تكمن قوّة الفن في إلغاء الفواصل بين المتذوق والعمل الأصيل، وتأتي القصّة بتشكيل الأشياء التي تنفعل بالحسّ الإنساني، ولكن القصة التشكيليّة جمعت بين تشكيل فلسفة الذّات في صناعتها الجماليّة بحثًا عن السّؤال، حيث يخصص هذا النوع من القصص للقارئ النموذجي، لتبرز أنواع جديدة من النصوص المعاصرة تنهض بالفكر، وهنا يقول تولستوي: ” إذا أردنا أن نعرّف الفن تعريفًا صحيحًا، وجب علينا أولًا وقبل كلّ شيء، أن نكفّ عن اعتباره مصدر لذّة، لكي ننظر إليه بصفته مظهرًا من مظاهر الحياة البشرية، ولن نجد أدنى صعوبةعندئذ في أن نتحقق من أن الفن هو أحد وسائل الاتصال بين النّاس”، فكلّما كان تأثّر الكاتب عميقًا وامتلك قوة فنية تمكنه من التأثير في غيره ، نجح في جعل القارئ شريكًا له في الإحساس.
في هذه المجموعة القصصية “دخان الأحلام” للكاتب السعودي صلاح بن هندي صافحها الكاتب بنص توصيفي بدا كجملة ضبابيّة تخبّئ الكثير من المعاني والأسئلة، وحملت المقدمة العنوان” في البدء كان جدّي” حيث تمثل بلقاء الصبي مع جدّه عند بوّابة الوجود، وهنا بدا العمق الفلسفي عبر جملة “أهمّ بالدّخول أنا المستقبَل ويهمّ بالخروج كماضٍ زال) ثم حددّ المدّة بـ 19عامًا، وكأن رمزيّة الأرقام تشير إلى الآية الكريمة: {عليها تسعة عشر}، بمعنى أولئك الرقباء الذين ينتظرون الزّلة، فكان الصبي يتعلم من جدّه الحكمة والمعرفة صافية بلا شوائب كخبرة زُلال. وحين أسمى جدّه “شهرزادي”، أشار إلى دلالة السّرد كأهمية تمنح بركة العمر وميزة النجاة من الموت الذي اتّخذته شهرزاد وسيلة لمقاومة الموت فلا تتعرض للموت المحتوم.
ومن خلال الوجود الغرائبي يتشكل الصّبي كدمية وتُبَث فيه الروح عبر السّرد، وهو العمل الاستحالي لمنحه حياة تتعلق بنسيج تشرّب وعيًا خالصًا عبر الحكايات الشّعبية.. تلك القصص التي يستمع إليها البسطاء فيعتقدون أنها أمتع ما في الحياة، ويستمع إليها أكثرَ المثقفون فيرون من خلالها أممًا وحضارات بأكملها عبرت تاركة هذا الأثر الذي لا يمكنه الخلود إلا عبر الفنون والأبجديات.
وكان مرّة يصف جدّه بـ “تولستوي طفولتي” تقديرًا لهذا العملاق الوجداني، الذي أجاد فن القصّ بطريقة تترك أثرًا عميقًا في النّفوس.
التأمل الذاتي
بدا من خلال أول قصّتين في مجموعة” الصّدف ودخان الأحلام” أن الكاتب اتبع نمط “الاثنوجرافية الذّاتيّة” وهي من البحث النوعي الذي يسمح لكاتب استخدام تأمّله الذّاتي في تجاربه وقصه الشّخصية ليتم الربط بين سيرته الذّاتية بسياقات ثقافية واجتماعيّة أشمل، والذي بدا واضحًا في قصّته الأولى المواجهة، (هي قصة شاب كان مدعوّا لحضور زفاف أحد أصدقاء الدراسة وذلك بعد مضي خمس سنوات من التخرج، فوقف أمام المرآة في اللحظات الأخيرة قبل خروجه من البيت يتأمّل ذاته، بدا معجبًا بها، ولكن كانت عذاباته النفسية تشوش الصورة فتتبدى من خلال تلك الأسئلة الكثيرة التي يطرحها من قبيل: ما الزمن، ماذا نرى في المرآة، ما الاسم وما الذي يحمل من دلالات، ثم ينظر قربه إلى تلك الكتب التي حصدت أشهر وأهم الفلسفات أصل الأنواع، كتاب “هكذا تكلم زرادشت” للفيلسوف نيتشه الذي عرف بالسوداوية والوعي المعذَب.. كتاب الغثيان.. كتاب الوجود والعدم، فرسم الكاتب مشهد الوقوف أمام المرآة، واستغرق في رسمه وعرضه وكأننا في مسرح بحيث تتعانق اللغة والدّلالة والفعل، وينتهي المشهد بكسر الكاتب ظلال ذاته على المرآة خروجًا من الظلمة الروحية وانعتاقًا من العتمة رافضًا هذا الانعكاس الذي لا يحصل علميّا إلا بوجود الضوء، وكأنه في حالة إبصار- رسم لميكانزيم عملية الإبصار وتحققها- في حين بدا في حالة اضطراب وارتباك يصارع من أجل التأكد من أنّه لم يصبح الشّخص الذي يطمح إليه، فاتخذ من الهروب ملجأً له).
وفي الانتقال إلى القصة الأساسية ” الصّدف ودخان الأحلام”، نجد أنّها قصة فلسفية استطاع الكاتب توظيف الحدث والاشتغال عليه بحبكة مقتدر دون إسقاط، فشكل منها لوحة فنيّة كاملة الدّلالة على مشهدية حوّل فيها تداخل الشّخصيّتين إلى سببية دائرية تخرجه عن السببية الأفقية يتحول معها السبب إلى نتيجة.
(تدور القصة حول رجل يساق في ليلة زفافه إلى التحقيق بتهمة الهروب، فيما هو ينفي التهمة عنه، بل يؤكد براءته حـتى بعد أن أراه المحقق صورته في تلك البدلة الأنيقة والكرافات الأسود، وبعد مضي وقت استنزف أعصابه قررّ الرجل أن يعترف، ما دعا المحقق للاحتفاء به بأن أدخله إلى دورة المياه المعطرة الخاصة به كنوع من المكافأة على الاعتراف، بعدها انتقل ليواجه القاضي باسمه الذي هرب منه وبصق عليه ” سعيد بن محظوظ” ونال حكمًا مدته 25 عامًا، والذي أرهقه خلالها ليس السجن فقط، إنّما تك الزوجة المسكينة التي لم يدخل بها، فكان يصوّر علاقته بها عبر تلامس الأصابع طوال مدّة بقائه في السّجن وزيارتها له، ومن ثم خروجه للقائها وهما في عمر ما بعد الستين).
عذابات بلا نهاية
انتهت القصة ولكن عذابات الكتاب لم تنتهِ، فقد بدأت بالسجن الذي صّوره الكاتب بديلًا للجسد الذي يحمل روحه، فأتقن تصويره بكلمات موحشة مثل،”طوقني بذراعيه الغليظتين، قضبانه أسنان مارد مخيف، يبتسم ابتسامة مُرعبة”، ولم يكتفِ بهذا القدر بل اتّخذ من الوحدة التي زجّ بها في السجن أي العزلة دليلا للاغتراب الرّوحي الذي كشف عن معاناته فيها، والحشرات الكثيرة التي لاطفته برفقتها تشير إلى الاستخفاف بمن وما حوله، وكانت الأسئلة التي يواجهها هي المؤرّق والباعث، وكأنّ علّة مواجهة الجرم ومرّة على الهروب والمراوغة في محاولته عدم التعرّف على شخصيّته التي في الصّورة هي الدّخان المقصود الذي يثير الضبابية على المشهد، ثم أشار إلى استناده في الزنزانة على الحائط البارد وهي دلالة على إشكالية قاسية تتعلق بالفصل والعزل، كإشارة معنويّة وأدبية مقترنة بماهية وظيفية تنطوي على الانفصال والانعزال عن عالمه الذي لم يتواءم معه بعد والحائط ذكِر وسيلة بغرض الحماية والدفاع.
أمّا تعريجه على وصف اللون الرمادي الذي وصف بها الزنازين المغلقة إشارة إلى اللون الذي يؤكد عدم الوضوح واختلاط البياض بالسواد الذي بثه في العنوان كالدخان.
وبعودته إلى زنزانته المظلمة تأكيد آخر لاستمرارية جهله بنفسه، وهو ما زال يطرح أسئلة وجودية أخرى، ويجيب عنها” لا ليس أنا” تأكيدًا على أناه الواثقة لكنها مازلت تريد تأكيدًا على ذاتها، وكلمة لابد أن هذا الذي في الصورة مستنسخ مني هي دليل أنه مازال يشكّ بنفسه ولم يتعرف إليها بالكلّية، فكان الصّداع يلازمه دليلًا آخر على التعب والإرهاق من رحلة البحث هذه للتعرف إلى ذاته.
في النهاية تمتع الكاتب بأسلوب فنّي سردي انسيابي، صوّر أفكاره بتقنية جيدة من خلال الوصف ، بلغة سهلة خالية من التكلّف لا تخلو من السخرية كأسلوبية في ضوء المقاربات الثقافية القائمة على مجموعة من التصوّرات الفلسفية ذات الطابع الاجتماعي لإقامة الدّليل على عدم انعدام الهوّة بين الإنسان العامي والمثقف، والمعروف أن النظرية الأنثروبولوجية ل إدلر كان لها أعمق الأثر في تبلور مفهوم نمط الحياة، فهو يقرر من خلالها أنّ أهم دافع عند الإنسان هو التغلّب على عقدة النّقص، والوصول إلى الكمال في الحياة، معتمدًا على الإرادة الحرّة.
قراءة واعية من ناقدة متمكنة… أكملت القراءة وفي ذائقتي رغبة لمصافحة الكتاب . مثل هذه الدراسات المتأنية والقراءات الواعية تسهم في زيادة جرعات الوعي لدى القارئ وتنمية فنيات الكتابة لدى الكاتب .
قراءة واعية من ناقدة متمكنة… أكملت القراءة وفي ذائقتي رغبة لمصافحة الكتاب . مثل هذه الدراسات المتأنية والقراءات الواعية تسهم في زيادة جرعات الوعي لدى القارئ وتنمية فنيات الكتابة لدى الكاتب .
قراءة قيمة تفتح شهيتنا لقراءة المجموعة القصصية موضوع المقال. بالمزيد من العطاء والتألق
دمتم بخير
قراءة جميلة جدا
عمر عزت هبرة
فنان تشكيلي