معًا،  ولا عجب من ذكر هذا الأمر، حيث اعتمدت عمان نظام الأفلاج في الري وتحوي4112 فلجًا يجري منها 3017 فلجًا ومات منها 1004، فكانت تهُجَر الأماكن بعد أن تتهدم بيوتها وتجف زروعها وتموت أشجارها ونخيلها، وربما تقصَّد الروائي تنشيط بعض المفردات المحلية فطعّم الرواية بطابعها الحقيقي ليبين علاقة الأدب بالبيئة، بإحياء التفاصيل المحيطة بالمكان، وبرغم صعوبة بعض المفردات، فإنها تُفهم من سياق السرد.

صوّر الكاتب الجوع الكافر وصوره القبيحة عندما علق بين الماء والصخور التي يعلوها التراب في محاولة للوصول إلى “أم الفلج” ومحاولات “القافر” المستميتة للخروج من الماء وأنّ هذه الحياة حقّا تستحق التشبث بها بكل هذه الضراوة والقوة والصبر على بذل الأسباب، وفي لحظاته قبل الأخيرة تذكّر حكاية بخّار المساجين في قلعة “الرستاق” كأنموذج للظلم الواقع على الإنسان من أخيه الإنسان، وقد تمثل بابني آدم قابيل وهابيل، وأن الحياة صراع أبدي للخير والشر يتنافس فيها الأقوياء، أخيرًا في نهاية مفتوحة تدعو للأمل وتشير إلى طبيعة الحياة، فجرت أحداثها كالماء مرات ينساب برقة وأحايين يتمثل طبع السيول الجارفة.