مقالات

بدائع قرآنية (3) د. أحمد الزبيدي    –    الإمارات  

د. أحمد الزبيدي

*يزخر القرآن من أوله إلى آخره ببديع ‌اللطائف ‌القرآنية، ورفيع المعاني البيانية: فأينما يممت وجهك وجدت ذلك التناسق البديع، والتناسب الرفيع، بين سور القرآن وآياته وكلماته.

 في حلقات  هذه الزاوية نسلط الضوء على شيء من ذلك، مبتدئين بسورة الفاتحة، ومنتهين بسورة الناس، معتمدين    في ذلك على كتب التفسير بأنواعها، لا سيما تفسير “مفاتيح الغيب” للفخر الرازي، وتفسير الكشاف للإمام الزمخشري ومعاجم اللغة، وكتب الأدب، و كتب البلاغة، وكتب المتشابه اللفظي، لا سيما كتاب “دُرة التنزيل وغُرة التأويل” للخطيب الإسكافي،ودواوين الشعر، وغير ذلك من الكتب ذات الصلة القريبة والبعيدة.*

سورة البقرة (ب)

القول في تأويل قوله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} [البقرة: 9] قال أبو جعفر: وخداع المنافق ربه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب؛ ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكم الله عز وجل، اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار، من القتل والسباء، فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله.

وقال الراغب :” أي: يخادعون رسوله وأولياءه، ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث إنّ معاملة الرّسول كمعاملته، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح/ 10].

وقال الفخر الرازي : ” …فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَوَّلًا: مَا الْمُخَادَعَةُ، ثُمَّ ثَانِيًا: مَا الْمُرَادُ، بِمُخَادَعَةِ اللَّهِ؟ وَثَالِثًا: أَنَّهُمْ لِمَاذَا كَانُوا ‌يُخَادِعُونَ ‌اللَّهَ؟ وَرَابِعًا: أَنَّهُ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفسهم ؟.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْخَدِيعَةَ مَذْمُومَةٌ، وَالْمَذْمُومُ يَجِبُ أَنْ يُمَيَّزَ مِنْ غَيْرِهِ لِكَيْ لَا يُفْعَلَ، وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْإِخْفَاءُ، وَسُمِّيَتِ الْخِزَانَةُ الْمِخْدَعَ، وَالْأَخْدَعَانِ عِرْقَانِ فِي الْعُنُقِ لِأَنَّهُمَا خَفِيَّانِ.

وَقَالُوا: خَدَعَ الضَّبُّ خَدْعًا إِذَا تَوَارَى فِي جُحْرِهِ فَلَمْ يَظْهَرْ إِلَّا قَلِيلًا، وَطَرِيقٌ خَيْدَعٌ وَخَدَّاعٌ، إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْمَقْصِدِ بِحَيْثُ لَا يُفْطَنُ لَهُ، وَمِنْهُ الْمَخْدَعُ، وَأَمَّا حَدُّهَا فَهُوَ إِظْهَارُ مَا يُوهِمُ السَّلَامَةَ وَالسَّدَادَ، وَإِبْطَانُ مَا يَقْتَضِي الْإِضْرَارَ بِأحد وَالتَّخَلُّصَ مِنْهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّفَاقِ فِي الْكُفْرِ وَالرِّيَاءِ فِي الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ الدِّينُ، لِأَنَّ الدِّينَ يُوجِبُ الِاسْتِقَامَةَ وَالْعُدُولَ عَنِ الْغُرُورِ وَالْإِسَاءَةِ، كَمَا يُوجِبُ الْمُخَالَصَةَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَصْفُهُمُ الْمُرَائِيَ بِأَنَّهُ مُدَلِّسٌ إِذَا أَظْهَرَ خِلَافَ مُرَادِهِ، وَمِنْهُ أُخِذَ التَّدْلِيسُ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ يُوهِمُ السَّمَاعَ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَإِذَا أَعْلَنَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِنَّهُ مُدَلِّسٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّهُمْ كَيْفَ خَادَعُوا اللَّهَ تَعَالَى؟ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مُخَادَعَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُمْتَنِعَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الضَّمَائِرَ وَالسَّرَائِرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَادَعَ، لِأَنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ لَوْ أَظْهَرُوا أَنَّ الْبَاطِنَ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خِدَاعًا، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْبَوَاطِنُ لَمْ يَصِح أَنْ يُخَادَعَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ فِي نِفَاقِهِمْ مُخَادَعَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ نَفْسَهُ وَأَرَادَ بِهِ رَسُولَهُ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَفْخِيمِ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ. قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ } [الْفَتْحِ: 10] وَقَالَ فِي عَكْسِهِ {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الْأَنْفَالِ:41] أَضَافَ السَّهْمَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الرَّسُولُ إِلَى نَفْسِهِ، فَالْمُنَافِقُونَ لَمَّا خَادَعُوا الرَّسُولَ قِيلَ إِنَّهُمْ خَادَعُوا اللَّهَ تَعَالَى. وبمثل هذا القول قال صاحب الأنموذج.

 الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ صُورَةُ حَالِهِمْ مَعَ اللَّهِ حَيْثُ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَهُمْ كَافِرُونَ صُورَةُ مَنْ يُخَادِعُ، وَصُورَةُ صَنِيعِ اللَّهِ مَعَهُمْ حَيْثُ أَمَرَ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عِنْدَهُ فِي عِدَادِ الْكَفَرَةِ صُورَةُ صَنِيعِ اللَّهِ مَعَهُمْ حَيْثُ امْتَثَلُوا أَمْرَ اللَّهِ فِيهِمْ فَأَجْرَوْا أَحْكَامَهُ عَلَيْهِمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ فِي بَيَانِ الْغَرَضِ مِنْ ذَلِكَ الْخِدَاعِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ يُجْرُونَهُمْ فِي التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ مَجْرَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَظْهَرُوا لَهُمُ الْإِيمَانَ وَإِنْ أَسَرُّوا خِلَافَهُ فَمَقْصُودُهُمْ مِنَ الْخِدَاعِ هَذَا. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ إِفْشَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارَهُ، وَإِفْشَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَسْرَارَهُمْ فَيَنْقُلُونَهَا إِلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ دَفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَحْكَامَ الْكُفَّارِ مِثْلَ الْقَتْلِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: “أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه”

الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْمَعُونَ فِي أَمْوَالِ الْغَنَائِمِ، فَإِنْ قِيلَ: فَاللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُوحِيَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّةَ مَكْرِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ هَتْكًا لِسِتْرِهِمْ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى اسْتِئْصَالِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَبْقَاهُمْ وَقَوَّاهُمْ، إِمَّا لِأَنَّهُ يَفْعَلُ ما يشاء ويحكم ما يريد أو لحكمة لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا هُوَ، فَإِنْ قِيلَ: هَلْ لِلِاقْتِصَارِ بِخَادَعْتُ عَلَى وَاحِدٍ وَجْهٌ صَحِيحٌ؟ قُلْنَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»: وَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: عَنَى بِهِ فَعَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ أُخْرِجَ فِي زِنَةِ “فَاعَلْتُ”، لِأَنَّ الزِّنَةَ فِي أَصْلِهَا لِلْمُبَالَغَةِ وَالْفِعْلُ مَتَى غُولِبَ فِيهِ فَاعِلُهُ جَاءَ أَبْلَغَ وَأَحْكَمَ مِنْهُ إِذَا زَاوَلَهُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُغَالِبٍ لِزِيَادَةِ قُوَّةِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ «يَخْدَعُونَ اللَّهَ» ثُمَّ قَالَ: يُخادِعُونَ بَيَانًا لِيَقُول: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا كَأَنَّهُ قِيلَ وَلِمَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ كَاذِبِينَ وَمَا نَفْعُهُمْ فِيهِ؟ فَقِيلَ: يُخادِعُونَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر: «وَمَا يُخَادِعُونَ» وَالْبَاقُونَ «يَخْدَعُونَ» وَحُجَّةُ الْأَوَّلِينَ: مُطَابَقَةُ اللَّفْظِ حَتَّى يَكُونَ مُطَابِقًا لِلَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ أَنَّ الْمُخَادَعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ مُخَادِعًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: {وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُونَ فِي الْحَقِيقَةِ خَادِعِينَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْحَسَنِ. وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَدْفَعُ ضَرَرَ خِدَاعِهِمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَصْرِفُهُ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تعالى: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ}

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. بحث ذكي متسلسل محيط بجوانب الكلم سعيا للوصول الى الحق والحقيقة وبيان ما غاب عن اذهان الناس بافكار منطقية وواضحة جلية تفتح الاذهان على نور وهداية اجدت وابدعت دكتور احمد الزبيدي ولقد عودتنا على بلاغتك وحكمتك فكيف بايات الله الكريمة جزاك الله كل الخير مع الحب والتحية والاحترام والتقدير تحياتي .مهند الشريف

  2. الدكتور الزبيدي
    كل عام وأنت وأمتنا الإسلامية وأهلنا في غزة بألف خير وعز ونصر وتمكين.
    بارك الله فيك على هذه السلسلة النافعة الطيبة المفيدة الشريفة، والله أسأل أن يعينك ويوفقك في إكمالها حتى تخرج إلى النور في كتاب كامل متكامل.

  3. دكتورنا بارك الله فيك على هذه السلسلة المفيدة ووفقك الله
    و عيد مبارك كل عام انت والأمة الإسلامية بألف خير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى