مقالات

بدائع قرآنية  (7)   د.  أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

      * يزخر القرآن العزيز، من أوله إلى آخره؛ ببديع ‌اللطائف ‌القرآنية، ورفيع المعاني البيانية، وأنوار الحقائق الربانية.

 فأينما يممت وجهك، وحيثما أرسلت طرفك، وكيفما أعملت فكرك؛ في سور القرآن الكريم، وآياته، وكلماته، وجدت ذلك التناسق البديع، وألفيت ذلك التناسب الرفيع، وأدهشك ذلك الإعجاز المنيع، بأحسن نطق، وأفصحه، وأبينه، وأعجبه. فلله دره ؛ إذا ‌نطَقَ أصابَ. وإنِ استُمْطِرَ صابَ. وإذا سُئل أجاب !

 في حلقات هذه الزاوية العلمية ؛ نستعين الله عز وجل على استنطاق صوابه، واستمطار صابه، بتسليط الضوء على شيء من ذلك، مبتدئين بسورة الفاتحة، ومنتهين بسورة الناس، معتمدين في ذلك-بعد الله – على كتب التفسير بأنواعها، لا سيما “تفسير الطبري “، و “مفاتيح الغيب” للفخر الرازي، وتفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ومعاجم اللغة، مثل اللسان، لابن منظور،  والقاموس، للفيروز أبادي، وشمس العلوم، لنشوان الحميري،  وكتب المفردات، مثل كتاب “ألفاظ القرآن للراغب” وكتب الأدب، وكتب البلاغة، وكتب  توجيه متشابه اللفظ من آي التنزيل، لا سيما كتاب “دُرة التنزيل وغُرة التأويل”، للخطيب الإسكافي و”ملاك التأويل” للغرناطي، و”الدر المصون” للسمين الحلبي، كذلك دواوين الشعر، وكتب الأدب، و الرسائل والخطب ، وغير ذلك من الكتب ذات الصلة والعلاقة القريبة والبعيدة*.

                       “البقرة” (خ)

  القول في تأويل قوله تعالى: {‌فاتقوا ‌النار} [البقرة: 24] . قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: {‌فاتقوا ‌النار} [البقرة: 24] يقول: فاتقوا أن تصلوا النار ؛بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي، أنه من وحيي وتنزيلي، بعد تبينكم أنه كتابي ومن عندي، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.

قال صاحب الأنموذج (ص6) :” ‌‌فإن قيل: كيف عَرَّفَ ‌النار ونكَّرها في سورة التحريم” ؟

قلت: ‌لأن ‌الخطاب ‌في ‌هذه ‌مع ‌المنافقين، وهم في أسفل النار المحيطة بهم، فَعُرِّفت بلام الاستغراق، أو العهد الذهني، وفي تلك مع المؤمنين، والذي يُعذَّب من عصاتهم بالنَّار، يكون في جزءٍ من أعلاها، فناسب تنكيرها لتقليلها.

وقيل: لأن تلك الآية نزلت قبل هذه بمكة، فلم تكن النار التي وقودها الناس والحجارة معروفة فنكَّرها ثمَّ، وهذه نزلت بالمدينة فعُرِّفَتْ، إشارة إلى ما عرفوه أولًا. ورُدَّ هذا بأن (آية التحريم) نزلت بالمدينة بعد الآية هنا”.

القول في تأويل قوله تعالى: {‌ولا ‌تلبسوا ‌الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [البقرة: 42] قال أبو جعفر: يعني بقوله: {ولا تلبسوا} [البقرة: 42] لا تخلطوا، واللبس: هو الخلط، يقال منه: لبست عليهم الأمر ألبسه لبسا: إذا خلطته عليهم. ومنه قول العجاج: [البحر الرجز]

لما لبسن الحق بالتجني … غنين واستبدلن زيدًا مني

يعني بقوله: لبسن: خلطن.

قال صاحب الأنموذج :فإن قيل: قوله: {‌ ‌وَلَا ‌تَلْبِسُوا ‌الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} .

ليسا فعلين متغايرين لينهوا عن الجمع بينهما؛ بل أحدهما داخل في الآخر؟

قلنا: هما فعلان متغايران، لأن المراد بلبسهم الحق بالباطل كتابتهم في التوراة ما ليس منها، وبكتمانهم الحق قولهم: لا نجد في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم.

قال السمين الحلبي “ت ٧٥٦هـ” (الدر المصون 1/320):” قوله تعالى: {‌وَلَا ‌تَلْبِسُواْ ‌الحق بالباطل} : الباءُ: [هنا] معناها الإِلصاقُ، كقولِك: خَلَطْتُ الماءَ باللبن، أَي: لَا تَخْلِطوا الحقَّ بالباطلِ فلا يتميَّزَ”.

قال الشيخ أبو زهرة ” ت ١٣٩٤هـ” زهرة التفاسير 1/ 212″   :” اللبس: معناه الخلط ومزج شيئين بعضهما ببعض، حتى لَا يميز أحدهما عن الآخر، ولبست الحق بالباطل، أي خلطت بينهما، بحيث لَا يميز الحق عن الباطل الذي اختلط، فلا يدرك إلا مشوبا بالباطل، فلا يكون الحق واضحا لَا تحوطه الريب والظنون، ويقال إن الرجل ملبوس عليه إذا اختلط عليه الحق بالباطل، ولقد روي عن علي كرم الله وجهه لبعض صحابته: (يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله”.

وقال الشيخ الشعراوي: “مادة تلبس؛ مأخوذة من اللباس الذي نرتديه. واللبس هو التغطية أو التعمية بأن نخفي الحق ولا نظهره. فاللباس تغليف للجسم يستره فلا يبين تفصيلاته.

في التوراة آيات لم يحرفها اليهود، وآيات محرفة. كل الآيات التي تتعلق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووصفه وأنه النبي الخاتم حرفها اليهود. والآيات التي لا تتعلق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يحرفوها، فكأنهم خلطوا الحق بالباطل، وقد فعلوا ذلك عمدًا.

 {‌ليشتروا بآيات الله ثمنا قليلا}.

‌{‌ وَلا ‌تَلْبِسُوا ‌الْحَقَّ ‌بِالْباطِلِ ‌وَتَكْتُمُوا ‌الْحَقَّ ‌وَأَنْتُمْ ‌تَعْلَمُونَ} (42)

قال الإمام الفخر الرازي (3/485): ” وَاعْلَمْ أَنَّ إِضْلَالَ الْغَيْرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِطَرِيقَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ إِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ دَلَائِلَ الْحَقِّ فَإِضْلَالُهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَشْوِيشِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَا سَمِعَهَا فَإِضْلَالُهُ إِنَّمَا يُمْكِنُ بِإِخْفَاءِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ عَنْهُ وَمَنْعِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا. فَقَوْلُهُ: {‌ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ} إِشَارَةٌ إِلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ تَشْوِيشُ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: {‌ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} إِشَارَةٌ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي؛ وَهُوَ مَنْعُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الدَّلَائِلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْبَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ:      {‌بِالْباطِلِ} أَنَّهَا بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ وَالْمَعْنَى وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِسَبَبِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُورِدُونَهَا عَلَى السَّامِعِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ كَانَتْ نُصُوصًا خَفِيَّةً يُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يُجَادِلُونَ فِيهَا وَيُشَوِّشُونَ وَجْهَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُتَأَمِّلِينَ فِيهَا بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {‌وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ} فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {‌ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غَافِرٍ: 5] . أَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ تَعْلَمُونَ مَا فِي إِضْلَالِ الْخَلْقِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ الْعَائِدِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّلْبِيسَ صَارَ صَارِفًا لِلْخَلْقِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَدَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَوْقِعَهُ عَظِيمٌ، وَهَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ وَرَدَ فِيهِمْ، فَهُوَ تَنْبِيهٌ لِسَائِرِ الْخَلْقِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ مِثْلِهِ، فَصَارَ الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فِي الصُّورَةِ لَكِنَّهُ عام في المعنى، ثم هاهنا بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} جَزْمٌ دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِ النَّهْيِ بِمَعْنَى وَلَا تَكْتُمُوا أَوْ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ اللَّبْسِ وَالْكِتْمَانِ وَإِنْ تَقَيَّدَ بِالْعِلْمِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِمَا حَالَ عَدَمِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ حَالُ الشَّيْءِ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ اللَّبْسَ وَالْكِتْمَانَ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ، وَمَا لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، بَلْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ التَّقْيِيدِ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ الضَّارِّ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ ضَارًّا أَفْحَشُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِكَوْنِهِ ضَارًّا، فَلَمَّا كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا فِي التَّلْبِيسِ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَانَ إِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ أَقْبَحَ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كتمانه والله أعلم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. سلمت يمنااك دكتوور أحمد
    ماشالله عنك دائما تتحفنا بكم المعلومات التي تقدمها لنا في مقالاتك
    جزاك الله خير الجزااء 🙂🙂

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    دكتورنا الفاضل:
    في بدائع قرآنية رقم “6” وجهت لفضيلتكم سؤالا، أرجو أن تتكرم بالإجابة عليه.
    ما صحة قول:” تفسير الرازي فيه كل شيء إلا التفسير”
    أرجو أن تلقي الضوء على هذه العبارة؟

  3. عليكم السلام ورحمة الله وبركاته،،
    فعلا أخي الفاضل؛ أنساني الشيطان الرد على سؤالك، أو ربما شعرت أن هذا الرد يحتاج إلى مقال مستقل، تنتفع به أنت وغيرك من طلاب العلم، فهذه مسألة قديمة حديثة، تحتاج إلو وقفة متأنية حتى نعطيها حقها من البحث والدراسة، وأنا بحول الله أعدك بذلك، ولكن أرجو أن تتكرم علي بوقت كاف.

  4. إلى الأخ الفاضل الذي سألني الاستزادة من الكتابة في زاوية” بدائع قرآنية” طلبا للفائدة، واستكثاراً من الخير، وأي خير أفضل من التزود من معاني القرآن وتفسيره، والوقوف على أسراه!
    ومع ثقل العبء ، وزيادة الأشغال، ونصيحة السيد رئيس التحرير بالاكتفاء بعدد الجمعة، إلا أنني حاولت، وسعيت، وما آليت،في سبيل ذلك، غير أن الظروف لم تساعد، والأوقات لم تساند،…!!
    لذلك أستميحك عذرا أنت وكل من شاركك رغبتك من القراء والمتابعين، والعذر عند أهل العفو مقبول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى