قراءة : رفيق الرضي

 في دراسة حديثة عن الشاعر الراحل نزار قباني “الديوان المسموع” أو كما يسميه الدكتور إبراهيم أبو طالب “شاعر الرجال”، تحدث الدكتور أبوطالب عن القيم الثلاث المتمثلة في الحرية والجمال والعدالة، وضرورة تحققها في الإنسان كشرط لتجسدها في الأوطان، ولذا – والكلام للدكتور أبو طالب – عمل الشاعر نزار قباني على ترميم الشروخ بين الخطابين الذكوري والأنثوي، ورغم ما كان يعتقد عن استحالة تحقيق ذلك، نجح الشاعر نزار قباني في ذلك من خلال مملكته الشعرية ومدينته الفاضلة، بحيث أصبحت الكلمة الأولى للحب والكلمة الأخيرة للوطن.

استفزني ما أشار إليه الدكتور إبراهيم أبو طالب عن القيم الثلاث، ووجدتها متلازمة لا يمكن بغياب إحداها أن تكون الروح حرة، ووجدتها حجر الزاوية في نهضة المجتمع العربي، واكتمال إنسانيته، فلا يمكن للروح المسكونة بالعبودية أن ترى الجمال، وفي غياب العدالة يصبح مفهوم الجمال خالياً وخاوياً، وفي غياب القيم الثلاث ينتفي أي وجود لمعنى الفضيلة.

لذا عدت إلى “الأعمال الشعرية الكاملة” للدكتور إبراهيم أبوطالب، الصادر عن دار “عناوين للنشر”، باحثاً عن القيم التي ذكرها عن الشاعر نزار قباني، لعلي أجد ما يجعل الأمور أكثر جلاءً، ولعلي أجد المدينة الفاضلة في شعره لإدراكي أن الشاعر الحقيقي يضع القيم معياراً لما يكتب، ومضمون رسالته السامية، وبحديثه عن الشاعر نزار قباني، إنما يعبر عن قناعاته وأفكاره.

فتحت كتاب “الأعمال الشعرية الكاملة” للدكتور أبوطالب على قصيدة “لا تغضبي” وتأملت عنوان القصيدة قبل قرأتها، ثم أكملت:

“لا تغضبي فهواكِ أبقى

ودعي الخلاف لكُلِ حمقى

أنت النعيمُ لروضةٍ

رقص الربيع بها ورقَّ

يا زهرة الحُبِ انشري

نغم السرور بنا لنبقى

انفي الدموع وأشرقي

عيناكِ ما خُلقت لتشقى

وتمهلي لا تغضبي

رفقاً بمن يهواكِ رفقا”

في حوار شاعري مع حواء التي تغضب، دون أن نعرف مبعث غضبها، يتوسل إليها الشاعر أن تدع الخلاف، لأن الهوى والود لا يدومان، بينما الغضب ثورة لحظية، وأنه من الحماقة أن يضيع بعض وقتنا في الخلاف، ويحاول أثناء تهدئة حواء الإشارة إلى أنها كل شيء في حياته، فهي الجنة التي رقص بها الربيع، وللربيع رقصٌ وجمال ورقة، لا يماثلها إلا حواء التي شذا الجمال بعطرها ووردها في عفوية ممزوجة بالآمال ومتعلقة بالأحلام.

بدون زهرة الحب الضرورية للبقاء وقبله السرور والسعادة، يرجو الشاعر حواء أن تكفكف الدموع، فالدموع تحجب إشراقتها وفي نفس الوقت يبين لها أن العيون الجميلة الساحرة ما خلقت للشقاء والدموع، ويرى في دموعها ظلماً لمن أضناه الهوى فذاب في محبوبته هوىً وعشقاً.

ويستمر في الرجاء والاستعطاف مُبيناً أن الجوى أرهقه، والبُعد أضناه، ويؤكد أنه يهواها حقاً، وأنه مولعٌ بها فلولاها ما استعذب الحياة ولا طاب له رزقها، فمنها يقتطف الأماني. ثم يكرر الرجاء ألا تبخل فهي الكريمة، وفي البيت الأخير يكرر ما طلبه منها في البيت الأول وفي الأبيات التالية مُتضرعاً لها وطالباً منها الرحمة والرفق بمن يهواها، ومن خلاله يعيد تذكيرها بما قدم في مرافعته وهو المذنب والمتهم، الذي يطلب من القاضي الرفق به والنظر بعين الرأفة إلى ما يكابده.

في القصيدة وجدت القيم الثلاث التي تحدث عنها الدكتور إبراهيم متمثلة في جمال حواء ونقائها ورونقها وأنها سر الحياة، الربيع والورود والزهور والعطر وكل ما هو جميل، وفي نفس الوقت إشارة إلى الحرية المتمثلة في الآمال والصدق والكرم والرفق والوله، فلا قيود على الآمال، ولا يجتمع الصدق والعبودية، والبخل يتنافى مع الحرية، كما أن الرفق أسمى معاني العطاء، والوله لا يكون إلا لذات المحبوب، فلا يمكن أن يفرضه بشر على القلوب.

وفي البحث عن مفردات العدالة، حديث الشاعر عن العيون التي ما خلقت للشقاء، وفي ذلك ظلمٌ لها، وفي عدم إشراقة وجهها ظُلم، وفي بُعدها مشقة ونصب، وفي جفائها مرارة وحرمان، وفي نفس الوقت نرى الجانب الآخر للعدالة المتمثل في السعادة، تفتح الأزهار والربيع الذي يمثل الحياة، وقبل ذلك وفي ظل تحقق العدالة يتحقق البقاء.

في قصيدة تالية يبحث الشاعر عن الفضيلة والحنان والإخلاص، بعيداً عن الأهل والسكن والأصدقاء، في حالة العدم بحيث تحل حواء محل الروح في الجسد، وباتحادهما يكونان شبيه الإنسان حينها، وهنا نجد ما يبحث عنه الشاعر وهو الفضيلة المتمثلة في حواء القادرة على تعويضه عن الغربة عن الوطن، فقدان الأهل، غياب الأصدقاء والإخوان، وفي وقت العوز وندرة المال، ولعلي اقرأ في البيت الأخير تعريض بطغيان المادية في حياتنا، المادية التي جردت البعض من إنسانيته، فانتشر الظلم والاستغلال والتسلط في ظل غياب الحكمة والفطنة وندرة المعروف وأهله، وفي الأبيات الثلاثة كما اقرأها سر المدينة الفاضلة عندما تتحقق العدالة في ظل الحرية وباتحادها مع الجمال يبدو وكأننا نعود إلى إنسانيتنا.

“أريدُ قلباً حنوناً مخلصاً فطناً

فيه الفضيلة والمعروف ألوانُ

يضمني حين لا أهلٌ ولا سكنٌ

ولا صديقٌ ولا مالٌ وإخوانُ

يكونُ مني مكان الروح في جسدي

كأننا لامتزاج الحُب إنسانُ”

ولعلي في هذه القصيدة وجدت ما أبحثُ عنه تاركاً القارئ ليبحث عن قيم الجمال والعدالة والحرية في قصائد الدكتور إبراهيم أبوطالب، مع الإشارة إلى أن قصيدة “لا تغضبي” تعود للعام 1993 بينما قصيدة “قلبٌ” سُطرت قبلها بعامي في ديوان ملهمتي والحروف الأولى، وفي القصيدتين دلالة على البحث الدائم عن المدينة الفاضلة منذ البدايات الأولى للدكتور أبوطالب الذي تشرفت بمعرفته منذ العام 2004م في منزل الأستاذ والأديب الكبير محمد محمد العرشي أطال الله في عمره، والذي عرفني عليه وقتها قائلاً “تذكر إبراهيم أبوطالب جيداً، سيكون له شأن في عالم الأدب والمعرفة، وستذكر حينها هذا اللقاء”، ومن يومها أتلمس أخباره حتى قابلته للمرة الثانية خلال مشاركته في الحوارات والجلسات الأدبية المصاحبة لمعرض الشارقة الدولي للكتاب خلال شهر نوفمبر 2023م، ولا شك أن لي قراءات تالية لباقي قصائد الأعمال الشعرية الكاملة.