مقالات

تأملات  (١٧) مجرد رأي: لفهم توجيهات آية قرآنية وإرشاداتها د. داود سليمان    –    النمسا

د. داود سليمان

أثناء أحد اللقاءات التي جمعتني مع بعض الإخوة في أحد مساجد مدينة فيينا بجمهورية النمسا، كان الحوار يدور حول استشراف توجيهات الآية القرآنية الكريمة: “اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الزُّمر: ٤٢)”، وإرشاداتها التي ينبغي على المرء الاتعاظ بها في صحوه، ومنامه؛ لقد ذكر أحد الحضور أنه قد وجد صعوبة في تفسير هذه الآية، وفهم ما توجِّه إليه وترشد به؛ عندئذٍ قال له بعض الأخوة الحضور: عليه محاولة فهم تفسير هذه الآية من ما هو مذكور باستفاضة في كتب التفسير المتاحة للعديد من المجتهدين في هذا المجال، وما عليك إلا الاطلاع على ما أوردوه بهذا الخصوص؛ ثم قال آخر: هذه الآية الكريمة تشير إلى أن المرء له وفاتان، هما 1-

الوفاة الصغرى عندما ينام،

2- الوفاة الكبرى عندما ينتهي أجله وتقبض روحه،

ولتأكيد رأيه ساق له بعض الآيات القرآنية التي تُذكر فيها “مشتقات كلمة وفاة”؛ على سبيل المثال:

* وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (الأنعام: ٦٠)؛

* قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (يونس: ١٠٤)؛

* وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (النحل: ٧٠)؛

* قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ

.(السجدة: ١١)

لقد استوقفني ما ذكره أحد الحضور للأخ الذي عبر عن عدم فهمه لما توجه إليه وترشد به الآية الكريمة: “اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الزُّمر: ٤٢)”، بأن أشار عليه الاطلاع على تفسير هذه الآية في ما أورده العديد من المفسرين لآيات الذكر الحكيم. وعندما رجعت إلى ما ذكره المفسرون (قديمهم، وحديثهم) لهذه الآية، أيقنت أن الحق كل الحق في جانب الأخ الذي عبر عن عدم استشرافه لتوجيهات تلك الآية الكريمة وإرشاداتها من تلك التفاسير، وعن صعوبة فهمه للتفاسير التي سيقت لها من قبل جمهرة المفسرين، لماذا؟! للأسباب التالية:

أ- غالبية التفاسير التي يجدها المرء لعلمائنا الأفاضل، الأقدمين والحديثين، لهذه الآية الكريمة لم تَرْقَ إلى المستوى الذي يستنهض ملكة التفكير لدى المرء الذي يتأمل في توجيهات الآيات القرآنية وإرشاداتها،

ب- لقد ركزت تلك التفاسير على اعتبار أن عبارة ” يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ” المذكورة في شطر الآية “اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا” تعني انتقال المرء من حالة الحياة إلى حالة الموت، وأن المرء يمر بحالتي وفاة؛ إحداها حالة موته، التي تمثل انفصال روحه عن جسده نهائياً (وعُبِّرَ عنها بالوفاء الكبرى)؛ والأخرى حالة نومه التي تمثل انفصال روحه عن جسده بصورة مؤقتة (وتم التعبير عنها بالوفاة الصغرى عند المنام).

ج- عندما تأملت ملياً في تركيب هذه الآية الكريمة وجدت إنها مقسمة إلى ثلاث فقرات، وأن تلك الفقرات بمنزلة مرتكزات رئيسة للتأمل والتَّفَكُّر في ما توجه إليه وترشد به، وهي على النحو التالي:

ج – ١ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا،

ج – ٢ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى،

ج – ٣ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

عندئذٍ اتضح لي أن صياغة هذه الآية الكريمة بهذا الترتيب لها دلالات عميقة، تستدعي من المرء المتأمل في توجيهات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وإرشاداتها التَّفَكُّر فلياً في ما  توجه إليه وترشد به؛ ويؤكد ذلك أن الآية اختتمت بعبارة: “إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.

إن ارتباط، (أو مجيء) عبارة “يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا” ينفي أن تكون عبارة “يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ” في هذه الآية بمعنى، أو ذات دلالة على حالة الموت (موت المرء، بمعنى الوفاة الكبرى)؛ كما أن صياغة هذه الفقرة من الآية التي لم تفصل بين الحالتين: حالة “يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا”، وحالة “وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا” ينفي أن تكون عبارة “وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا” دلالة على حالة الوفاة الصغرى (أو الموتة الصغرى) للمرء عند المنام، ما يؤكد أن عبارة “يَتَوَفّى” في هذه الحالة لا تعني “الموت”، (كما جرى التعبير عنها بحالة “الموتة الصغرى”)، لأن حالة الموت هي حالة انفصال الروح عن الجسد، وهذا الأمر لا يحدث في حالة النوم؛ ويؤكد هذا الرأى ورود العبارة: “فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى”، أي أن الله سبحانه وتعالى يمسك الأنفس التي انتهى أجلها (الأنفس التي ماتت بالفعل) بانفصال الروح عن الجسد؛ أما الأنفس التي لم ينقضي أجلها، أي التي لم تمت بعد (لم يحن بعد موعد موتها وانقضاء أجلها)، وما تزال حية، فتستفيق من نومها لمزاولة أمور حياتها إلى الأجل المقدر لها “وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى”، إلى أن يحين موعد موتها المحدد من قبل ربها خالقها، بانفصال الروح عن الجسد.

بماذا توجِّه هذه الآية الكريمة؟

* عبارة يتوفى في هذه الآية الكريمة لا تعني الموت، بل تعني أن المرء لا يموت إلا عندما يستوفي كافة ما اقترفه في حياته من الأعمال والتصرفات الإيجابية (الحميدة)، التي تُكتب له في ميزان حسناته، والأعمال والتصرفات السيئة التي تُدوَّن في ميزان سيئاته.

* حالة النوم التي يمر بها المرء (ليلاً أو نهاراً) تشبه حالة موته من حيث كونه في كلتا الحالتين لا يقدر (أو لا يستطيع) أن يأتِ بأي عمل أو تصرف (إيجابي أو سلبي) يضاف إلى ما جرى تسجيله (له أو عليه) قبل نومه.

* إذا ما تصفح المرء الآيات القرآنية التي وردت فيها عبارة “يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ”، أو عبارة “يَتَوَفَّاكُم” يجد أن جميع الآيات التي وردت فيها هذه العبارة قد جاءت غير مرتبطة بعبارة “الموت”، باستثناء الآية (الزُّمر: ٤٢) ما يؤكد أن لفظة “يتوفى” في هذه الآية تعني الاستيفاء، وليس الموت. ويستفاد من ذلك، أن يحرص المرء على الالتزام بتوجيهات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وإرشاداتها ذات الصلة بقوامة تصرفاته، وأن يُحاسِب نفسه، في كافة أوقات حياته، ويعمل على إصلاح ما بينه وبين الآخرين قبل أن يأوي إلى فراشه ليذهب في نوم عميق، حيث يكون في تلك الحالة حياً، ولكنه غير قادر على ممارسة شؤون حياته، ليأت بأعمال أو تصرفات صالحة تُحسَب له، أو أعمال وتصرفات غير صالحة تُحسَب عليه. هذه التوجيهات لخصها حديث شريف لرسولنا الكريم صلَّى الله عليه وسلم، عندما جاءه رجل يطلب منه أن يوصيه بإيجاز، حيث قال: يا رسول الله أوصني وأوجز؛ فقال له: “عليك بالإياس مما في أيدي الناس، و إياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصل صلاتك وأنت مودع، وإياك وما تعتذر منه.”

يرجى من الإخوة المتابعين التعليق بما يرونه بحاجة إلى توضيح أو بحاجة إلى تصويب، لإثراء النقاش، وزيادة المعرفة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى