مقالات

وقفات مع المتنبي (29) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

شبهةٌ وردُّها

 

د. أحمد الزبيدي

 

خلصَ أبو فهر-رحمه الله- في كتابه (المتنبي) إلى استنتاجات ونتائج في حياة المتنبي ونشأته، وأنا الخص لك ذلك كله أو جله في هذا المقال.

روى الأصفهاني- ، أن المتنبي “وَقَع في صغره إلى واحدٍ يكنى أبا الفضل بالكوفة، فأضلَّه كما ضلَّ. ولا شك أن المتنبي قد لقيه وهو بالمكتب، والقصيدةُ التي قالها آنذاك، وأولها:

كُفّي أَراني وَيكِ لَومَكِ أَلوَما

هَمٌّ أَقامَ عَلى فُؤادٍ أَنجَما

كَصِفاتِ أَوحَدِنا (أَبي الفَضلِ) الَّتي

بَهَرَت فَأَنطَقَ واصِفيهِ وَأَفحَما

و القصيدة كما ترى غاية في التهافت و الانحطاط والسخف؛ لفظا ومعنى،وما ندري ما الذي جعل أبا الطيب يحرص على إبقائها، وقد أسقط الكثير من شعر صباه! وقد أعجم صاحبُنا القصيدةَ كلها.

قال شاكر: “والظن عندنا أنه لقي أبا الفضل هذا، وكان يدّعي الفلسفة، ويتبجح بذكرها،…وكان في ذلك أضحوكة يعجب منها، ويتفكه بها، وكانت صورته في ذلك كله تستقصي الضحك وتستخرجه، فقال له أبو الطيب هذه القصيدة تندرا به وعبثا وسخرية، وبيَّن إذن أن المتنبي ما أثبت هذه القصيدة في ديوانه، إلا لأنه كان يذم ربها شخصية كانت تستخرج من قلبه الحزين أقصى الضحك، وغاية الاستغراب.

والعجب للأصفهاني أن يزعم أن معتوه@ا مثل “أبي الفضل” قد هوّسَ أبا الطيب وأضلَّه ولعب بعقله ! فمن كان لفتى مثل المتنبي ذكاء وتوقدًا أن يلعب به رجلٌ كهذا!.

وظاهر أمر الأصفهاني أنه وقع إليه خبر أبي الطيب وتندره بأبي الفضل؛ فقلب الخبر من معنى الهزل إلى معنى الجد، ونسب إلى المتنبي الأخذ عنه، والاقتداء بسخفه وهذيانه، وقد قدمنا في مقدمة المقال الأول أن أبا الطيب لم يسلم من مثل هذا الظلم حيًا وميتًا.

ونحن لا ننفي عن أبي الطيب التأثر بالفلسفة، والدنيا يومئذٍ موج متلاطم بالجدل والخصام، والعلماء يومئذٍ كثيرون، وأصحاب المذاهب العربية متوافرون، وأصحاب الجدل مغرمون بإقامة الشبهة وردها بالحجة والبرهان العقلي، وكُتب  الفلسفة وعلم الكلام الفلسفة موجودة ومنتشرة، والمساجد لذلك العهد كانت عامرة بالجدل الذي لا يجدي ولا ينفع في أصول الدين وعقائده، فلسنا نشك بعدُ أن هذا الفتى المتوقد الذي قال عنه كثير مما رأوه إنه كان واسع العلم والمعرفة قد درس وبحث ونظر وجادل، وأخذ بأطراف مما سمع وقرأ وحفظ، حتى بان ذلك في شعره الأول بيانا لا خفاء فيه ،ثم قل بعد أن استحكمت قوته وغلب عليه الأصل الشعري الذي استولى على أكثر موهبته وقدرته.

نسوق إليك هنا طرفاً من ذلك مما يظهر تأثره بالفلسفة:

وَضاقَت الأَرضُ حَتّى كانَ هارِبُهُم

إِذا رَأى (غَيرَ شَيءٍ) ظَنَّهُ رَجُلا

قال الجرجاني في “الوساطة بين المتنبي وخصومه”: فبالغ حتى أحال وأفسد المعنى، وقال علي بن إسماعيل بن سيده : “أما الرؤية فلا تقع على غير شيء، لأن غير شيء ليس بمحسوس إحساس الجوهر، ولا إحساس العَرَض…”

يريد “لا شيء” فأبدل وهذه من ألفاظ المتكلِّمة، والخيال خيالهم، وقال:

يَتَرَشَّفْنَ مِنْ فَمِيْ رَشَفَاتٍ

هُنَّ فيهِ (حلاوةُ مِنَ التَّوْحيدِ ).

بسبب هذا البيت رماه أعداؤه بالزندقة، وقالوا: إنه فضَّل رشفات الثغور على توحيد الله، وما حملهم على ذلك إلا الجهلُ والحسد، وهذا من ألفاظ المتصوفة، وقال:

كَتَمتُ حُبَّكِ حَتّى مِنكِ تَكرِمَةً

ثُمَّ استَوى فيه إِسراري وَإِعلاني

 كَأَنَّهُ زادَ حَتّى فاضَ عن جَسَدي

فَصارَ سُقمي بِهِ في (جِسمِ كِتماني)

قال ابن جني: “كأنه أي كأن الكتمان، فأضمره وإن لم يجر ذكره، لأنه إذا قال كتمت دل على الكتمان، وما علمت أحدًا ذكر استتار سقمه، وأن الكتمان أخفاه غير هذا الرجل”.

والبيت الثاني، واللفظ الأخير خاصة، دليل على تأثره بالمعاني الفلسفية والصوفية، وهذه هي التي أخرجت له هذا الخيال السقيم، وقوله:

فتًى ألْفُ جُزْءٍ رَأيُهُ في زَمَانِهِ

أقلُّ جُزَيْءٍ بعضُهُ الرّأيُ أجمَعُ

وعلق الحاتمي على هذا البيت بقوله: ” غث الكلام ومستكرهه..”، فهذه قسمة حسابية!! و”الجزء” و”الجزيء” من ألفاظ المتكلمين والفلاسفة، وقلما يأتي أحدهما في الشعر مستحسنًا، وقوله:

فَصيحٌ متى يَنطِقْ تجدْ كلّ لَفظَةٍ

أُصُولَ البَرَاعاتِ الَّتي تَتَفَرّعُ

وهذا مدح فلسفي ليس بشعر، وانظر إلى جمعه “البراعة “وهي من الغرائب التي تلدها الفلسفة، وقوله:

لَمّا وَجَدتُ دَواءَ دائي عِندَها

هانَت عَلَيَّ (صِفاتُ جالينوسا)

بَشَرٌ (تَصَوَّرَ غايَةً) في آيَةٍ

تَنفي الظُنونَ (وَتُفسِدُ التَقِيّسا)

/فقوله: (صفات جالينوسا)،يريد ما يصفه جالينوس للأمراض من الدواء، وهو دليل على نظره في كتب الطب، ثم قول:( تصور غاية)، من أساليب المتفلسفة، وقوله :”تفسد التقييسا”يريد “تفسد القياس”، وهو مما يرد في كتب الكلام، ومن تتبع سائر شعره في صباه، وجد فيه آثارًا كثيرة تدل على ما قرأ أبو الطيب وما سمع من كتب الفقه والحديث والتفسير والجدل والمنطق والملل والنحل والتاريخ وسير الأوائل والأنبياء الماضين، وغير ذلك مما كان من علوم أهل عصره، وقد أحاط بكثير من ذلك واستوعبه ونظر فيه نظر المتفكر المتدبر، ولولا ذلك لما ولع بذكره في شعره، ولما دار على غير إرادة منه في ما نظن.

وقد كان في هذا القسم من شعره يلجأ إلى الأساليب الفلسفية في استخراج المعاني وتوليدها، وكان يكثر من التقسيم الفلسفي، والتوجيه المنطقي وغيره من ألوان كلام المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة والمتزندقة أيضا، حتى فسدت معاني شعره، فلذلك كان أكثر ما تجد من ساقطه ومرذوله؛ مما عابه عليه النقاد ، وخاصمه به المتعصبون عليه؛ هو من هذا القسم الذي قاله في صباه إلى أطراف سنة ” 328 “على وجه التقريب لا التحقيق .

وهذا الكلام  -بلا شك- يعدُّ سبقًا علميًا رائدًا في دراسة المتنبي وحياته اعتمادًا على شعره، فيحسب لأبي فهر، فهو الوحيد ممن درس المتنبي قديما وحديثا استطاع أن يستنبطه بذكائه وعبقريته.

ومن جميل استنباطاته أيضًا أن المتنبي ظل يختلف إلى المكتب إلى سنة “317” تقريبًا، وكانت سنة أربع عشرة، وأن ذكاءه في هذا السن تضارع درجة من أناف على العشرين، وحسبك أنه قال الشعر صبيًا كما ذكر المؤرخون، وأن ذكاءه وحسه المرهف مما ورثه عن جدته- وقد مر معنا طرفًا من أخبارها – ولذلك كان شعره أروع شعر في العربية وغيرها، وكان محببًا إلى أهل عصره متداولًا سائرًا بينهم ،لأنه كان يأخذ بنفسه المرهفة من شعور الناس وآلامهم وأحداثهم، ويبني بما يأخذ بيوت شعره، وروائع بلاغاته.

وهكذا ظل الفتى يطلب العلم ويستزيد منه، ويشتد في الطلب مصممًا معتزمًا أمرًا في نفسه أن يبلغه أو يهلك دونه، ثم انفتحت لعينه الدنيا برذائلها وفضائلها وحكمتها وترهاتها، وجدها وهزلها، فاضطربت نفسه وطفقت تتلمس الأشياء هنا وثمَّ، لتستقر على ما ترضى به وتأنس إليه.

على أن الكوفة- التي منشأ أبي الطيب- ابتليت بجيوش القرامطة مرات وفعلت بأهلها الأفاعيل، وكانت الدولة العربية في شغل عن الكوفة بانقسامها شيعً يأكل بعضهم بعضا، وظهرت شوكة الأعاجم، وكانوا أصحاب حيلة ودهاء، فأوقعوا بين المسلمين ، حتى صارت الدولة العربية المترامية الأطراف في ثورة دائمة لا تفتر، ولا تنقطع الحروب في ناحية إلا اتقدت نيرانها في أخرى. وانقسمت دويلات، ولم يبق للخليفة إلا الاسمُ الكريم يحمله مرغمًا ويضعه مرغمًا لا إرادة له، حتى قال شاعرهم:

خليفة في قفص

بين وصيف وبغا

يقول ما قالَا لَهُ

كما تقول الببغا

وهذا ما عبر عنه د. محمد نجم واصفًا حالة المتنبي: “وحزنه العميق على ما آل إليه السلطان العربي الممثل في الخليفة، إذ أصبح خرقة بالية ورمزاً دينياً واهياً وانتقل من يدي أبنائه إلى أيدي المتآمرين من الأتراك وأتباعهم”

وقد رأى أبو الطيب ذلك بأم عينه حتى قال:

وإنما الناس بالملوك وما

تفلح عُربٌ ملوكها عجم

 ولا شك أن إحساس أبي الطيب قد ألم بذلك كله وفصَّله ونقده، وعرف الداء الذي كمن في بدن العربية واستل قوتها وقتل روحها، فازداد إلى ثورته ثورةً وإلى حقده حقدًا، وكانت أخلاق الأمة قد اتضعت وفشلت بما تداخلها من أخلاط الأمم الذين لا أصل لهم يرجعون إليه، ولا خلق عندهم يستذمون به، وفسدت العامة من أهل المدن فسادًا كبيرًا، واضطربت في أيدي الناس حبالُ الأخلاق، وصاروا لا يقيسون الناس إلا بمقياس الظاهر، ولا يزنوهم إلا بميزان المال، فبطلت موازين الرجال التي يوزنون بها من العقل والحكمة والعلم والرجولة وكرم العنصر. فكان نظر الفتى إلى هذا، مما ألقى الحطب على النار التي في صدره، فبغضت إليه سَفسافُ الأخلاق وتعلق بمعاليها، وزين في قلبه أن يكون هو الثائر الذي يرد هؤلاء الأهمال والهمج إلى مردٍّ، ويأوي بهم إلى مأوى، ويقوم عليهم قيام الراعي حتى يخلصوا من الشر، ويستمسكوا بالعروة الوثقى، ويفيئوا إلى الخلق الكريم الذي لا يبخس الناس حقهم، ولا يظلمهم، ولا يدنيهم، بل يعدل بينهم بالقسط ويرفعهم عن الدنية، ويجعلهم قوة مستحكمة ترد عدوان العادي وبغي الباغي، ليصلوا بذلك إلى المجد والسلطان.

اصطدم هذا الخيال الذي أراد أن يحققه بحقيقة ما هو فيه من الفقر والخفاء، والبعد عن مساعي المجد، وامتناع نفسه عن إعطاء الطاعة للأخلاق التي كان يصل بها أهل ذلك العصر إلى ما يريدون من المكر السيئ  والدسيس وما إليهما من حيل الخبيثين.

سبب حرصه على المال

ذكروا أن أبا الطيب قال:  “أذكر وقد وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد، فأخذت خمسة دراهم في جانب منديلي، وخرجت أمشي في أسواق بغداد، فمررت بصاحب دُكَّان يبيع الفاكهةَ، فاستحسنتها، ونويت أشتريَها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه وقلت:

بكم تبيع هذه الخمسة بطاطيخ؟

 فقال: بغير اكتراث: اذهب، فليس هذا من أكلك،  فتماسكت معه وقلت: أيها الرجل دع ما يغيظ واقصد الثمن،  فقال: ثمنها عشرة دراهم، فلِشدة ما جبهني به، ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائراً، ودفعت له خمسة دراهم فلم يقبل… وإذا بشيخ من التجار قد خرج من الخان ذاهباً إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من دكانه، ودعا له وقال:

يا مولاي! هذا بطيخ باكُور، بإجازتك أحمله إلى منزلك؟

 فقال الشيخ: ويحك! بكم هذا؟

قال: بخمسة دراهم..

 فقال: بل بدرهمين…

 فباعه الخمسة بدرهمين، وحملها إلى داره، وعاد إلى دكانه مسروراً بما فعل،  فقلت له: يا هذا! ما رأيتُ أعجب من جهلك؟ اسْتَمْتَ عليَّ في هذا البطيخ، وفعلت فعلتك التي فعلت، وكنت قد أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم، فبعته بدرهمين محمولًا!!  فقال: اسكت، هذا يملك مائة ألف دينار!

قال المتنبي: فعلمتُ أن الناس لا يُكرمون أحداً إكرامَهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار، وأنا لا أزال على ما تراه حتى أسمع الناس يقولون: إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار”.

ما قاله أبو الطيب حق وما زلنا إلى يوم الناس هذا نسمعه ونراه، وقد سجله الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بقوله:

رأيت الناس قد مالوا

 إلى من عنده مـــالٌ

ومن لا عنده مـــــالُ

  فعنه الناس قد مـالوا

رأيت الناس قد ذهبوا

 إلى من عنده ذهـب

ومن لا عنده ذهــب ُ

فعنه الناس قد ذهبوا

رأيت الناس منفضة

إلى من عنده فضة

ومن لا عنده فضة

 فعنه الناس منـــفضة

قال أبو فهر: “فبهذا وأمثاله من أعمال الحياة لذلك العهد اصطدم قلب الفتى، فاستقر على أن يجد لما يريده مخرجا، غير العلم والعقل والنصيحة والأخذ باللين والملاطفة، وازداد بذلك للناس احتقارًا، ولأعمالهم بغضًا، وحقر العظماء الذين لايَعظُمون في أعين الناس إلا بالمال ،وجعل يدير الرأي حتى خلص إلى العزم: أن يطلب المال، لا ليجمعه ويفرح به، ولكن لينال به ما يريد مما ينطوي عليه قلبه من حقد على قوم، وما يدور فيه من معاني الإصلاح ،وما يبغي من إيقاظ الهمة العربية للاستيلاء على السلطان المضيّع، والمجد المفقود”.

وفي خاتمة هذا المقال يَضحُ لنا مما سبق أن المتنبي -رحمه الله- كان صاحب هدف نبيل، وأصل أثيل، كما كان صاحب رسالة سامية؛ تمثلت بالانتصار للغته العربية، وثقافته الإسلامية، قيماً وأصلاً وأخلاقاً وحضارة، وقد تفطن لهذا العلامة الفرنسي د. أندريه مايكل حين قال عن المتنبي : «كان في ذلك الزمان صوت يرتفع من بين المناقشات والاختلافات كان صاحبه المتنبي… ما أراد المتنبي إلا أن يطالب للعروبة ولقيمها بالمقام الذي كان مقامها من قبل”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. هذا المقال لا يقدّم المتنبي كشاعر فقط، بل كعقلٍ متوثّب ووعيٍ فلسفي سابق لعصره. لفتني كيف كشف الدكتور أحمد عن طبقات المعنى وراء كلمات تبدو لأول وهلة مجرد شعر، لكنها في الحقيقة رؤية متكاملة للحياة، للذات، ولعلاقة الإنسان بالعالم من حوله. مقال يوسّع الأفق ويستفز الفكر، ويُعيد تعريف المتنبي في عقول قرّائه. دمتم بخير

  2. تحياتي واحترامي وان الذكي الاريب الباحث الاديب يعرف بكتاباته وتحاليليله ونقده الرائع وهذا هو المثال دكتور احمد الزبيدي الذي يعرف كيف يفصل ويدقق ويعطي النتائج بشكل علمي ممحص .الله يعطيك العافية وزادك الله علما وانت مثالنا بين الادباء سلمت يمينك مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ولشخصيتك الادبية الرفيعة القدر والمقام العالي تحياتي .مهند الشريف

اترك رداً على مهند الشريف إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى