مقالات

(تأملات  (١٥)  خلق الإنسان (الذكر والأنثى)  

د. داود سليمان

تأملات في محاولة فهم ما تشير إليه وترشد به الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن خلق الإنسان (الذكر والأنثى كزوجين) باعتبار ذلك نموذجاً لعملية الخلق (الإيجاد من العدم) على ظهر كوكب الأرض.

يواجه المرء أثناء قراءته للآيات القرآنية التي تتحدث عن خلق الأحياء على سطح الأرض (بما فيها خلق الإنسان)، أن جميع تلك الآيات تؤكد أن الزوجية هي أساس عملية الخَلق، سواء أكان ذلك على المستوى الجزيئي، أم المستوى الكلي (أو الإجمالي) لعملية الخلق، وأن عملية الخلق قد حدثت على سطح الأرض، كما تشير إلى ذلك الآيات التالية:-

1- سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنفُسِهِمْ، وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (يس: ٣٦)؛

2- وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُون (الزخرف: ١٢)؛

3- مِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الذاريات: ٤٩)؛

4- وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (النجم: ٤٥)؛ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ (النجم: ٤٦)

5- وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (النبإ: ٨).

6 – يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (النساء: ١).

في هذه الحلقة من التأملات سوف نتناول الآية الكريمة: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنفُسِهِمْ، وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (يس: ٣٦)؛ في محاولة لتقديم فهم علمي موضوعي لما توجه إليه وترشد به.

تبدأ الآية بِحَثْ المرء المتأمل في توجيهات الآيات القرآنية وإرشاداتها على تعظيم الخالق الذي يُرشده إلى أن الزوجية هي الأساس لعملية الخلق لكل ما أوجده/ أنشأه الله الخالق سبحانه وتعالى، من العدم وأبدعه على غير مثال سابق، على سطح كوكب الأرض: “سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا”؛ ويؤكد الله أن كافة المخلوقات قد أنشأها وفق مبدأ الزوجية من ثلاثة مصادر على النحو التالي:-

أ- مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ، ما يشير إلى أن كافة الكائنات الحية قد خلقها، أوجدها/أنشأها الله حيث كانت في حالة العدم من الأرض، وذلك بإخراجها كما يَنْبُت النبات؛ ماذا يعني هذا التشبيه؟ نعتقد بأن هذه الفقرة من الآية تشير إلى أن الخالق الله سبحانه وتعالى، قد أوجد في جوف الأرض المكونات الكيميائية العضوية الحيوية على هيئة أزواج متكاملة في أديم الأرض الذي خضع للتقلبات الجوية، بين الحرارة (الجفاف) والبرودة (الرطوبة) التي أشارت إليها آيات خَلق الإنسان، على مدى أزمنة طويلة، ابتداءً باختلاط المركبات الكيميائية غير العضوية بالتراب (حالة التراب)، ثم اختلاط ذلك التراب بالماء ما أدى إلى تحوله إلى حالة الطين، حيث تعرض ذلك الخليط من التراب والماء (الطين) للتقلبات الحرارية المشار إليها في الآيات التي تحدثت عن خلق الإنسان من سلالة من طين، بما أدى إلى نشأة المواد الكيميائية العضوية الحيوية لبناء الجسم المادي للكائن الذي سيصبح كائناً حياً عندما ينفخ فيه الله الخالق، الروح من أمره؛ باعتقادنا أن الإشارة إلى أن عملية خَلق الأزواج كلها قد حدثت بداية “مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ”؛ كما تؤكد ذلك الآية: “وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (نوح: ١٧)؛ أن الأرض هي المعين الذي احتضن خليط المركبات الكيميائية العضوية الحيوية التي نشأت منها جميع الكائنات الحيَّة على سطح الأرض.

ب- ……. وَمِنْ أَنفُسِهِمْ، ثم تشير الآية إلى أن تواصل عملية خَلق الكائن المادي المهيأ لاستقبال نفخة الروح من أمر الله، ليتحول إلى كائن حي قادر على التعامل مع الأحداث البيئية، يجب أن تتم تلك العملية من خلال إيجاء/إنشاء الأزواج (وفق منهجية الخلق التي تستند إلى مبدأ الزوجية) بين مكونين قابلين لإنشاء النطفة الأولى للكائن الحي. وهنا لا بد من طرح السؤال التالي: بماذا تُوجِّه/تُرشِد عبارة “ومن أنفسهم”، في إطار عملية الخلق التي تعني إيجاد الشيء أو إنشائه وإبداعه على غير مثال سابق؟؟ من وجهة نظرنا، نعتقد بأنها إشارة (إرشاد للمرء) إلى أن كلَّ نوع من أنواع نُطَف المخلوقات التي تنشأ من تكامل مكونين (جزأين) رئيسين (الذكر، والأنثى)، تكونان خاصة بالفرد نفسه (ذاته) من نفس النوع أو الصنف، ولا يمكن استبدالها، أو استخدامهما لخلق نوع آخر من المخلوقات؛ وذلك بمعنى أن نُطَف بني البشر التي تنشأ من امتزاج مكونات الحوين المنوي البشري بمكونات البويضة الأنثوية البشرية، تكون نتيجة ذلك إنشاء الإنسان، مهما تباينت ألوان وهيئات مفردات ذلك الجنس (الجنس البشري)؛ وقِس على ذلك بالنسبة لكافة الأحياء؛ وهذا القول يقودنا إلى تأكيد وحدانية الخلق لكل صنف من المخلوقات، بمعنى أن الخالق، الله سبحانه وتعالى، قد خَلق لكُلِّ صنف من أصناف (أنواع) المخلوقات الأحياء عضواً مذكراً، وآخر مؤنثاً خاصاً به ولا يمكن استبدال أيٍ من هما، لإنشاء المخلوق من الصنف نفسه القادر على النمو والارتقاء. وبالنسبة للآيتين الكريمتين: “وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَىٰ (النجم: ٤٥)؛ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ (النجم: ٤٦)؛ فإن التوجيه هنا، تأكيد على أن نوع الجنين نتيجة التقاء المُكَون الأنثوي بالمُكَون الذكري يتحدد بواسطة المُكوِّن الذكري، وليس الأنثوي. والآن، إذا نظرنا لكيفية نشأة أبي البشر (آدم عليه السلام)، من المكونات الكيميائية الأولية، فإننا نعتقد بأن الله سبحانه وتعالى قد خَلقَ تلك المكونات من مواد كيميائية أولية بالهيئة التي مكنت لإنشاء الجديلة الوراثية (تنشأ الجديلة الوراثية ثنائية الفتيلة بواسطة التفاف فتيلتين حول محور معين “المحور الرأسي”، لإنتاج ما يعرف بجديلة الحمض النووي DNA)، وأن الله سبحانه وتعالى قد أودع في بناء تلك الجديلة الصفات الخاصة بكل نوع من أنواع المخلوقات الحَيَّة، وضِمن إطار مكونات نفس النوع أودع الله الخصائص التي تميز أفراده عن بعضها. وبهذا نفهم أن الله عندما يقول عن بداية خلق الأحياء على سطح الأرض، أنه:- خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا ………، وَمِنْ أَنفُسِهِمْ، أنه قد أوجد/أنشأ كلاً من الجزء الذكري، والجزء الأنثوي من معين المركبات الكيميائية الأولية العضوية الحيوية البسيطة من محتويات الأرض بالكيفية التي تحقق نشأة (بناء أو إنتاج) الأزواج، وكل منها ذو خاصية متفردة لنفس النوع.

ج- ……. وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ؛ هنا يحق للمرء أن يسأل: ما هو الشيء الذي ضمنه الله الخالق سبحانه وتعالى في خَلق البشر (كمثال لخَلق الأحياء) على سطح الأرض، وأكد لبني البشر أنهم لا يعلمونه؟! ولأن الله لطيف بعباده، لم يتركهم في حيرة من أمرهم لبذل الجهد بهدف معرفة ذلك الشئ الذي ضمنه في خلقه للإنسان (كمثال لخلق الكائنات الحيَّة) وأكد لهم أنهم لا يعلمونه، إن آجلا أو عاجلاً، حتى لا يجهدوا أنفسهم في السعي لمحاولة معرفته. الجواب بلا شك: إنه الروح؛ “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: ٨٥)”؛ نحن نعلم الآن أن المخلوق كان في بدايته عبارة عن مركبات كيميائية بسيطة جرت تهيأتها من قبل الله الخالق سبحانه وتعالى بالكيفية (بتنسيق غاية في الدقة) التي مكنتها من إنشاء جسدٍ مادي للكائن الذي ستنفخ فيه الروح من أمر ربه، ليصبح كائناً حياً.

وللحديث متابعة بإذن الله لتقديم فهم علمي موضوعي لتوجيهات الآيات القرآنية سالفة الذكر وإرشاداتها، ولا شك في أن حوار الإخوة المتابعين فيه إثراء للمعرفة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى