Uncategorized

تاريخ ما قبل التاريخ (2)   د. أحمد الزبيدي    –    الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 ويذكر ‌هيرودوت أن العرب كانوا يرتدون رداءً اسمهُ “زيرا” Zeira وهو رداء طويل فضفاض يربط عليه من الوسط بحزام. وما ذكره ‌هيرودوت هو بالتأكيد “الإزار”، ويُكتب أيضا أزر Azr ومئزر Mi’zar، كما يكتب فى النصوص العربية والدارجة فى العصور الوسطى إزار Izar. والإزارُ رداءٌ يشبه الملاءة الكبيرة، يُلبس كالعباءة لتغطية الجسم، أو يُلف حول الخاصرة. ويؤكد هذا المؤرخ “سترابو” بقوله:” إن العرب الأنباط كانوا يربطون الحزام حول الخاصرة، وينتعلون النعال”. وعلى كل حال، فإن طريقة ارتداء الحجاج المسلمين الإزار عند الإحرام توضح لنا جيدًا الطريقة القديمة لارتدائه.

    أسماء ‌ملابس ‌العرب

ألف المستشرق “رينهارت دوزي” معجمًا في أسماء ‌ملابس ‌العرب بلغت صفحاته “”446 صفحة، وقد ذكر الزركلي “4/134” مؤلّفًا آخر بهذا الاسم ‌‌لعبد الله مُخْلِص وهو كاتب  فلسطيني من أصلٍ يمني (ت 1947 م).

قال الدكتور جواد علي (ت ١٤٠٨هـ)المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام (15/81) :” وقد تبين من هذه التماثيل… أن بين ملابس العربية القديمة قبل الإسلام وبين ‌ملابس ‌العرب في اليمن وفي بقية البلاد العربية الجنوبية في الوقت الحاضر تشابه كبير..” .*

ومما يميز تاريخ هيرودوت احتواؤه على معلومات تاريخية وجغرافية عن بلاد العرب قبل الإسلام، وعن أسماء لقبائل عربية كثيرة، لولاها لما عرفنا عنها شيئًا.

  مصر هبة النيل

من هذه البلاد التي أسهب هيرودوت في وصفها وتسجيل تاريخها مصر، وحديثها في تاريخه حديث ماتع ومفيد، فأول ما سجله هيرودوت عند رؤيته مصر قولته الخالدة الشهيرة: “مصر هبة من هبات النيل”.

وطالما سمعت هذه المقولة ولم أعرف قائلها!

وقوله هذا ‌ يدل على أنه كان ثاقب الفكر، دقيق النظر،شَدِيد التَّنْقِيبِ، كَثِير التَّنْقِير، دَقِيق الْبَحْثِ، بَعِيد الْغَوْرِ. فقد عَلِمَ عِلْمَ اليقين  أن حياة المصريين رهينة بنهر النيل، فعلى واديه نشأت أقدم المدنيات، وعلى حوافِّهِ قامت أعرق الحضارات.

 وحقيقةُ أن مصر حياتُها بنيلها حقيقة ظاهرة، فلولاه  لكانت صحراء قاحلة،والأبدان ناحلة،وما رأيت فيها راحلة،  فأرجع البصر إلى هذه الأرض الممتدة من النوبة إلى الدلتا، وهذا الخط الأخضر الطويل الجاري فيها ، لولاه ولولا  انسيابه في أحشائها، وريه غليلها لما عاش فيها  إنسان أو حيوان.

 ولم يقف هيرودوت عند التأريخ ونقل المشاهدات، وما يسمع من أخبار وحكايات، بل كان يحاول تعليل ما يراه،وتحليل ما يسمعه،فإن وافق عقله قبله، وإلا رفضه وتأباه، وحسبه أنه هو من أطلق اسم الدلتا على مصب نهر النيل، لأنه صورته تشبه  صورة حرف دلتا بالإغريقية. وهو الذي عزى تكوينها إلى طمي النيل الذي كوّن واديه ، وقد تكاثر هذا ‌الطمي حتى كوّن الدلتا إلى البحر الأبيض المتوسط.

وحِينما زار وَادي النّيل قال:” إن طول الخليج الْموصل بَين الْبَحْرين مسيرَة أربعة أيام، وَعرضه كَافٍ لمرور سفينتين كبيرتين فِي آن وَاحِد بيسر وسهولة، وَهُوَ يتَفَرَّع عَن فرع النّيل الَّذِي يصب عِنْد مَدِينَة بورسعيد، وينطلق عِنْد مَدِينَة بوباستيس الْمَوْجُودَة أطلالها بِالْقربِ من الزقازيق، وَيُطلق عَلَيْهَا اسْم تل بَسطة،ويمضي متجها شرقا حَتَّى يصل إِلَى الْبَحْر الأحمر”. ومن طرائف المعلومات التي ذكرها “‌هيرودوت” عن المصريين،قال: «إنهم كانوا يأكلون السمك المملح في أعيادهم، ويرون أن أكله مفيد في وقت معين من السنة، وكانوا يفضلون نوعًا معينًا لتمليحه وحفظه للعيد، أطلقوا عليه اسم (بور)”.

والسمك الذي يتحدث عنه هيرودوت هو “الفَسيخ”؛نوع من السمك المملَّح، يُترك حتَّى يتحلَّل بتأثير الجراثيم يحرص المصريون على تناوله في شم النسيم.وقد سمي  فَسيخ لأنهُ يتْرك حَتَّى يتفسخ.

وقد بالغ بعض كتاب “الرسالة” فيه ، فسمى عيد شم النسيم، وعيد الربيع، وعيد الورد، وعيد النسيم الذي ينفح بالعطر ويزخر بالحمال عيد “الفسيخ” بحجة أن الأعياد تسمى بأبرز خصائصها. والعجيب أن هيرودوت قد ذكر نوع السمك المفضل عند المصريين “بور”، وما زال إلى اليوم يُطلق عليه نفس الاسم، فهو في العامية المصرية (بوري).

وقد رأيت إخواني وأصدقائي من المصريين والغزيين المجاورين لهم يبالغون في ذلك، وإلى يومنا هذا ما زالت عادة تتبع!

وإذا كنا قد استغربنا من قدم أكلة الفسيخ وحب المصريين لها، فما بالنا نستهجن قول هيرودوت عن ” الفول”! فقد ذكر: أن المصريين لم يزرعوا الفول في أرضهم، فإذا خرج فيها لم يأكلوه ، وإن قسوسهم لا يستطيعون النظر إليه؛ لأنهم يرون أنه نجس، ومع ذلك فقد ورد عنهم أنهم كانوا يجففونه،

ويحفظونه بدليل قولهم (فول هاف) أي جاف، لأن فاء الكلمة مقلوبة عن الجيم”.! فقد استنكر بعض الكتاب هذا القول، وحجته في ذلك ‌الفول ‌من الأغذية المصرية المهمة إلى هذا اليوم. وأنا بدوري أستنكر استنكار هذا الكاتب، لأنه ليس بالضرورة أن يحب شعب طعاما معينا في حقبة زمنية معين، ثم يبقى على حبه لها إلى آخر الدنيا!

وقال ‌هيرودوت أيضاً: “إن المصريين أشد البشر تدينًا، ولا يُعرف شعبٌ بلغ في التدين درجتهم فيه، فإن صورهم بجملتها تمثل أناسًا يصلون أمام إله، وكتبهم في الجملة أسفار عبادة ونسك”. وهذا قول لا ريب فيه،ومسألة التدين عند المصريين ترجع إلى غريزة التدين المغروسة في جميع البشر، فلم يأت حين من الدهر على الإنسان إلا وعبد فيه شيئا؛قمرا، أو نجما، أو شمسا، أو صنما، فإن لم يجد شيئا من ذلك بحث عن شيء أو صنع لنفسه شيئًا، على أن  المصريين إلى يوم الناس هذا من أرق الناس قلوبا، وأصفاهم سريرة، وأشدهم محبة للدين وأهله، وحسبك أن فيهم  الأزهر ، فهو كعبة العلماء والأدباء لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله.

وقد أرجع بعض الكتاب ذلك إلى فلسفة الإيمان عند المصريين القدماء منذ فجر التاريخ، كما أن إلحاح لغز الموت بدلالاته المفجعة ومفاجآته المباغتة، جعله يفكر فى الحياة الثانية، وجعلها محور حضارته المبكرة، فشيد الأهرامات، وابتكر التحنيط، ووفر مقتنيات الحياة لكل عظيم راحل؛ إيمانًا منهم بأن عودتهم مقترنة باحتياجات الحياة الأولى.

وهذا ليس بشيء،  لان المصري-في هذا الأمر- كغيره من بني الإنسان!

وقد ذكر هيرودوت لنا في كتابه أن التحنيط عند قدماء  المصريين درجات : “الأولى: للملوك والأمراء؛ وهي أتقن الدرجات، والثانية: للنبلاء والأغنياء، وهي أوسطها، والثالثة: لعامة الشعب، وهذه أقلها اتقاناً”.

ومسألة التحنيط عند الفراعنة تعكس تشبث الإنسان بفكرة البقاء والخلود على الأرض، وهي فكرة كانت تنازعه وستظل ما دامت السموات والأرض. فما الزواج والأولاد إلا مظهر بارز لتلك الغريزة المخبوءة كينونته.

وما استطاع إبليس- لعنه الله- أن ينفذ لأبينا آدم –عليه السلام- إلا من خلال هذه الثغرة؛ مع تحذير الله له سبحانه وتعالى..!

“هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ‌وَمُلْكٍ ‌لَا ‌يَبْلى”.[طه: 120]

وقَوْلُهُ: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَافِ: 20].

كذلك فإن هيرودوت وقفنا على صورة اجتماعية نادرة؛ تصور علاقة الرجل المصري القديم بامرأته، بعيدا عن التعاليم الدينية واحترامها .

قال: (إن المصريات كن أحراراً في مسالكهن وتصرفاتهن في تجارة الحياة، وفي مزدحم الأعياد الدينية، وكن يخرجن من بيوتهن لتدبير البيت والإنفاق عليه، والرجال يقومون بالخدمة المنزلية خلال تغيبهن”.

اهتمام خاص بالحيوان

 ما يرويه هيرودوت من العجائب والغرائب أكثر مما روينا عن طعام الفسيخ وحبوب الفول،مشاهدته حريقاً شب في مصر، فوجه السكان عنايتهم إلى إنقاذ القطط قبل أن يفكروا في إطفاء النار، وهو ينبئنا كذلك بأن موت بعض الحيوانات كالقطط والكلاب كان يعقبه في مصر حداد شامل وألم عميق”، وقد يدخل هذا في سياق الرفق بالحيوان، ولكن الأمر ليس كذلك، وهو في ما أظن له علاقات رمزية دينية، فقد قرأت في كتب أخرى عن اعتقاد قدماء المصريين بأن القطط والكلاب كانت مسكونة بكثير من أسرار الكون الخفية، فهي تحيط  علمًا  بمستقبل الإنسان! وهذا يشبه احترام الغرب-المزعزم- للحيوان واستهانته المزرية بالإنسان، والأمثلة على ذلك حية وناطقة!

وإلا فما معنى هذا أمام ما سجله هيرودوت من بنائهم الأهرام، بأيدي عمال أربوا على المئة ألف عامل، يكدحون ثلاثة أشهر متواصلة في العام، وأن عملية البناء استغرقت نحو ثلاثين عامًا. وهو يصف خوفو –جراء ذلك  بالقسوة والغلظة، ونسب إليه أنه سخَّر شعبه في بناء مقبرته”. وقد استقى معلومته هذه من الكهنة.

ومما ذكره هيرودوت أيضا أن المصري كان يكتب من اليمين إلى اليسار، مخالفًا في ذلك  شعوب العالم الأخرى .

وعلى كل حال ، فقد توسع هيرودوت في استقصاء أخبار المصريين؛بما لا طاقة لنا بتسجيله.

ومما يزيد كتابه مكانة وقيمة، أنه أورد أخبارهم،ووصف أحوالهم، وتكلم عن تنظيم مجتمعاتهم، وطبيعة أرضهم، فجلا بذلك غموضا كان يرينُ بظلامه على تلك الحقبة الزمنية، وفي ظني أنه لولاه  لضاعت تلك الأخبار فيما ضاع من أخبار الأمم الأولى البائدة! –لذلك صار هيرودوت وما كتبه عن مصر في تاريخها القديم عالة لكل من أتى بعده من المؤرخين.  وما عرفت مصر القديمة في شرق ولا غرب بأكثر مما عرفت عن طريقه .

ومما يتصل بهذا، أن طه حسين في الوقت الذي كان يكذب فيه الشعر الجاهلي، ويرميه بالانتحال،ويسمُه بالبطلان، ويطعن في أسانيده، ويكذب صحته بكل دليل وبرهان؛ كان يتغنى بملحمتي اليونان والرومان “الإلياذة” والإنيادة، رمز القوة والبطولة ، وأساس التربية والتعليم اليوناني والروماني إبان الحقبة الكلاسيكية. علما بأنهما نظمتا ما بين العام 750 والعام 725 قبل الميلاد.

يقول طه حسين:”الأدب العربي يجب أن يُعتمد في دراسته على إتقان اللغات السامية وآدابها، وعلى إتقان اللغتين اليونانية ، واللاتينية  وآدابهما. …. فهل نظن أن من شيوخ الأدب في مصر من قرأ إلياذة  هوميروس وإنيادة فرجيل ! لكنني -والكلام لحسين- شككت في قيمة الأدب الجاهلي، وألححت في الشك. وانتهيت إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً، ليست من الجاهلية في شيء، إنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام.”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. أجدت وأبدعت دكتور أحمد الزبيدي منك نتعلم ونتطلع على علوم ومعارف لم تتح لنا الظروف لمعرفتها وحياة المصريين القدماء احترام لكبيرهم وجد وحب النظام والعمل والعلم واحترام القوانين العلمية ، وهذا كله تؤكده عمارة الاهرامات ولحد اليوم ترى المصري كذلك ، وفيه جانب كبير من اللين .الله يعطيك العافية. مع الحب والتحية والاحترام تحياتي .مهند الشريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى