مقالات

بدائع قرآنية (4) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

*يزخر القرآن من أوله إلى آخره ببديع ‌اللطائف ‌القرآنية، ورفيع المعاني البيانية: فأينما يممت وجهك وجدت ذلك التناسق البديع، والتناسب الرفيع، بين سور القرآن وآياته وكلماته.

 في حلقات  هذه الزاوية نسلط الضوء على شيء من ذلك، مبتدئين بسورة الفاتحة، ومنتهين بسورة الناس، معتمدين في ذلك على كتب التفسير بأنواعها، لا سيما تفسير “مفاتيح الغيب” للفخر الرازي، وتفسير الكشاف للإمام الزمخشري ومعاجم اللغة، وكتب الأدب، و كتب البلاغة، وكتب المتشابه اللفظي، لا سيما كتاب “دُرة التنزيل وغُرة التأويل” للخطيب الإسكافي،ودواوين الشعر، وغير ذلك من الكتب ذات الصلة القريبة والبعيدة.*

                      “البقرة”  (ت)

اخْتَلف “الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ أَمِ اصْطِلَاحِيَّةٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ شَيْءٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا كَانَ وَارِدًا فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: كُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: الِاسْمُ غَيْرٌ، وَالصِّفَةُ غَيْرٌ، فَاسْمِي مُحَمَّدٌ، وَاسْمُكَ أَبُو بَكْرٍ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْأَسْمَاءِ، وَأَمَّا الصِّفَاتُ فَمِثْلُ وَصْفِ هَذَا الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ طَوِيلًا فَقِيهًا كَذَا وَكَذَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْفَرْقَ فَيُقَالُ: أَمَّا إِطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، وَأَمَّا الصِّفَاتُ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّوْقِيفِ.

القول في تأويل قوله تعالى: {‌الله ‌يستهزئ ‌بهم} [البقرة: 15].

قال الإمام الفخر الرازي:” الِاسْتِهْزَاء جَهْل، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} [الْبَقَرَةِ: 67].

وفيه أسئلة. الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ التَّلْبِيسِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْجَهْلِ، لِقَوْلِهِ: {قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} [الْبَقَرَةِ: 67] وَالْجَهْلُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِي التَّأْوِيلِ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِمْ جَزَاءٌ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ سَمَّاهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ، لِأَنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ يُسَمَّى بِاسْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَالَ تَعَالَى:

{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشُّورَى: 40] {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ } [الْبَقَرَةِ: 194] {يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ}. [النِّسَاءِ: 142]

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا هَجَانِي وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ فَاهْجُهُ، اللَّهُمَّ وَالْعَنْهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي»  أَيِ: اجْزِهِ جَزَاءَ هِجَائِهِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: “تَكَلَّفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا”

وَثَانِيهَا: أَنَّ ضَرَرَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَاجِعٌ عَلَيْهِمْ وَغَيْرُ ضَارٍّ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ اللَّهَ اسْتَهْزَأَ بِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِنْ آثَارِ الِاسْتِهْزَاءِ حُصُولُ الْهَوَانِ وَالْحَقَارَةِ فَذَكَرَ الِاسْتِهْزَاءَ، وَالْمُرَادُ حُصُولُ الْهَوَانِ لَهُمْ تَعْبِيرًا بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ.

وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَهْزِئِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَ الرَّسُولَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي إِخْفَائِهَا عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “إِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُونَ الْجَنَّةَ، وَالْكَافِرُونَ النَّارَ فَتَحَ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ بَابًا عَلَى الْجَحِيمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مَسْكَنُ الْمُنَافِقِينَ، فَإِذَا رَأَى الْمُنَافِقُونَ الْبَابَ مَفْتُوحًا أَخَذُوا يَخْرُجُونَ مِنَ الْجَحِيمِ وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَهُنَاكَ يُغْلَقُ دُونَهُمُ الْبَابُ”، فَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:  {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}. [الْمُطَفِّفِينَ: 29- 34] فَهَذَا هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ.

 السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ ابْتَدَأَ قَوْلَهُ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ؟ الْجَوَابُ: هُوَ اسْتِئْنَافٌ فِي غَايَةِ الْجَزَالَةِ والفخامة. وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْتَهْزِئُ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم فِي مُقَابَلَتِهِ كَالْعَدَمِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الِاسْتِهْزَاءَ بِهِمُ انْتِقَامًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُحْوِجُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنْ يُعَارِضُوهُمْ بِاسْتِهْزَاءٍ مِثْلِهِ.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ مستهزىء بهم ليكون مطابقاً لقوله: {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ الْجَوَابُ}.

لِأَنَّ «يَسْتَهْزِئُ» يُفِيدُ حُدُوثَ الِاسْتِهْزَاءِ وَتَجَدُّدَهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، وَهَذَا كَانَتْ نِكَايَاتُ اللَّهِ فِيهِمْ: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التَّوْبَةِ: 126] وَأَيْضًا فَمَا كَانُوا يَخْلُونَ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِمْ مِنْ تَهَتُّكِ أَسْتَارٍ وَتَكَشُّفِ أَسْرَارٍ وَاسْتِشْعَارِ حَذَرٍ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ آيَةٌ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ. {قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64].

قال الإمام ابن قتيبة في “مشكل القرآن” (171) : ” نحو قول الله تعالى: {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ } (14) { ‌اللَّهُ ‌يَسْتَهْزِئُ ‌بِهِمْ [البقرة: 14، 15] ، أي يجازيهم جزاء الاستهزاء.

وكذلك: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] ، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] ، {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى: 40] ، هي من المبتدئ سيئة، ومن الله، جل وعز، جزاء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫13 تعليقات

  1. جزاك الله كل خير على هذا التوضيح والإسهاب بالشرح يا د. أحمد أدامك الله لنا ذخرا ومعلما

  2. دكتور زبيدي
    بارك الله فيك، أرجو من العلي القدير أن بعينك ويوفقك ويسدد قلبك وقلمك ويتم هذا المشروع الذي تؤسس له بخير ، حتى يخرج في كتاب كبير، فيسد ثغرة كبيرة في المكتبة الإسلامية.
    ولا أبالغ إذا قلت أن هذه السلسلة أفضل ما يكتب في مجلتكم الكريمة،بل أفضل ما يكتب في المجلات جميعا؛ فهو مما يميزها، ويجعلها متفردة عن غيرها من المجلات الرقمية وغير الرقمية.
    دكتورنا الغالي:
    أنا أعرف قدر الصعوبة التي تتكبدها في إعداد مثل هذه المقالات، ولكن رأيي وربما يكون رأي اخوة كثير غيري ممن يقرؤون ويتابعون مقالاتك، كتابة مقالين في الأسبوع، حتى نستفيد أكثر، ويكون لك وللبعد المفتوح الأجر والثواب.

    1. بعد التحية كل الشكر للدكتور عبدالله – الإمارات ولكل من علقوا على موضوعات “البعد المفتوح” بالنسبة إلى فكرة مقالين أسبوعيًا مؤشر اهتمام وإعجاب بما يكتبه د. أحمد الزبيدي قواه الله وجزاه كل خير، لكن رأينا في المجلة أن نترك للدكتور أحمد الزبيدي فرصة للاختبار والتركيز في كتاباته مشكورًا ، ويكون لدى المتابعين متسع من الوقت للقراءة والتأمل ، وأكرر شكري وتحياتي.
      وائل الجشي

    2. تحية طيبة
      أشكر لك د عبدالله متابعتك المجلة بشكل عام، ومقالاتي بشكل خاص، وأحمد الله جل وعز أن يسر لمثل هذه المقالات، ويسر قبولها؛ ونجاحها، وانتشارها،مما يثلج الصدر، ويمضي العزيمة، ويشد الأزر، ويدفع بقوة للأمام.
      هذا، أما بالنسبة لاقتراحك وطلبك لكتابة مقالين في الأسبوع، فهو طلب مشروع، ومحترم، ومن حق القراء علينا تلبية طلباتهم، وأعدك أنني سأحقق لك ذلك، بشرط موافقة الأستاذ وائل على ذلك.

      1. أحيي حرص د. أحمد الزبيدي على التفاعل مع اقتراحات المعجبين بمقبالاته ، ومع أنني عند رأيي في الاكتفاء بمقال واحد أسبوعيًا مراعاة لما لدى د. أحمد من أعباء ، أعيد الكرة إلى ملعب د. أحمد ولا بأس في مقالين “بدائع قرآنية” أسبوعيًا ما دام لا يمانع في ذلك .
        وائل الجشي

        1. أخي الأستاذ الكبير وائل. المحترم
          حقيقة لا أعلم أبدأ بشكر من منكما؛ أنت أم الدكتور أحمد، فكلاكما تفضل علي وعلى القراء باستجابة رجائي وطلبي، ويمثل رغبة جماهير المسلمين،نظرا لأهمية هذا الموضوع وحساسيته وعمقه وتخصصه، وأنا إذ أكرر شكري أرجو منكما مسامحتي لأنني قد أكون كلفتكما مشقة، ولكن العزاء أن أجركما عند الله وعند الناس كبير.

  3. بارك الله فيك دكتور أحمد وسدد خطاك
    كالعادة متألق وراائع في سرد المعلومات جزاك الله خيراا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى