مقالات

“جِن كَلَكي”                           إقبال صالح بانقا    –    الإمارات

 

إقبال صالح بانقا

 

(بلسان فنان يحكي تجربته خلال الحرب)

انزوت أوانحسرت عن ذهني ذكرى سنوات طفولتي الخمس أو الست الأولى أيام الروضة القريبة من بيتنا أو داخل الحي،

 فقد انحصرت تلك السنوات في مشاهد قليلة دائمة تُخجل، والحمد لله أنها لم تبق أو لم تحتفظ بها الذاكرة، فلو رسخت فيها لكان لي لقب مُستهجن يدل على سلوكي الشائن في تِلك الأيام.

 كانت سنوات كلها مليئة بالبكاء والعويل والدموع، وأنفي سائل دومًا وأنا خلف أمي مُمُسك بطرف ثوبها، وقلبي مُعلق بها.. لا أحفل بأي شيء دونها.. لا أحفل  باللعب ولا بالأطفال .

 كانت تستميت لتصحيني فجرًا لتغسل وجهي وأنفي من البكاء والعويل والصراخ، لنذهب معًا للروضة، وأنا ممسكة بثوبها وأبكي فقط وهي تَندب على حظها التَعيس معي.. أبكي لا أريد الذهاب إلى الروضة وأعود معها وأنا أبكي أيضًا لا أريد العودة للبيت..أريد فقط أن نغشى دكان الحي لأشتري ما أريد وأعود غانمة أنهنه وأنفاسي متلاحقة من كثرة البكاء.

 كل ذلك يتم وسط صراخها والدعاء علي وعلى يوم مولدي واحتجاجها وسخطها، أضف إلى ذلك احتجاج وسخط  صاحب الدكان أيضًا عليَّ عطفا عليها، ومؤازة لها ما يزيد بكائي، فقد كان عقلي الصغير لا يستوعِب سبب تَدخله في ما لا يُعنيه، أعود بعدها لأنام تعبًا من البكاء تغطيني أمي بثوبها الذي أحب.. ثوبها المُعطر دومًا بعطرها النَفاذ ورائحة الحِنة  ورائحة الأكل والخبز وكل ما أحبه فيها.. أنام بعمق ونشوة لأني ظفرت بما أرغب من دكان الحي لحين حضور أبي من عمله وأخي وأختي من مدرستيهما ..أنا أصغر إخوتي.

في تلك السنوات تشبعت بالحب والحنين والدلال و(الخمج) منها. الحنين كان طابعًا فينا، وليس مُسمى، فهو منسوج في وجداننا مثل نسج (العنقريب) الذي ننام عليه، والذي يُبهرني نسج النساج حباله حين يأتي لذلك أراقبه وأراقب تَمكنه وبراعته في النسج منذ أن يبدأ حتى يَنتهي، ويأخذ أجرته من أمي بعد جدل طويل معها و يذهب .

 بعد نومي قرب العصر أصحو على صوت أبي يدعوني بابتسامتة الهينة للقيام لتناول الغداء، فأهب سعيدًا ممتنًا ، كانت تلك أحلى وأسعد لحظات حياتي أستمتع بهم جميعهم وبقصصهم وبحكاوي يومهم، خاصة حكاوي أبي وشكواه من مديره  الإنجليزي وصَلفه، وتثيرني تلك القصص عنه وتستفزني وتشعل في نفسي مشاعر شتى..كنت أضمر الحقد على مديره وعاهدت نفسي أنني حين أكبر سألتحق بالجيش وأحرر الوطن منهم، وأرد لأبي كرامته الجريحة التي كان يتعمد الإقلال منها،  لكن ذلك الحقد لم يكن يحرمني من الاستمتاع بأكل أمي الشهي.

تلك السنوات القليلة والتي أجزم العلماء على مدآر الزمان بأنها هي التي تُشكل شخصية الطفل، شكلتني بالحنين والمفيد..

بعدها بدأت ذاكرتي صاحية يقظة تُسجل تفاصيل الحياة وتفاعلي معها ومع المجتمع والناس والأقران.

بدأت الحياة منذ ذلك الحين تتضح معالمها وتقوم الذاكرة برصد وتسجيل تفاصيلها منذ دخولي المدرسة الأولية وتركي للإمساك بطرف ثوب أمي والكف عن البكاء..تركت ثوبها لكني امتلأت حنينًا منها وشرعت في الحياة منذ سن الثامنة.

شرعت فطنًا ذكيًا لماحًا محبوبًا (شَفت) (شَين ) لكن ليس قبيحًا. دمي يقطر خِفة وظلي أخف من دمي.. جذاب كل من يراني..  يبتسم أو يضحك ويقهقه، خاصة عندما أتحدثت فحديثي كله باسم ضاحك يلتف الجميع حولي دائمًا وأشيع المرح.

ينتظر أترابي خروجي من بيتنا حتى يبدو أي شيء لعباً كان أو مرحاً أو مغامرة. كنت زعيمًا لكن بصفات فريدة صفات النجم يدعونني (بالجِن الكًلَكي اللآبس مَلكي).

 مُتفاعل مع الجميع لأبعد الحدود.. أساعد الجميع ولا أكف أمسك بيد هذا، وأعاون هذا، وأشتري لمن تَرغب منهن خبزًا أوغرضاً ما، أضاحك وأمزح مع الكل .

  بعد الغداء في العصر أخرج للشارع مع أقراني في الحي للعب كرة القدم، وبعدها والتي تنتهي غالبًا بجدل ما وخلاف على نتيجة الفوز واللعب، بعدها نلتقط أنفاسنا بالجلوس على (مصطبة) الجدول المقابلة لشارع الإسفلت الرئيسي الذي يَحفل بكل شيء، وتمخر فيه النساء والبنات والحِسان والسيارات والدواب بأنواعها والكلاب والقطط وفيه مواقف المواصلات العامة جميعها ويزخر بالعجائب والمفاجآت و بالعراك والجدل والمناوشات ومرور (الِسيرات) وزفات العِرسان و (سِيرات) المَختونين و (النُفس) يحملون سَعف النخيل كفآل حَسن وخير كعرف راسخ وأصيل في المدينة التي اجتمعت فيها أعراف الوطن جميعها وتُمثله، تتوجه تلك الأفراد إلى البحر القريب للاغتسال فيه والتَبرك والتَطهر بمائه، فالبحر كما يقال له عادة أو نهر النيل بهيبته وجلاله، يلي الشارع الذي نجلس في طرفه وما كان يصاحب ذلك من مشاركات عابرة توزع فيها الحلوى والتمر، ولا يخلو الشارع أيضًا من جنازة محمولة عابرة في عجلة، فالمقابر في نهاية الشارع فنركض أيضًا في محاولة الإمساك برجل (العنقريب) واخذ الأجر والثواب وشيل الفاتحة وربما البكاء والعويل خاصة لو كان المفقود لنا به صلة في الحي أو الجوار أو القُرية.

نجلس لنتسامر إلى غروب الشمس  وتستمر الجلسة إلى ما بعد صلاة العشاء في نهايات الأسبوع فما يليها أيام جُمع ونسهر أيام العُطلات والاعياد. كنت مَلك السَمر ونَجمه ….الجميع ملتف حولي أُمازح وألقي النُكت والقفشات وأنال الإعجاب والحَسد والغِيرة منهم .

 كان الشارع وتلك الجَلسات مَسرحاً مُحتشداً بِالرفاق تَجد فيه السَمر و يَلفت أنظار المارة وقد يشاركون أو يتفرجون كان يحوي كل أنواع الفنون غِناء ربما شعراً أو عزفاً أو حكاوي وتمثيل كل يُقدم مَلكته بعفوية ويجد قبولها أو نقدها أو رفضها فالتَخصص شائع والمواهب عفوية ووليدة وتائقه ووثابة .

 أعود إلى البيت مع غروب الشمس في أيام الدراسة وبدء الظلام مع إلحاح الأمهات على المجيء  لمذاكرة الدروس قبل النوم، فما أن أستحم وأتناول العشاء وكو ب الحليب وأدعي المذاكرة أو أحاولها، فما أن أمسك بأي كتاب مدرسي حتى يُباغتني النوم والنعاس اللذيذ الغريب. كان أغرب نعاس يَنتاب دِماغ أحدٍ على وجه الأرض مشحون بكل ما لذ وطاب في الحياة .

 كنت أشرع في نوم عميق مشوق تكتنفه أحلام ورؤى وردية أشد منه عذوبة، ويتمكن مني عند إحساسي بإحكام أمي لثوبها حولي، وإقرارها بأني نمت بصوتها العالي وسط سخطها الممزوج بالضحك عن عدم مذاكرتي، لكن كان يشفع لي لديها حصولي على المركز الأول في كل مراحلي الدراسية ورضا الجميع عني وحبهم لي أساتذةً وزملاء ورفاقًا وأهل الحي وربما أهل المدينة المتلاحمة جميعهم، فوجودي ومقدراتي و موهبتي كانوا هم من أسبابها وهم من  تعرفوا إليها بحبهم لي وحثهم وتشجيعهم لي.

كانوا جمهوري الذي اكتشفني ودفع بي إلى ساحة النجاح والنجومية واشتراكي في فرق التمثيل خلال المرآحل الدراسية وتشجيعي على أداء أدوار الكوميديا، فقد كنت بارعًا فيها بتلقائية يعينني فيها خفة ظلي، فنلت الجوائز والتقدير والتشجيع وحثني الجميع على أن أنحو صوب المسرح ودراسة التمثيل الكوميدي بالتحديد وقد كان .

كرت ومرت الأعوام وأنا لصيق بأمي لا أحفل بأبي كثيرًا كان يمثل لي ويرتبط لدي بأشياء معينة كان يحملها عندعودته من العمل، لكن عندما اشتد عودي قليلًا مات فجأة بلا عِلة، وفارقنا فاكتشفت أنني كنت أحبه حبًا جمًا، ولكن لم أقترب منه مفترضًا أنه مُقيم ولن يُبارح أبداً، وأنه كان يمثل لي الأمان والاستقرار وتوفير المتطلبات، ولم أفطن يومًا لأن كل ذلك سيزول بغتة، فذهب من دون أن أفصح له عن حبي له، ففقدته وفقدت بالطبع كل الأشياء التي كان يحملها و ترتبط بمجيئه وفقدت ذلك الشعور بالامأن الذي يهبط على الكون كله عند مجيئه ناهيك عن بيتنا وقد كنت أحس بأنه شئ طبيعي عام ولن يزول.

لكن بفقده زال ..و زال  وما زال الحُنق المقيم في ذاتي تجاه المُستعمر أو مُديره الإنجليزي وتَجبره عليه ما زال مقيما فيها وما زالت نفسي على العهد بأني سوف أقتص له ولكرامته وزادتني صدمة فقده إصرارًا وعزمًا،  وكثيرًا ما كنت أعود من المدرسة لأجد أمي تطهو  فأجلس بحوارها ملتصقًا بها، وأثير فيها ذكريات أبي عامدًا في مُكر وأنزل دموعي وانفعل  فتثيرها دموعي فتنفعل أيضًا كنت أستفز فيها الدموع والألم والغضب، فتبعدني وتدعوني مرغمة لأكف وسط دموعها إلى  الذهاب إلى الدكان لجلب غرض ما لها أو للبيت وأظفر أنا بما أريد وغالبًا بزجاجة الببسي الباردة التي أُحب في غيظ      و حر أيام الصيف الملتهبة، والتي من أجلها أقوم بتلك المراوغة فتوبخني أمي وتدعوني (بالمَعَجن) أي المُفرط في الدلال فأبتسم، وينشرالحب لها مظلته في قلبي وجوارحي كلها.

تولت أمي زمام الأمور والتربية والإعاشة وتخلت عن دور الشباب والجمال وكرست عمرها كله لنا ولي بالتحديد كآخر العنقود اليتيم المحبوب المدلل الموهوب. مارست حياتي ودراستي وأيام مراهقتي بكل ما تحمل الكلمة من عنت وتميز محاطًا بالحب والحنين. كانت تلك هبات من الله شكلتني وأظهرت مواهبي.

أتممت دراستي الوسطي والثانوي وأيام مراهقتي وسط الحي والجيران وأقراني وزملائي، وانا محاط بكل ما ذكرت لكني شببت وانا احمل النقيضين، إذ كنت أهرع للوضوء في (وضاية ) المسجد فورا أهب وأترك ما في يدي أيًا كان عند سماع الأذان. لا تفوتني صلاة في مسجد الحي ولا يفوتني الانتظام في الصف الأول لصلاة الجماعة وأشارك في الأفراح والأتراح في الحي. كنت أول من يُجهز الجَنائز ويَشد ام العزاء ويَرفع الأكف بالفاتحة للميت، أساعد في جلب اغراض البيوت في المناسبات الأفراح والأتراح .

كنت الدينمو المحرك للحي وأهل ثقته، ومع ذلك كنت أتقلب في عشق بنات الحي وغيرهن ومراوغتهن في مُكر ودهاء لا أُحسد عليه، و مارست حينها كل أنواع الرذائل كديدن الشباب في تلك الأحياء العفوية البسيطة مع سنوات الطيش كالخمر والدخان و(سف الصعوط) لكني كنت متفوقًا دراسيًا ومحبوبًا، وكان المجتمع المَاكر يَتغاضى عن تلك الإمور عامدًا عندما يكن المرء يحمل مزايا .. وربما كانت تلك الإمور تُغفل عندما يكون المرء ذا نفع أو مُقتدرا في شيء يفيد من حوله، وهو نوع من الرياء الذي تتمتع به تلك المجتمعات البسيطة، لكن الويل كل الويل لديهم لمن مارس أحدًا ما في المجتمع المستهجن من السلوك، وكان غير ذي نفع فهو منبوذ.

 أهلتني موهبتي لدخول معهد التمثيل والموسيقى و المسرح ، وتفوقت وأثبت وجودي باشتراكي في الكثير من المسرحيات التي لاقت رواجا ونالت الجوائز، وقد أديت في أحدهما دور القائد الفرنسي (نابليون بونابرت) ببراعة، فقد جسدت فيه صلف المستعمر الغازي مستدعيا مدير أبي الإنجليزي من ذاكرتي وحقدي عليه،فأشاد بها و بي الجميع الجمهور وأساتذتي وتكرر عرضها حتى لُقبت باسمه وقد صار لقبًا لي ينادوني به رافقني منذ تخرجت وإلى الآن .

مرت أو تسارعت سنوات وأيام المعهد والطيش والشباب حاملا  زخم كل شئ ومرت معها احداث كثيرة عامة وخاصة بعضها من هوله يشيب له الوالدان وبعضه يمر مرور الكرام .

في أثناء تلك الأيام والأعوام تعرضت أختي الوحيدة لفشل كلوي دنا بها من الموت وبنا أيضًا، إذ لم تستجيب للعلاج وقرر الأطباء زرع كلية لها و سفرها للخارج.. أو.. أو وكله كنا لا نستطيعه ولا نقدر عليه، وظهر المتبرعون لها بالكلية وكنت أولهم بالطبع وعندما عَجزت الإمكانيات حتى عمن تتلاءم كليته معها ، وأستقر الأمر عندي هببت بشجاعة الأبطال وحماسة الشباب وبدموع أمي لأخذ كليتي مني وزرعها في خاصرتها ..أخذ الأمر مني أيامًا تعافيت بعدها  سريعًا، ونالت هي من ألوان العذاب ما نالت.

ذلك الموقف زاد من حب الناس لي وارتفعت نجوميتي ونلت حب أمي مضاعفًا وتقاطرت الدعوات منها إلي كالمطر في حلي وترحالي وظفرت بما لم أحلم به من تجاوب وفرص ونجاح.

رغم إني كنت و ما زلت أحمل النقيضين، أساعد كل من هب ودب خاصة لمن إحتاجها أشارك كما عهدني الكل في كل أعمال الخير مواصلاً تَولى المُصلين وخِدمتهم وما زلت مواظباً على الوجود في أول صف للصلاة، ومهرولاً إلى الوضوء وماؤه يقطر من ذقني دائمًا، و كنت دائم الركوع والسجود بل علامة السجود سوداء مستديرة  تضيء جبيني، وظللت مبادرًا على حمل صواني أكل الأفراح والأتراح وأكل أهل المسغبة والجوع ومعاونتهم لآحقا ربطتني بأحدي زميلات معهد التمثيل قصة حب هوجاء يافعة في السنتين الأخيرتين من  التخرج ، فعمدنا بعد التخرج إلى الخطبة في إلحاح رغم أن كل وأي شئ لم يكن مواتيا خاصة هي  لظروف اهلها المتعسرة وقصر ذات اليد وثقل الحمل على والديها وتم الزواج بمباركة الجميع من الأهل والمعارف والاصدقاء رغم ضعف الإمكانيات وبدأنا وشرعنا في  حياتنا معا في أضيق وأحرج وأحلك الظروف والأيام.

شاركت أمي وأختي وأخي السكن في المنزل الضيق مع ضيق العيش وضيق ذات اليد و اثمر الزواج سريعا عن طفلين توأم وزاد تعسر الحياة وكبدها رغم نجاحي في مجالي، فهو نجاح كان عائده يسيرٌ لا يفي بالمطلوب..

سارت الحياة بنا بذلك العسر رغم النجاح في أعمالي وارتيادي لأفق فيه تحقق النجاح والشهرة، لكنها لا تفي  بالغرض والمطلوب كما اسلفت، وكلما زادت الشهرة زاد ضيق العيش وكثرت المطالبات والجدل بين الكل وزاد الملل والشعور بالذنب والتقصير فبهت الحب جراء كل ذلك وأصبح عبئًا تريد التخلص منه وقد كان، فانفصلت عن زوجتي وأخذت أولادي معها فزدت تعلق بهم وتوترًا وضيق وشعورًا بالذنب تجاههم .

مرت أعوام توفت أختي بالقصور الكلوي رغم تبرعي لها بكليتي لكن تدهورت صحتها لاحقا وتوفت بعد عناء وكبد ولم يشفع لي سوى أنها أخذت كليتي معها دليلًا على حبى المفرط لها وتضحيتي.

توالت الأعوام وتكاثرت وأنا بين جزع أمي على فقدها لوحيدتها  وبين رعاية تؤأمبّ وهما بعيدان عني ، وكثرة المناوشات والجدل مع أمهما في أمرهما، وبين الشهرة والعمل والسهر والمسارح ودور العرض واللقاءات وكبد العيش في بلد قاصر أن يمنحك سبل العيش الكريم ويصد عنك حتى كرامة الإقامة فيه إلى أن جمعنا عمل ما مسرحي مع إحدى الزميلات، وتزاملنا فيه مدة من الزمن كانت كافية إلى أن يجمعنا حب صادق ألف بيننا، وتواعدنا أن نكلله بالخير وتم الزواج بيننا، وكانت الأعمال قد بدأت تاتي ببعض ثمارها فاستاجرت بيتا لنا وتركت بيتنا أو بيت أمي لها ولأخي الاكبر الذي لازمها حتى مماتها، فقد عاش معها بارًا بها مستكينًا قنوعًا نال من حظ الحياة ما يرغب.

أقمنا في بيتنا نكابد ونصارع سبل العيش والعمل معًا..أثمر زواجنا طفلة أزهرت أيامنا واسعدتها، لكنها زادت الأعباء علينا كحال الدنيا.

مرت سنوات أخرى لم يدع فقدان أختي على أمي إلا مزيدًا من الإنهاك، وهي تدنو إلى كِبر العمر والهرم رغم نِضالها المُستميت في التضحيات من أجلنا وإسعادنا، ففقدت أمي ورغم أن الحزن و المرض قد أخذا منها ما أخذ، إلا أن ألأمر كان بالنسبة لي لا يقل مباغته عن موت أبي، إذ كنت متيقنًا من أن موتها لن ياتي ابدًاً، والدليل أن اشياءها بعد أن فارقت مازالت كما هي تنبيء عنها وتحمل عبقها ، وأكاد واجزم أنها ستخاطبني لو إستدعيتها .

رغم كل ما مر بي فاتني القول بأني لم أترك فُسقي وتَقلبي في عِشق الحِسان، كما شَببت ولم يشفع لي الحب أو الزواج أو الموت وغيره واظن أن هذا ديدن اغلبنا، لكن هناك أشياء ومُسميات تَخفي عن الكل حَقيقتنا المُخزية، و لكن المجتمع يعلم بها ونظهر نحن بالمظهر الذي يرضي المجتمع العجيب .

توالت السنوات كعادتها تحمل للأسف ما نكره وتحمل معها سوء اعمالنا واقدارنا ولم نظفر فيها بما نرغب  ومن نرغب ومن يتولى أمرنا  ويقيم شاننا بل بالأسوء دائما رغم أنها أي الديار كانت غير عقيمة بمن يُعول عليهم من أهل الضمائر ومعرفة الحق، وعندما طال أمد العِلل علينا والكَبد وإستفحل الأمر كان القدر يُريد أو يُكيد لنا أمر الكي بالنار للإستبراء كآخرحل  لو قُدر ذلك، فاشتعلت الحرب ودارت رُحاها تَحصد ما تريد بلا هوية لها سوى العبث والجنون فأخذت تاتي بما يَخرق عادة الحروب ، بخبط عشواء لم يوجد له نظير في الحياة فأحرقت وابادت ودَمرت وهَجرت وشَردت وتَفرق أهل العاصمة ومُدنها داخليًا وخارجيًا بلا أي هدف ولا خُطة، فالموت لا يرحم والكل نفذ بنفسه وبأقربهم إليها، فلا مجال و(الروح أولى من الصاحب) كما يقال .

وهأنذا الآن خارج المدينة التي أُخليت عن بكرة أبيها كما يقال ، وأضحت مَهجورة مُظلمة تَسكنها القطط والكلاب والبوم والغربان والوطاويط في الطريق إليها مع الخَراب والدمار لو زاد أمر الهَجر .

هأنذا في مدينة من مدن الاقاليم الداخلية أعجزني الفرارخارج الوطن لضيق ذات اليد ولا معين أركن إليه. شرعت في الاقليم أمارس عملاً هزيلاً لا أعلم عنه شيئًا لأكتسب وأوفر لقمة العيش لنا إذ لا مجال لأي عمل والحرب آتية على كل أخضر ويابس وتحصد في الأرواح ما استطاعت، وأحاول ما إستطعت التواجد وبعض الظهور في اماكن تدل على تفاعلي مع ما يحدث بقية البقاء على ماء الوجه والكرامة في إنتظار وقف الحرب والعودة للديار .

ولا أعلم لو تثنى لنا الأمر وعدنا رغم أننا  لا نملك شئ يذكر فالدار تدمرت و نُهبت وسُلبت وهي مؤجرة لا نملكها إذن هي ليست دارنا  وإذا عدنا هل سنعود بذات الوجوه القديمة ؟ التي تحمل الكذب والرياء والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وتحمل الفضيلة أيضًا في آن واحد أو هل ساعود بما أحمل من النقيضين في ذاتي؟ أم ساتخلى عن أحدهما ؟ ومن فيهما سيظفر بالحمل من دون الآخر؟ بعد كل هذا الهوان والابتلاء ؟؟؟؟؟. أضف إلى ذلك الضغينة الواردة إلينا جراء ما حدث !!!!!

الله أعلم !!!!!!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى