مقالات

وقفات مع المتنبي  (22) د . أحمد الزبيدي         –         الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 “العضديات”

  “العضديات”؛ هي قصائد المتنبي في ‌‌‌عَضُد ‌الدَّوْلَة الْبُوَيْهي(324 – 372 هـ) ، الديلميّ، أبو شجاع: أحد المتغلبين على الملك في عهد الدولة العباسية بالعراق. مَلكَ فارس والموصل وبلاد الجزيرة، وهو أول من خُطب له على المنابر بعد الخليفة، وأول من لُقِّب في الإسلام  “شاهنشاه”. وصفه رجل بقوله: وجهٌ فيه ألف عين، وفم فيه ألف لسان، وصدر فيه ألف قلب! “كان شديد الهيبة، جبارًا عسوفًا، أديبًا، نحويًا، عالمًا بالعربية، ينظم الشعر، صنَّف له الفارسيّ ” الإيضاح ” و ” التكملة “. أنشأ “البيمارستان” ، وعمر القناطر والجسور، وبنى سورًا حول مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم: ومن شعره”بغية الوعاة” (ج2 ص242) :

لَيْسَ شرب الراح إِلَّا فِي الْمَطَر

 وغناء من جوَارٍ فِي السحر

 غانياتٍ سالباتٍ للنهى

   ناعماتٍ فِي تضاعيف الْوتر

لقاؤهُ بالمتنبي:

جاء في “الواضح في مشكلات شعر المتنبي”(ص5) بتصرف:” ورد على أبي الطيب    -وهو عند ابن العميد- كتاب من عَضُد الدولة بشيرازَ يستزيرُه ويطلب منه المسير إليه، ولَم ‌تَكُنْ ‌به ‌رَغبَةٌ، فتثاقل عن تلبية دعوته! فراوده ابن العميد عن نفسه، فقال: مالي وللديلم؟ فقال له: عضُد الدولة أفضل مني، ويصلك بأضعاف صلتي. فقال:” إني مُلَقَّى من هؤلاء الملوك، أقصد الواحد بعد الواحد، وأمَلِّكهم شيئًا يبقى بقاء النَّيِّرين، ويعطونني عَرضًا فانيًا….ولي ضجرات واختيارات، فيعوقونني عن مُرادي، فأحتاج إلى مفارقتهم على أقبح الوجوه!! ” فكاتب ابن العميد عضد الدولة بما جرى، فورد الجواب بأنه مُمَلّكٌ مراده في المُقام والظَّعن. فسار أبو الطيب من أرَّجان، فلما كان على أربعة فراسخ من شيراز، استقبله عضُد الدولة بأبي عمر الصبّاغ، فلما تلاقيا وتسايرا، استنشده، فقال المتنبي: الناس يتناشدون، فاسمعه، فأخبره أبو عمر أنه رسمَ له ذلك من المجلس العالي. ثم دخل البلد ، فأنزل دارًا مفروشة ، وأنشد أبا عمر قصيدته التي قال في الكوفة:

‌فَلَمَّا ‌أَنَخْنا رَكَزْنا الرَّمَا

حَ بينَ مَكارِمِنَا والعُلَى

وَبِتْنَا نُقَبِّلُ أَسْيَافَنَا،

 وَنَمْسَحُها مِنْ دِماءِ العِدَى

لِتَعْلمَ مِصْرَ، وَمَنْ بِالْعِرَاقْ،

 وَمَنْ بِالْعَواصِمِ، أَنِّي الفَتَى

وَأَنِّي وَفَيْتُ، وَأَنِّي أَبَيْتُ،

وَأَنِّي عَتَوْتُ عَلَى مَنْ عَتَى

 ورجع أبو عمر الصباغ إلى عضد الدولة، فأخبره بما جرى وأنشده أبياتاً من كلمته، فقال عضد الدولة: هو ذا يتهددنا المتنبي.

قال د عبد الوهاب عزام:” في خلق أبي الطيب قوة وخشونة تميلان به إلى كل قوي وكل خشن، وتعدلان عن كل ضعيف وكل ليّن؛ وفي خلقه صراحة تحبب إليه كل صريح من القول والفعل والمرأى، وتنفره عن كل مموّه مزخرف”.

قلت: ولا أدلُّ على صدق كلام عزام من إنشاد المتنبي عضد الدولة بعد أيام من مقدمه عليه، قصيدته التي مطلعها:

‌مَغَانِي ‌الشِّعبِ ‌طِيبَاً ‌في ‌المَغَانِي

بِمَنزِلَةِ الرَّبِيعِ مِنَ الزَّمانِ

وَلَكِنَّ الفَتَى العَرَبِيَّ فِيها

غَريبُ الوَجهِ واليَدِ واللِّسَانِ

ملاعبُ جِنَّةٍ، لو سارَ فيها

سُليمانُ لسارَ بِتَرجُمانِ

‌إذا ‌غَنَّى ‌الحَمَامُ ‌الوُرْقُ فِيهَا

أَجَابَتهُ أَغَانِيُّ القِيَانِ

وَمَنْ بالشِّعبِ أَحوجُ مِنْ حَمَامٍ

إذا غَنَّى وَنَاحَ- إلى البَيَانِ

وَقَدْ يَتَقارَبُ الوَصْفَانِ جِدّاً

وَمَوصُوفاهُمَا مُتَبَاعِدَانِ

ومع ما في ظاهر هذا الشعر من مديح رائع، وثناء معجب ، إلا أنه إذا أمعنت النظر فيه ألفيته هجاءً قاسيًا، وثَلْبًا عاسيًا، فسليمان -عليه السلام- وهو الذي عُلِّم منطق الطير، وعُلّم كلام النَّمل، ولغات الجن، فكانت الجنّ له خولًا، والرّياح له مسخَّرة، لو دخل أرض فارس لاحتاج إلى تُرجمان، ولا يكون الأمر كذلك إلا إذا كانوا -في نظره- أدنى منزلة من الطير والنمل، والجن، ولولا ذلك لَعُلِّمَ منطقهم!!

 وقال الأستاذ محمود شاكر : “وبَيِّنٌ ..أن أبا الطيب كان لا يزال يحتقر الأعاجم ويبغضهم لما أصابوا قومه من البلاء.

قال د. عبد الله الطيب”المرشد”(ج3 ص158): ” والعجب له (يقصد المتنبي) كيف جسر على هذا وهو يمدح أميرًا فارسيًا”.

ومن هنا؛ كان كل مديح مدحه المتنبي عضد الدولة يشي بالتكلف، ويرشح بالتصنع، لأنه لا ينبع من قلب محبٍّ، ولا يصدر من نفس صادقة، كما كان شأنه مع “سيف الدولة الحمداني”؛ الأمير العربي الذي كان يسعى لاستعادة دولة العرب.

  • روى صاحب “الإيضاح” أن عضد الدولة قال إن المتنبي كان جيد الشعر بالغرب. فلما بلغت المتنبي قال: “الشعر ‌على ‌قدر ‌البقاع”.

ويظهر لك من هذا صحة ما ذكروه من علم عضد الدولة وثقافته؛ فقد كان أديبًا، نحويًا، شاعرًا، وسياسيًا محنكًا، وقد بلغ من حلم ودهاء عضد الدولة “الواضح في مشكلات شعر المتنبي”(ص5) :”أن كافأه  بأنواع الطيب في الأردية والأمنان، من بين الكافور والعنبر والمسك والعود، وقاد إليه فرسهُ الملقب بـ “المجروح”، وكان اشتُرِيَ له بخمسين ألف شاه، بدرة ‌دراهمها ‌عدلية، ورداءً حشوهُ ديباجٌ روميٌّ مفصّل، وعمامةً قوّمت بخمسمائة دينار، ونصلاً هندياً مرصعَ النجاد والجَفن بالذهب”.

وكان هذا الفعل من دهاء عضد الدولة، فقد كان يعلم بحقيقة مشاعر أبي الطيب، وبغضه العجم، ولم يكن أبو الطيب أقل منه مكرًا ودهاءً، فقد شعر هو الآخر بكل ما كان يخطط له “عضد الدولة”، ولذلك في قصيدته الأخيرة التي مدحه بها أشار إلى ذلك، فقال:

 ‌وَمَنْ ‌يَظَّنُّ ‌نَثْرَ ‌الحَبِّ ‌جُودَاً

وَيَنصِبُ تَحتَ ما نَثَرَ الشِّباكا

وَمَنْ بَلَغَ الحَضيضَ بِهِ كَرَاهُ

وإنْ بَلَغَتْ بِهِ الحَالُ السُّكاكا

فَلَو كَانَتْ قُلُوبُهُمُ صَديقَاً

لَقَدْ كَانتْ خلائِقُهُمْ عِدَاكَا

لأَنكَ مُبغِضٌ حَسَبًَا نَحِيفًا                            إذا أَبصَرْتَ دُنياهُ ضِنَاكا

(الكرى: النوم. والسكاك: الهواء. والضناك: السمينة التي ضاق جلدها بشحمها).

فعل ذلك وهو يعلم بغض أبي الطيب إياه، وأنه يخادعه ويداجيه، وهو على ذُكرٍ من أبياته الشهيرة التي سبقت مقدِمَه إليه:

‌كفى ‌بك ‌داءً أن ترى الموتَ شافياً

وحسبُ المنايا أن يَكُنَّ أمانيا

تَمَنَّيتَها لمَّا تمنَّيتَ أنْ ترى

صديقاً فأعيا أو عدوّاً مداجيا

إذا كنتَ ترضى أنْ تعيش بِذلَّةٍ

فلا تستعدنَّ الحسامَ اليمانيا

وعلى هذا فإن أبا الطيب لم تزد إقامته في أرض فارس أكثر من ثلاثة أشهر، وأنى له القرار وهو يقول :

 وَلَكِنَّ الفَتَى العَرَبِيَّ فِيها

غَريبُ الوَجهِ واليَدِ واللِّسَانِ

ملاعبُ جِنَّةٍ لو سارَ فيها

سُليمانُ لسارَ بترجُمانِ

وهذا يدلك على أن الرجل كان صادقًا مع نفسه، متصالحًا معها، لا يخفي شيئًا في قلبه إلا ويظهرُ على صفحات وجهه وفلتات لسانه، حتى لو قاده ذلك إلى حتفه، أو تسبب ذلك في هلاكه! فهو القائل:

وأيًّا شِئْتِ ‌يا ‌طُرُقِي ‌فكونى،

أذاةً أو نجاةً أو هَلاكاَ

قال “عضد الدولة”: يوشك أن تكون منيته في طريقه!!

وقال “التنوخي” صاحب “نشوار المحاضرة”:” فجعل قافية البيت «الهلاك» فهلك.

وانظر معي يا هداك الله كيف اتفق لـ “عضد الدولة” ومسامره “التنوخي” قول العبارة نفسها والتنبؤ بهلاك المتنبي!

وقد ذكر “التنوخي” نفسه في كتابه “نشوار المحاضرة” (ج4 ص250) هذه القصة: ” وكان ‌المتنبي قد وفد على عضد الدولة، وهو بشيراز، ثم صحبه إلى الأهواز، فأكرمه ووصله بثلاثة آلاف دينار، وثلاث كسى، في كلّ كسوة سبع قطع، وثلاثة أفراس، بسروج محلاة، ثم دسّ عليه من سأله: أين هذا العطاء من عطاء “سيف الدولة” ابن حمدان؟

فقال ‌المتنبي: هذا أجزل إلّا أنّه عطاء متكلّف، وكان “سيف الدولة” يعطي طبعًا.

فاغتاظ “عضد الدولة”، لمّا نقل إليه هذا، وأذن لقوم من بني ضبّة، في قتله، إذا انصرف.

هذا هو السبب الصحيح والصريح -في ما نظن- في مقتل أبي الطيب سنة 354ه ، وأما ما يروونه من فائل الرأي وعدم التحقيق في مقتله بسب القصيدة الهجائية الفاحشة التي مطلعها:

‌ما ‌أَنصَفَ ‌القَومُ ‌ضَبَّهْ

وأُمَّهُ الطُّرطُبَّهْ

رَمَوا بِرَأسِ أَبيهِ

وباكوا الأُمَّ غُلُبَّهْ

وإنَّما قُلتُ ما قُلتُ

رَحْمَةً ولا مَحَبَّهْ

وَحِيلَةً لك حَتَّى

عُذِرت لو كُنتَ تَيْبَهْ

وما عَلَيكَ مِنَ القَتلِ

إنَّما هِي ضَربَهْ

وما عَلَيكَ مِنَ الغَدْرِ،

 إنَّما هِي سُبَّهْ

وما يَشُقُّ على الكَلبِ

أَنْ يكونَ ابن كَلْبَهْ

يَلُومُ ضَبَّةَ قَومٌ

ولا يَلُومُونَ قَلبَهْ

يا أَطيَبَ النَّاسِ نَفَسًَا

وأَلبَنَ النَّاسِ رُكبَهْ

وأَخبَثَ النَّاسِ أَصلًا

في أَخبَثِ الأرضِ تُربَهْ

وأَرخَصَ النَّاسِ أُمًَّا

تَبِيعُ أَلفًا بِحَبَّهْ

…إلى آخر الفحش القبيح والخنا والفجور الذي ورد بها، ونزهنا مقالنا عن ذكره.

ورحم الله أبا الطيب إذ يقول:

‌سُبقنَا ‌إِلَى ‌الدُّنْيَا فَلَو عَاشَ أَهلُهَا

مُنِعْنَا بهَا من جَيئةٍ وذُهُوبِ

تَمَلَّكهَا الْآتِي تَملُّكَ سالبٍ

وفارَقَها الْمَاضِي فِرَاق سليبِ

ورحم الله أبا فهر إذ يقول:

‌فَدَتْكَ ‌نفوسُ ‌الحَاسِدْينَ فإنَّها

مُعَذَّبَةُ في حَضْرةٍ وَمَغِيبِ

وَفي تَعَبٍ مَنْ يَحْسُدُ الشَّمْسَ ضَوَءَها

وَيَجْهَدُ أَنْ يَأتي لها بِضَريبِ

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. تحياتي واحترامي وان القصة المذكورة عن غيلة المتنبي منطقية اكثر فالمتنبي عربي اصيل يدافع عن امة العرب وعن فرسانها وقد كان فارسا عربيا يبشر بغلبة العرب فمن المنطقي ان تغتاله يد الاعاجم او من يريد شانا عظيما على حساب العرب وان القصة التي تروى عن غلام المتنبي الذي رد عليه قتلتني ليس تهور انما تقدير انه مقتول لا محالة فقاتل حتى قتل .مشكور دكتور احمد الزبيدي على هذا المقال الذي ينصف شهيد العروبة المتنبي وفارسها الهمام وقد اوضحت وانت الباحث الاريب الذكي والمستقصي الذي يقنص الحقيقة الجلية مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ولهذه المقالات العلمية اللغوية النقدية البحثية التي تتحفنا بها .تحياتي .مهند الشريف

  2. السلام عليكم يا دكتور,
    كل يوم نفتح صفحه جديده ومعلومه جديده في حياة المتنبي وكم كان في حياته وفكره شموليا ولم يترك مجال الا وأبدع فيه وها هو اليوم ومن خلالك يا دكتور نتعرف على وجه جديد من أوجه هذا الشاعر ولا أدري ما أقول الحكمه أو المواراه مابين المدح والذم؟!!

  3. السلام عليكم،

    لا ادري من يبرز مناقب الآخر فهذه المقالات لا تتحدث فقط عن عبقرية وفراسة المتنبي بل أنها تجلي الجهود المبذولة من الدكتور أحمد لإيصال هذه المناقب للقراء. نتمنى استمرار هذه السلسلة الممتعة.

اترك رداً على د ثريا / كندا إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى