مقالات

شعراءٌ حكماء   د. أحمد الزبيدي    –    الإمارات   

د. أحمد الزبيدي

 عُرفتْ الحكمةُ في أسمى معانيها في الشعر العربي القديم؛ ولا سيما  في المعلقات المطولات، حيث ظلت ردحًا طويلًا من الزمن؛ منبع إلهام وإلزام والتفات؛ للشعراء، والأدباء، والحكماء ذوي الأحلام.

كانت، وما زالت ، وستظل؛ ما دام في الأرض نفس تهفو إلى الحب، وتتشوفُ إلى الخير، وتتطع إلى الجمال.

 وقد ترجعُ  الحكمة العربية في روافدُها وتفرعاتها؛ إلى تعدد الثقافات، وتنوع الحضارات؛ التي عرفها العرب،لا سيما الثقافة؛ الهندية، والفارسية، واليونانية، وما نَقْلُ كتابِ “كليلة ودمنة”  من الفارسية -على قول- ومن الهندية -على قول- إلى العربية عنا ببعيد،

وقد ذكروا أن لأبي العتاهية ” 211 هـ” أرجوزة طويلة بلغت أربعة آلاف بيت، سماها ” ذات الأمثال”، وشّاها بالحكم والمواعظ والأمثال، وقد روى أبو الفرج

 الأصفهاني في كتابه “الأغاني” في ترجمة أبي العتاهية؛ قطعة طويلة منها، ولا يبعد أن يكون أبو العتاهية نقل كثيرًا من حكمها، وأمثالها عن الفارسية؛ اقتبسها من مترجمات ابن المقفع” 142 ه” عن الأدب الفارسي، ولا يبعد أيضًا أن يكون قد عمد إلى شيء من الفكر اليوناني فضمَّنَه قصيدته في قول الناقد إحسان عباس.

 ومما يرجح نظرية إحسان عباس أن أبان بن عبد الحميد نظم “كليلة ودمنة” في نحو أربعة عشر ألف بيت، ونظمه كذلك علي بن داود، وبشر بن المعتمر، وأبو المكارم أسعد بن خاطر، ضاعت كلها، ولم يصلنا منها إلا نحو سبعين بيتًا؛ من نظم “أبان” ، نقلها الصولي (ت ٣٣٥هـ) في كتابه “الأوراق”، وكتاب ‌الأوراق هذا وثيقة أدبية وتاريخية مهمة؛ لكل من

تاريخ الأمة العربية وآدابها.

قال أبو العتاهية:

‌خَانَكَ ‌الطَّرْفُ ‌الطَّمُوحُ

 أيُّها القَلْبُ الجَمُوحُ

لِدَواعي الْخَيرِ والشَّرِّ

 دُنُوٌّ ونُزوحُ

هَلْ لِمَطْلوبٍ بِذَنْبٍ

 تَوبَةٌ مِنْهُ نَصوحُ

كَيفَ إِصْلاحُ قُلوبٍ

 إنَّما هُنَّ قُروحُ

أحْسَنَ اللهُ بِنا أَنَّ

 الْخَطايا لا تَفوحُ

وقول الدكتور إحسان عباس في ما ذهب إليه من تأثر أبي العتاهية بالفلسفة اليونانية على وجه التحديد، قد سبقه إليه جمع من النقاد والأدباء قديمًا وحديثًا.

قال المبرد :” إن أبا العتاهية: ” لا يكاد يخلي شعره مما تقدم من الأخبار والآثار، فينظم ذلك الكلام المنثور ويتناوله أقرب متناول ويسرقه أخفى سرقة ؛ أما الناقد “ابن طباطبا” فيرى أن أبا العتاهية سلك طريقة صالح بن عبد القدوس.

أما الثعالبي فأراد أن يثبت نظريته بالأمثلة، قال :” إن أحد الحكماء قال في الإسكندر: ” علمت أنك ولدت للموت وبنيت للخراب ” فأخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال:

لدوا للموت وابنوا للخراب

 فكلكمُ يصير إلى تباب

وأضاف :” وجدت أبا العتاهية كثيرًا ما يقول في مراثيه وزهدياته على معاني هذه الكلمات.”

ومع ما تميز به أبو ‌العتاهية من الحكمة التي تدعو إلى القيم والأخلاق، فقد نبزه

بعض النقاد بأن حكمته كلها أو جلها؛ لا تعدو أن تكون تضمينًا للقواعد الأخلاقية المقتبسة عن اليونانيين والفرس، ومع ما قيل فإنني أرى أن أبا العتاهية قد استفاد فائدة كبيرة من الحكمة العربية، ومكارم الأخلاق التي جاء الإسلام ليتممها ويؤكد عليها.ولا أدل على ذلك من أن فقيه الأندلس ومحدثها ابن عبد البر هو الذي جمع ‌ديوانه ، وعن نسخته كانت نشرة الدكتور شكري فيصل رحمه الله، وعليها اعتمد أحد الآباء اليسوعيين فنسخها ورتبها على الحروف، وشرح بعض مفرداتها، وسماها “الأنوار الزاهية في ديوان أبي ‌العتاهية.”

وقد أكثر شاعرنا -أبو العتاهية- من استخدام “التناص” في شعره : “العلاقة التفاعلية بين نص سابق، ونص حاضر، لإنتاج نص لاحق”، ولا غرو؛ فالشعرُ يذكّرُ بالشعر، خصوصية مطردة في اللغة الشعرية، ومن أشعاره التي صارت أمثالًا قوله:

‌ترجو ‌النجاة ‌ولم ‌تسلك مسالكها

 إنّ السفينة لا تجري على اليبس

وانظر إليه وهو يقيم صرحا للقناعة، ويجعل الرفاهية في جانبها أمرًا تافهًا، في قوله:

ما ضرّ من جعل الترابَ مهادَه

 أن لا ينامَ على الحريرِ إذا قنع

وأنشد ابن الأعرابي أبيات أبي ‌العتاهية التي يقول فيها:

واصبر على غِيَرِ الزمان فإنما

 فرجُ الشدائد مثلُ حَلِّ عِقال

ثم قال لجليسه: هل تعرف أحداً يحسن أن يقول مثل هذا الشعر !؟

وقال أبو ‌العتاهية:

عذيري من الإنسان ما إن جفوته

 صفا لي ولا إن صرت طوع يديه

وإني لمشتاق إلى ظلَّ صاحب

 يرقُّ ويصفو إن كدرت عليه

ويروى أن الخليفة المأمون لما سمع هذين البيتين، قال: خذوا مني الخلافة، وأعطوني هذا الصاحب ثم قوله:

إلى الديَّان يوم العرض نمضي

 وعند الله تجتمع الخصومُ

وعدَّ بعضُ النقاد القدماء زهيرًا لحكمته ثالث الفحول من شعراء الجاهلية، بل إنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، اعتبره خير شعرائهم على الإطلاق؛ لأنه ‌شاعر العقل و‌الحكمة،

وقد  تميز شعره بالحكمة الصادقة، والتجربة الرائقة، والخبرة الفائقة ، ومن ثم عدوه سيد ‌شعراء زمانه.

من شعره التعليمي:

 ‌وَمَنْ ‌لَمْ ‌يُصانعْ ‌فِي ‌أُمُورٍ كَثيرةٍ  يُضَرَّسْ بأنْيابٍ ويُوطَأ بِمَنْسِمِ

أَي: من لم يُدارِ النَّاس غلبوه وقهروه وأَذلَّوه.

ومن جميل أبياته السائرة:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه

 يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم

ففي هذا البيت مثل سائر؛ يحسن التمثل به.

ومن الشعراء الحكماء أبو الفتح البستي  “400 ه” الشاعر الذائع الصيت، وطريقته في الحكمة مغنية، وفي التجنيس معجزة. ومن ظريف كلامه: “النعمة عروس فمهرها الشكر، والرشوة رشاء الحاجة، والبشر نور الإيجاب، والمعاشرة ترك المعاسرة، وعادات السادات سادات العادات.”

وقوله: “من أصلح فاسده، أرغم حاسده”، من أطاع غضبه أضاع أدبه””و

 ومن قوله في مكانة القلم:

إذا أقسم الأبطال يومًا بسيفهم

 وعدّوه مما يكسب المجد والكرم

كفى قلم الكتاب مجدًا ورفعة

 مدى الدهر أنّ الله أقسم بالقلم

وكان يقال: المزح في الكلام كالملح في الطعام، وقد نظمه ‌أبو ‌الفتح ‌البستي فقال:

أعد طبعك المكدود بالهم راحة

 قليلًا وعلله بشيء من المزح

ولكن إذا أعطيته المزح فليكن

 بمقدار ما تعطي الطعام من الملح

ومن هذا القبيل ما اشتُهِرعن الشاعر الحكيم محمود الوراق “ت 230 ه” قوله نثرًا:  ‌”قل ‌من ‌الشعر ‌ما ‌يبقى لك ذكره

 ويزول عنك إثمه”

وقد عرف عنه تدفق الشاعرية، والألفاظ النقية، والمعاني العلية.

وقد زاد الوراقُ على أبي العتاهية والبستي من استخدام “التناص” : “العلاقة التفاعلية بين نص سابق، ونص حاضر، لإنتاج نص لاحق”، ولا غرو؛ فالشعرُ يذكّرُ بالشعر ، خصوصية مطردة في اللغة الشعرية، غير أن تتبع شعره أفضى إلى اعتماده في تناصه ؛ على القرآن والسنة، وأشعار الفحول، وحكم البلغاء والحكماء أكثر.

وليس عسيرًا على الباحث كشف ذلك

فمن تناصه من القرآن قوله:

 ‌فَمن ‌كَانَت ‌منيته ‌بِأَرْض

 فَلَيْسَ يَمُوت فِي أَرض سواهَا

يشير إلى الآية الكريمة {وَمَا ‌تَدْرِي ‌نَفْسٌ ‌بِأَيِّ ‌أَرْضٍ تَمُوتُ}

وقوله: ‌

عليمٌ ‌بأن ‌اللهَ ‌موفٍ ‌بوعده

 وفي قلبهِ شكٌّ على القلبِ دائبُ

أخذها من قوله تعالى: {وَعْدَ ‌اللَّهِ ‌لا ‌يُخْلِفُ ‌اللَّهُ ‌وَعْدَهُ}

أما تناصه واقتباسه من الحديث الشريف، فقوله:

 ‌وبَادِرْ ‌شَبَابَكَ ‌أَنْ ‌تَهْرَمَا

وَصِحَّةَ جِسْمِكَ أَنْ تَسْقَمَا

وَأَيَّامَ عَيْشِكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ

فَمَا قَصْرُ مَنْ عَاشَ أَنْ يَسْلَمَا

وَوَقْتُ فَرَاغِكَ بَادِرْ بِهِ

لَيَالِيَ شُغْلِكَ فِي بَعْضِ مَا

اقتبسها من الحديث ” ‌اغْتَنِمْ ‌خَمْسًا ‌قَبْلَ ‌خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ”

أما اقتباسهُ من البُلغاء فقوله:

‌سألزم ‌نفسي ‌الصفحَ عن كلَ مذنبٍ

 وإن كثرت منهُ عليَّ الجرائمُ

وما الناسُ إلا واحدٌ من ثلاثةً

 شريفٌ ومشروفٌ ومِثْلٌ مُقاوم

فأما الذي فوقي فأعرفُ فضلهُ

  وأتبعُ فيه الحقَّ والحقُّ لازم

وأما الذي مثلي فإن زلّ أو هفا

 تفضلتُ إنَّ الفضلَ بالعزِّ حاكم

وأما الذي دوني فإن قالَ صُنتُ عن  إجابتهِ عرضي وإن لامَ لائمُ

أخذه من قول الأحنف: “‌ما ‌نازعني ‌أحد قطّ إلا أخذت أمري بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت قدره، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضّلت عليه.”، وقال:

إذا كانَ شكرِي نعمة الله نعمة

 عليَّ له في مثلها يجب الشُّكرُ

وكيفَ بلوغ الشّكر إلَاّ بفضلهِ

 وإنْ طالت الأيَّام واتَّصل العمرُ

أخذه من قول الإمام الشافعي:”الحمد لله الذي لا يُؤدى شُكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب مؤدي ماض نعمه بأدائها نعمةً حادثةً يجب عليه شكره بها.”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. هذه من دُرر الدكتور أحمد الزبيدي وغُرره. يجمع لك ما تفرق من صنوف الحِكم وآيات البيان في مكان واحد. يتعب هو وتقطف ثمار تعبه أنت. فلله دره.

    انظر مثلًا إلى هذه الكلمات ما أعمقها:

    كيف ‎ إِصْلاحُ قُلوبٍ إنَّما هُنَّ قُروحُ

    أحْسَنَ اللهُ بِنا أَنَّ الْخَطايا لا تَفوحُ

    أما التناص فما أظن أن مثل هذا البيت يمثله:

    فَمن ‌كَانَت ‌منيته ‌بِأَرْض

    فَلَيْسَ يَمُوت فِي أَرض سواهَا

    هذا تناص في المعنى إلى حد ما وليس تناصًّا في اللفظ أو النص كما هو شرط التناص.

    دام الدكتور الزبيدي مبدعًا.

    1. دكتور جوهر، دمت لنا وللأدب والمتأدبين ذخرا وسندا ومعلما،ولا وعدمنا نقدك البناء، وتوجيهاتك الهادفة إلى العلياء، المتحلية بالأدب والعلم والحياء.

  2. صباح الخير والحكمه
    ما زلت يا دكتور تفيض علينا من القديم الجديدالرائع
    جزاك الله كل خير

  3. إن مثل الزبيدي وما يكتبه، كمثل النحل وما ما يخرجه”… ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها حشراب م9ختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ( 69 )
    فالزبيدي يقرأ، ويطالع، ويكد وينعب، حتى يخرج لنا حكما ضائعة في بطون الكتب، وينظمها في مقال لذة للقارئين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى