مُني الشاعرُ العبقري أحمد بن الحسين المتنبي في حياته وبعد موته بضروب من الخصومات وألوان من العداوات ؛ جعلت من تاريخه مزلَّة تزل عليها مَوَاطِئَ الْأَقْدَامِ، ولا يَهتدي فيها إلا أولو الأحلام، ولا أظن أن أحدا سدد وقارب كما سدد وقارب العلامة أبو فهر، شيخ العربية وآدابها يرحمه الله، في كتابه النفيس (المتنبي)، فقد بذل فيه أعظم الجهد في جمع مادة الكتاب، جهدٌ يدلُّ على التبحر، والتوفر، والتجرد الصحيح، والحكم الواضح الصريح؛ في طلب الحق والمعرفة، ويدل على الأمانة والصدق في طلب الحقيقة، وعلى السّبر والنفاذ في الوقوف على الحقائق وإدراكها ، متزودا بالصبر والتأني، والتلبث والتروي في معاناة البحث والتنقيب، والمقارنة والترجيح والتهذيب، بلا كلال ولا ملل. ولا أظنني قرأت كتابًا عن المتنبي-على كثرة ما قرأت- بذل فيه صاحبه من الوقت والجهد والأناة والنظر، معشار ما بذله العلامة محمود شاكر في كتابه هذا، حتى لكأنه تمثل قول الإمام الشافعي المطلبي حين باشر تأليف كتابه:
بقدْرِ الكدّ تُكتسَبُ المعالي
ومن طلب العلى سهر الليالي
ومن طلبَ العلى من غير كدٍّ
أضاع العمر في طلب المحال
قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: “بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد”.
ولا أظنني قرأت في حياة الطلب؛ كتابا في العلم والأدب، ينبغي لكل مثقف وطالب علم أن يقرأه مع مقدمته- رسالة في الطريق إلى ثقافتنا- من ألفه إلى يائه، يضارع هذا الكتاب.
وحسبه أنه نجح في أن يخرج للناس صورة المتنبي كاملة، صحيحة، صادقة، مؤيدة بالأسانيد والبراهين ، بلا تزيد ولا تنقص ولا ادعاء ولا مين ، عن أكبر شاعر في تراثنا الأدبي المجيد؛ وأعظم حكيمٍ من حكمائها والناطقين بها.
وقد ألمح المتنبي نفسه -رحمه الله- إلى شيء من هذا فقال:
أنا ابنُ مَنْ بَعْضُهُ يَفُوقُ أبا ال
باحِثِ والنَّجْلُ بْعضُ مَن نَجَلَه
يقول: أنا بعضُ والدي، لأنني منه ، وأنا فوقك أيها الباحث عن أبوتي فضلًا وكرمًا وشرفًا، فإذا والدي فوق أبيك كثيرًا لأنه قد فضله بعضه، وزاد هذه الحجة قوة على خصمه بقوله:
وإنَّما يَذْكُرُ (الجُدُود) لَهُمْ
مَنْ نَفَرُوهُ وأنْفَذُوا حِيَلَهْ
يقول أنا لا أفاخركم إلا بنفسي، وإنما يفتقر إلى المفاخرة بالآباء من لا فخر في نفسه.
إنَّ الكِذابَ الّذي أكادُ بهِ
أهونُ عِندي مِنَ الّذِي نقلهْ
يقول: إن الكذب الذي يَكيدُني به حُسادي، لا أبالي به، فهو أهون عندي من الكاذب الذي نقلهْ.
ومن ضمن ما كيدَ به الرجل؛ عدم ضبط اسمه واسم أبيه، حيث وقع خلاف كبير في ضبط ذلك.
1- فقد ذكروا أن اسمه : أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي، وذكروا مرة ثانية أن اسمه أحمد بن الحسين بن مرة بن عبدالجبار الجعفي، وذكروا مرة ثالثة أن اسمه: أحمد بن محمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي. هذا ما ذهب إليه الرواة في نسب المتنبي ، يزيد بعضهم وينقص بعضُ..!
2- وإذا كان بعض الرواة يحاول الغض من نسب المتنبي من خلال ذلك، فإن المحققين من العلماء كشفوا لنا حقيقة الأمر!
قالوا : وإنك لتقرأ ديوانه كله من ألفه إلى يائه، فلا تجده-المتنبي- إلا تياهاً يتسامى بنفسه على كل ممدوح ، ويتعالى على أبناء عصره بما فيهم الأمراء والوزراء، فإذا سكت الناس جميعًا على هذا فكيف تسكت طائفة الشعراء الذين لم يفتأ يوسعهم من تهكمه وسخريته، وهو الذي أزرى بهم عند الأمراء والوزراء، وألوى بشأنهم، وأغفل بذكرهم، وهددهم بأرزاقهم، يقول كل ذلك بكلام الواثق الذي لا يعتريه الشك، ولا يفزعه الكذب، فلو كان في نسبه شبهة مطعن لطاعن لتردد في هجومه، وظل قانعًا وراضيًا بكرومه!
وإلا فأي فخر لرجل بيته من الزجاج كما يقولون؟
وعلى كثرة مدحه لنفسه، واستعلائه بقومه وجنسه، لم ينقل لنا مَغامز غمزه بها الشعراء والأدباء. قال:
لَا بِقَوْمِي شَرُفْتُ بَلْ شُرِّفُوا بي
وَبِنَفْسِي فَخضرْتُ لَا بِجُدُوْدِي
وبهم فخرُ كلِّ من نطق الضا
دَ وعوذُ الجاني وغوثُ الطريدِ
ولو كان فيه مُغمزا أو مطعناً أو ملمزًا لما تركه أعداؤه وخصومه، فهذا مجلس سيف الدولة يموج بعشرات الشعراء، ويغص بعشرات الأدباء، وكلهم له مبغض، وكلهم له شانئ، ومع هذا تراه يرميهم جميعًا عن قوس واحدة، ويكالبهم من كلّ جانب، ويتحداهم جميعا بمعرفته أنهم يَجِدُّون في طلب العيب له فيعجزهم الطلب، لأن شرفه وعرضه بعيدان عن ذلك.
كم تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْباً فيُعجِزُكُمْ
وَيَكْرَهُ الله ما تَأتُونَ وَالكَرَمُ
ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شرَفي
أنَا الثّرَيّا وَذانِ الشّيبُ وَالهَرَمُ
وصدق المتنبي-رحمه الله- فقد قالوا: كن عصاميًا لا عظاميًا؛ ومعناه: لا تفتخر بشرف آبائك، ولكن بما يؤثر من أنبائك.
و”عصام” المشار إليه كان رجلًا سوقة ثم صار حاجبًا للنعمان ابن المنذر، فسئل عن سبب وصوله إلى هذه المنزلة العالية والرتبة الغالية فقال:
مقال ثري يفيض علمًا وتحليلاً، يعكس عناية فائقة بالتفاصيل، ونفَسًا أدبيًا أصيلًا لا يكتبه إلا من تشرب الأدب وعاشه فكرًا ووجدانًا. أبدعت دكتور أحمد في الغوص في عوالم المتنبي، وفي تقديم قراءة نقدية محكمة تنصف الرجل وتكشف كثيرًا مما غُمّ على القرّاء. قلمك وارف، وأسلوبك يجمع بين التحقيق والمتعة، فجزاك الله خيرًا، ونفع بك وبعلمك.
مقال ثري يفيض علمًا وتحليلاً، يعكس عناية فائقة بالتفاصيل، ونفَسًا أدبيًا أصيلًا لا يكتبه إلا من تشرب الأدب وعاشه فكرًا ووجدانًا. أبدعت دكتور أحمد في الغوص في عوالم المتنبي، وفي تقديم قراءة نقدية محكمة تنصف الرجل وتكشف كثيرًا مما غُمّ على القرّاء. قلمك وارف، وأسلوبك يجمع بين التحقيق والمتعة، فجزاك الله خيرًا، ونفع بك وبعلمك.
مقال رائع بالتوفيق دكتور